ترجمة وتحرير: نون بوست
حيثما توجد دول، هناك معاهدات. ومنذ العصور القديمة، اكتست هذه المعاهدات أهمية بالغة بالنسبة لفن الحكم والدبلوماسية. ونظرًا لأنها عبارة عن اتفاقيات بين دول مختلفة، وغالبًا ما يقع إبرامها إثر نهاية النزاعات، تعيد المعاهدات تشكيل الحدود والاقتصادات والتحالفات والعلاقات الدولية. وفيما يلي خمس معاهدات بارزة مثّلت دروسا تاريخية مهمة.
معاهدة تورديسيلاس (1494)
أجرت البابوية مفاوضات على معاهدة تورديسيلاس بين البرتغال وإسبانيا (التي كانت أحد أجزاء مملكة قشتالة) مع الأراضي المقسّمة والمكتشفة حديثا خارج أوروبا بين البلدين على طول الخط الجغرافي عبر ما يعرف الآن بشرقيّ البرازيل. ونتيجة لذلك، منح الإسبان أولوية لاستكشاف واستعمار الأمريكيتين، مما أدى إلى سيطرتهم على جزء كبير من أمريكا الوسطى والجنوبية، بالإضافة إلى البرازيل التي لم يقع اكتشافها بعد ووقعت لاحقا تحت سيطرة البرتغال. في المقابل، تمكنت البرتغال من استكشاف الشرق. وتحت قيادة فاسكو دا غاما في سنة 1498، نجحت في إثبات أنه يُمكن الإبحار نحو الهند انطلاقا من أوروبا.
في الآن ذاته، خدمت هذه المعاهدة مصالح البرتغال، حيث أنها أضحت غنية بفضل التجارة بين أوروبا وآسيا. ومع ذلك، على المدى الطويل، أقصت كل من إنجلترا وهولندا البرتغال من هذه التجارة. وفيما يتعلق بالسيطرة على الأراضي، كان من الصعب للغاية على البرتغال آنذاك الاستيلاء على أراضي تقع في دول منظمة في آسيا. من جهة أخرى، اكتسبت إسبانيا إمبراطورية ضخمة آهلة بالسكان في أمريكا اللاتينية، واكتشفت فيما بعد ثروة معدنية هائلة في تلك الأراضي. في نهاية المطاف، اختارت القوى الأخرى تجاهل هذه المعاهدة، التي استثنتهم، بما في ذلك إنجلترا وهولندا وفرنسا.
صلح وستفاليا (1648)
يتألف صلح وستفاليا من معاهدتين، ألا وهما معاهدة مونستر ومعاهدة أوسنابروك، ووقع إبرامه لوضع حد لحرب الثلاثين سنة بين الدول الكاثوليكية والبروتستانتية، على الرغم من أن دولًا، على غرار فرنسا، لعبت على كلا الجانبين لتحقيق مكاسب خبيثة. وفي حين أن صلح وستفاليا أثّر أساسا على أوروبا الغربية والوسطى، إلا أنه كان له في نهاية المطاف عواقب عالمية نظرا لمساهمتها في إرساء بعض أهم مبادئ النظام الدولي.
في الحقيقة، نتج عن المعاهدات الموقعة في إطار صلح ويستفاليا عن وضع الخصائص الأساسية للدولة القومية، حيث أنشأت المعاهدتين فكرة السيادة الإقليمية، التي بموجبها تكون الدولة الطرف الوحيد المسؤول عن القانون والنظام والضرائب والإشراف على السكان في أراضيها. بالإضافة إلى ذلك، وقع الاعتراف بحق كل دولة في تنظيم إجراءاتها الدينية والسياسية الداخلية، وهو ما يُعتبر اليوم معايير عالمية.
معاهدة باريس (1783)
ما زالت معاهدة باريس (1783)، وهي أقدم معاهدة وقّعت عليها الولايات المتحدة، سارية المفعول إلى اليوم. ويُذكر أن هذه المعاهدة وضعت حدّا للثورة الأمريكية وساهمت في تأسيس الولايات المتحدة. ولهذا السبب، تُعتبر أحد أهم المعاهدات في التاريخ. ولم تؤسس هذه المعاهدة دولة الولايات المتحدة فحسب، إنما نجحت في ذلك بشروط تتوافق مع المصالح الأمريكية.
كانت السلطات الفرنسية تأمل في أن تظل الولايات المتحدة دولة صغيرة وضعيفة تمتد حدودها بين المحيط الأطلسي وأبالاشيا، فضلا عن إبقاء سيطرة البريطانيين على الأراضي الواقعة شمال نهر أوهايو، وسيطرة الإسبان على دولة عازلة في الجنوب
في الواقع، لعب الفريق الأمريكي الذي أجرى المفاوضات، بقيادة جون جاي وبنجامين فرانكلين وجون آدمز، دورا في غاية الأهمية في هذه المعاهدة. وتجدر الإشارة إلى أن حلفاء الولايات المتحدة، على غرار فرنسا وإسبانيا، أعربوا عن عدم رغبتهم في أن تؤسس الولايات المتحدة صفقة سلام منفصلة. ومع ذلك، استغل الأمريكيون تواصل القتال في منطقة الكاريبي وجبل طارق، حيث سعوا للتواصل مباشرة مع لندن للحصول على صفقة تخدم مصالحهم.
من جهتها، كانت السلطات الفرنسية تأمل في أن تظل الولايات المتحدة دولة صغيرة وضعيفة تمتد حدودها بين المحيط الأطلسي وأبالاشيا، فضلا عن إبقاء سيطرة البريطانيين على الأراضي الواقعة شمال نهر أوهايو، وسيطرة الإسبان على دولة عازلة في الجنوب. بدلاً من ذلك، قرّر البريطانيون أن جعلها دولة قوية وناجحة اقتصاديًا ستخدم مصالحهم على حساب المصالح الفرنسية وكانوا مقتنعين بإعطاء الدولة الجديدة كل الأراضي وصولا إلى نهر المسيسيبي فضلا عن منحها حقوق الصيد في كندا. وكنتيجة لذلك، تمكّنت الولايات المتحدة من التوسع لاحقًا غربًا لتصبح قوة قارية كبرى.
مؤتمر فيينا (1814-1815)
عُقد مؤتمر فيينا في نهاية الحروب النابليونية، حيث أعيد تشكيل أوروبا بشكل كبير. وعلاوة على ذلك، تمّ التوقيع على عدّة معاهدات خلال هذا المؤتمر، كان أهمّها معاهدة باريس لسنة 1814. ومع ذلك، حظي مؤتمر فيينا باهتمام كبير بسبب ما لاقاه من نجاح، في حين انتقده بعض المؤرخين في وقت لاحق واعتبروه رجعيّا. بالإضافة إلى ذلك، ساهم المؤتمر في منع اندلاع حرب أوروبية كبرى منذ 100 عام، ولكن لسائل أن يسأل كيف حصل ذلك؟
ساهم المؤتمر والمعاهدات المنبثقة عنه في الحدّ من مستوى العقوبة المفروضة على الأطراف الخاسرة
في البداية، كانت جميع الأطراف، بمن فيهم فرنسا المهزومة، جزءا من المفاوضات، حيث يعود ذلك إلى الصيغة غير الرسمية للمؤتمر الذي سمح لمختلف الأحزاب، التي يقودها في الكثير من الأحيان دبلوماسيون بارعون مثل تاليران (فرنسا) ومترنيش (النمسا)، للاجتماع ومناقشة مواقفهم حتّى يتم التوصل إلى حل وسط. وفي حين أن هذا المؤتمر لم يضمن سعادة الجميع، إلا أنه على الأقل كان كفيلا بتأكيد أن لا أحد كان غير سعيد بالكامل في خضم السباق الملتوي. وعلى سبيل المثال، خسرت السويد فنلندا لصالح روسيا ولكنّها ظفرت بالنرويج أمام الدنمارك. في المقابل، انتزعت الدنمارك بوميرانيا السّويدية ودوقية لاونبورغ من هانوفر الألمانية، حيث قدّمت بوميرانيا السّويدية لبروسيا واحتفظت بالمدينة الثانية لنفسها. علاوة على ذلك، منحت بروسيا منطقة فريزلاند الشرقية لهانوفر كتعويض.
في وقت لاحق، ساهم المؤتمر والمعاهدات المنبثقة عنه في الحدّ من مستوى العقوبة المفروضة على الأطراف الخاسرة. علاوة على ذلك، خسرت فرنسا الأراضي التي تحصل عليها نابليون لكنّها حافظت على حدودها ما قبل الحرب، حيث كانت تعامل من قبل القوى الأخرى على أنها أحد ضحايا نابليون. كما سُمح للبلدان التي انحازت إلى فرنسا، مثل ساكسونيا، بالحفاظ على استقلالها على الرغم من الدعوات التي تشير إلى عكس ذلك. وخلافا لما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لم تُبذل أية محاولات لإلغاء وجود بلدان بأكملها أو تغيير ترتيباتها السياسية الداخلية، وهو ما ساهم في تحقيق استقرار هائل. وعلى صعيد آخر، كان الأمر المؤسف الوحيد يكمن في حقيقة أنه بسبب السباق الملتوي في المؤتمر، لم يُعاد تأسيس بولندا المستقلّة.
معاهدة فرساي (1919)
في نهاية الحرب العالمية الأولى، وقّع الحلفاء الغربيون وألمانيا معاهدة فرساي حيث كان التعامل مع هذه المعاهدة متناقضا تماما مع الطريقة الشاملة التي نُظمت بها أوروبا في الفترة التي تلت نابليون، حيث تم إملاء الإصلاحات بدل التفاوض بشأنها. وبالإضافة إلى معاهدة فرساي، وقّعت النمسا والمجر وبلغاريا وبقيّة الإمبراطورية العثمانية معاهدات بصيغة خاطئة.
قسّمت المعاهدات المتعلقة بسيفر ولوزان، الإمبراطورية العثمانية، ما ترتّبت عنه عواقب لا تُحمد عقباها في الشرق الأوسط، خاصة في ظل هزيمة الأرمن والأكراد
أما ألمانيا، فقد عوقبت بخسارة الأراضي إلى جانب تقديم تعويضات تعجيزية إلى حد كبير بناء على طلب فرنسا الانتقامي. وعلى الرغم من كونها فكرة سيئة، إلا أن الحلفاء واصلوا التقدّم على نفس المنوال وذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث قاموا بتفكيك ألمانيا بدلا من السماح لأكبر دولة في أوروبا من حيث التعداد السكاني بأن تثور غضبا. كما أن النقاط الأربع عشر التي وضعها الرئيس وودرو ويلسون أدّت إلى إنشاء دول قومية جديدة صغيرة ضعيفة ومختلفة، لا يمكنها الدفاع عن نفسها على المدى البعيد ضدّ القوى الضارية على غرار الاتحاد السوفياتي وألمانيا. فضلا عن ذلك، خلق التدّخل في الهياكل السياسية الدّاخلية للقوى المهزومة مثل ألمانيا، الظروف الملائمة لحدوث الاضطرابات، مما أدّى في نهاية المطاف إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
بالإضافة إلى ذلك، قسّمت المعاهدات المتعلقة بسيفر ولوزان، الإمبراطورية العثمانية، ما ترتّبت عنه عواقب لا تُحمد عقباها في الشرق الأوسط، خاصة في ظل هزيمة الأرمن والأكراد، حيث وجد معظم العرب أنفسهم تحت الحكم الاستعماري الفرنسي والبريطاني في دول مصطنعة مثل سوريا والعراق.
المصدر: ناشيونال إنترست