“ننتظر الدعم المعنوي من الدول العربية، ونرحب بالدعم المالي غير المشروط دون التدخل في شؤوننا، ونظام الرئيس المعزول عمر البشير ارتكب أخطاءً فادحة منها: رهن حرية السودان وقراراته للآخرين، وتسبب في عزلتنا الدولية”، كشفت تلك التصريحات الصادرة عن وزيرة الخارجية السودانية في الحكومة الجديدة، أسماء محمد عبد الله، بعد ساعات قليلة من أدائها للقسم الدستوري، النقاب عن الملامح العامة للسياسة الخارجية لسودان ما بعد الثورة.
تصريحات يبدو في ظاهرها الوضوح التام في الرؤية غير أن ما خفي منها أعظم، إذ أثارت الكثير من التكهنات والتفسيرات بشأن ما تحمله من رسائل لبعض القوى الخارجية على رأسها دول الخليج التي كان لها النصيب الأكبر في ممارسة الضغط على قرار الخرطوم إبان عهد البشير عبر الابتزاز المالي والسياسي أحيانًا، مستغلة في ذلك الوضع الاقتصادي المتأزم للبلاد.
منحنى التعاطي الخليجي لا سيما المحور الذي تقوده المملكة العربية السعودية مع الحراك الثوري منذ بدايته أعطى الكثير من الانطباعات عن التوجه المأمول لتلك النظم الساعية إلى إجهاض أي تحرك ثوري من شأنه أن يفرض كلمة الشارع على الجميع ويجنب الحكم العسكري لصالح الثورة المدنية.
الخيوط العامة للسياسة الخارجية التي أبداها المجلس العسكري خلال الأشهر الأربع التي تولى فيها زمام الأمور بعد عزل البشير في أبريل الماضي تشي إلى تقارب واضح مع العواصم الثلاثة (الرياض، أبو ظبي، القاهرة) وهو ما تجسده الزيارات المكوكية لقطبي المجلس: الرئيس عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي”، لعواصم هذا المحور، والدعم المعاكس، المادي واللوجستي، الذي تلقاه منها.
ومع إجهاض مخطط الإبقاء على العسكر لقيادة المرحلة الانتقالية وتشكيل حكومة وطنية معظمها من التيار المدني، وتحقيق الثورة أولى خطواتها نحو ترسيخ أركانها، تغيرت الكثير من الملامح في خريطة السودان الخارجية بصورة ملموسة، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن قدرة النظام الجديد على الصمود أمام الإغراءات الخليجية التي بلا شك ستكون حاضرة بقوة خلال الفترة المقبلة.
ومن جانب آخر، طبيعة العلاقات مع المحور المضاد، التركي القطري، خاصة بعدما فشلت محاولات إثنائهما عن الساحة، وهو ما عكسه مشهد توقيع الاتفاق والإعلان الدستوري في الخرطوم.
علاقات متوازنة
الحكومة الجديدة أرست قواعد عامة لتوجهاتها الخارجية خلال الفترة المقبلة، وهو ما أكدته وزير الخارجية، حين أكدت أن علاقات بلادها مع الدول الشقيقة والصديقة ودول الجوار الإفريقي على رأس أولويات المرحلة، لافتة أن السياسة الجديدة ستقوم على ركيزة أساسية هي مراعاة مصالح السودان.
وأضافت “سنحافظ على علاقات خارجية متوازنة وليس من مصلحة السودان الانحياز لمحور على حساب آخر”، منوهة أنه لا إقصاء لأي تيار في الخارجية السودانية والمعيار الأساسي للعمل هو الكفاءة، وإزالة اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب من أهم ملفات الخارجية الشهور القادمة، من أجل فتح الباب أمام نهضة اقتصادية ومشاريع جديدة في السودان.
أما فيما يتعلق بمستقبل الوجود العسكري السوداني في اليمن، كشفت أن الأوضاع الإنسانية في اليمن مؤسفة، و”مسألة عودة قواتنا تأتي بالتشاور مع الجهات العسكرية والأمنية السودانية”، مستبعدة في الوقت ذاته إقامة أي علاقات مع “إسرائيل”، موضحة “الوقت الراهن لا يتحمل تطبيع العلاقات بين الخرطوم وتل أبيب”.
مخاوف من التدخل الإقليمي
التشكيلة الحكومية الجديدة التي لا تضم إلا عنصرين عسكريين فقط من إجمالي 18 عضوًا تعد خطوة جديدة تعزز التكهنات بكون السودان يسير في طريق القطع مع نظام عمر البشير، غير أنها في الوقت ذاته لن تستمر دون مخاوف من تدخل إقليمي يهوى بالمكاسب القليلة المتحققة منذ سقوط النظام السابق، خاصةً مع صراع المصالح الذي يجمع اثنين من أقطاب المنطقة: السعودية وحلفائها من جهة، وقطر وتركيا من جهة أخرى.
رغم إخضاع البشير قرار بلاده لمن يدفع أكثر خلال المرحلة الأخيرة من حياته التي تمخض عنها الزج بقوات من الجيش السوداني لدعم قوات التحالف في اليمن، كسبًا لأموال الخليج وما أثير بشان وساطة لرفع اسم بلاده من قائمة الإرهاب، وهي الخطوة التي كان لها مفعول السحر في تسارع وتيرة الاحتقان الشعبي ضده، فإنه احتفظ بمصالح قوية مع الطرفين المتصارعين حتى “اقتلاعه” من الحكم، فقد كان يجمع بين الخلفيتين الإسلامية والعسكرية، ما جعله “صديقًا للمتخاصمين”، فقد كان يتعامل بمنطق البائع الذي يوّفر كل ما يحتاجه المشتري، وفق ما ذهب إليه نشطاء سودانيون.
حميدتي مع ولي العهد السعودي خلال زيارته للرياض
أولاً: المحور السعودي
بعد ساعات قليلة من إحكام المجلس العسكري قبضته على مقاليد الأمور وقع الاختيار على العاصمة السعودية الرياض لزيارة حميدتي، ثم أبو ظبي مرورًا بالقاهرة، جولة التقى فيها الجنرال بولي العهد السعودي وحاكم إمارة دبي والرئيس المصري، وهو ما اعتبره البعض، الكشف مبكرًا عن هوية المجلس الساعي إلى الارتماء في أحضان هذا المحور الذي لم يبخل عليه بالدعم على مختلف الأصعدة.
تتقاطع مصالح عسكر السودان ومحور الثورات المضادة في العديد من الخيوط، ولعل هذا ما يفسر حجم الانسجام بينهم منذ اشتعال الجذوة الأولى للثورة في ديسمبر الماضي، حيث سعت العواصم الثلاثة إلى تقديم كل ما يمكن تقديمه لأجل تمكين المؤسسة العسكرية السودانية من الاستمرار في الهيمنة على مفاصل الدولة.
هذا بخلاف المنح التي وهبتها الدولتان الخليجيتان للمجلس العسكري، إذ أعلنت الرياض رسميًا حزمة مساعدات مشتركة بينها وبين أبو ظبي، موجهة إلى السودان، بقيمة ثلاثة مليارات دولار أمريكي، منها 500 مليون كوديعة في البنك المركزي السوداني، كما دعت أبو ظبي رئيس الوزراء السوداني إلى زيارتها.
الشارع السوداني ما عاد ليقبل مرة أخرى بمنطق المحاصصة في التوجهات الخارجية، فالجميع أمام الخرطوم سواء، ومصلحة الدولة هي من تحدد بوصلتها
الانحياز الكامل لهذا المحور لم يعد بالشكل السابق بعد تشكيل الحكومة الجديدة، فالأمور لم تعد في ملعب العسكر وحدهم، هذا ما أشارت إليه، أميرة ناصر الكاتبة الصحفية المتخصصة في الملف السوداني، التي أشارت إلى أن الأوضاع تغيرت بصورة نسفت كل المعطيات القديمة.
ناصر أشارت في حديثها لـ”نون بوست” أن احتواء حكومة عبد الله حمدوك التي أدت اليمين الدستورية مؤخرًا، على شق آخر مدني تتقاطع مصالحه مع دول أخرى كقطر ودول الاتحاد الأوروبي، لن يتيح للمجلس العسكري ذلك الانقياد الأعمى للرياض وحلفائها، وإن كان هذا لا يعني القطيعة مع هذا المحور.
وأضافت الكاتبة المتخصصة في الشأن السوداني أن المصلحة السودانية تقتضي الاستمرار في التعامل مع الدول الثلاثة في سياق الروابط الاقتصادية والسياسية، في ظل الوقوف على أرضية واحدة ومن ذات المستوى، بعيدًا عن النظرة الدونية التي كانت دومًا تتعالى بها تلك الدول في وقت سابق.
ثانيًا: المحور التركي القطري
وعلى الجانب الآخر، ورغم الضغوط الاقتصادية والسياسية التي بذلها المحور السعودي لإقصاء وتهميش المحور التركي القطري، التي كان من نتائجها إغلاق مكتب قناة الجزيرة في الخرطوم، والترويج الإعلامي للتراجع عن اتفاقية تطوير ميناء وجزيرة سواكن، مستخدمين في ذلك شركات متخصصة في السوشيال ميديا للتأثير على الشارع السوداني، فإن تلك المحاولات باءت جميعها بالفشل.
مفاجآت من العيار الثقيل تلقاها المحور المناهض لثورات الربيع العربي قبيل ساعات قليلة من توقيع الاتفاق في 17 من أغسطس/آب الماضي، الأولى حين تقرر إعادة فتح مكتب قناة الجزيرة مرة أخرى، أما الثانية فتمثلت في دعوة تركيا للمشاركة في مراسم التوقيع النهائي، ولم ينته الأمر عند هذا الحد بل استقبل رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش الذي وصل الخرطوم قبل التوقيع النهائي بيوم، إضافة إلى حضور وزير الدولة للشؤون الخارجية سعد المريخي، ممثلاً عن قطر للمشاركة في مراسم التوقيع.
هل تصمد الخرطوم أمام الإغراءات المالية، الخليجية على وجه التحديد، في هذه الظرفية الاقتصادية الحساسة التي تواجهها البلاد؟
السودانيون الآن في أمس الحاجة لعلاقات أكثر نضجًا مع الدوحة وأنقرة، وفق ما ذهب إليه الناشط السوداني أحمد فتح الباب الذي أكد أن البلاد الآن باتت على مشارف صفحة جديدة في علاقاتها مع القوى الدولية والإقليمية، بعيدة تمامًا عما كانت عليه في السابق.
فتح الباب الذي شارك في الحراك الثوري منذ بدايته في حديثه لـ”نون بوست” أكد أن الشارع السوداني ما عاد ليقبل مرة أخرى بمنطق المحاصصة في التوجهات الخارجية، فالجميع أمام الخرطوم سواء، ومصلحة الدولة هي من تحدد بوصلتها، لافتًا إلى أن المال وحده ليس الراسم لملامح السياسة الخارجية للدولة كما كان في عهد البشير، على حد قوله.
واختتم الناشط السوداني حديثه بأن بلاده اليوم باتت مطالبه باستمرار علاقتها مع تركيا وقطر في إطار سياسة متوازنة تنأى بالسودان الجديد عن الاستقطاب الإقليمي والدولي، فالخرطوم في حاجة إلى تكرار نهجها خلال فترة السبعينيات، عندما بنت علاقاتها مع الخارج على أساس التعامل المتساوي والمصلحة المتبادلة، وليس المصالح الشخصية.
جولة جاوييش أوغلو في الخرطوم قبيل مشاركته في مراسم توقيع الاتفاق السياسي
ماذا بعد؟
مع سقوط البشير بتركته السياسية المتناقضة في كثير من زواياها وفرض الثورة كلمتها ولو بصورة غير مكتملة، بات الرهان الأول الآن على الشارع السوداني الذي من المقرر أن يفرض أجنداته الوطنية على القوى العسكرية والمدنية، وهي سابقة من نوعها في التاريخ السياسي للبلاد التي باتت تعتمد على شريحة من الشباب اليقظ الذي يجب أن يقود دفة القرار السياسي ويجعله بعيدًا عن خدمة أي مشروع إقليمي كان أو دولي.
غير أن الأمور من الصعب أن تسير وفق هذا السيناريو الوردي إلى حد ما، فعملية التفاوض السياسي في الوقت الراهن من المستحيل أن تنأى بنفسها عن القوى الإقليمية وأجنداتها السودانية التي تعد بوابة مهمة ومدخلاً إستراتيجيًا لأهداف أخرى قارية وإقليمية، وهو ما يجب أن يعيه القائمون على أمور البلاد في المرحلة الانتقالية.
وبين الأجندات الخارجية هنا وهناك، يجب أن ترسخ القيادة الجديدة أولى أسس سياساتها الخارجية القائمة على الرفض التام لأي تدخل في شؤونها الداخلية، وذلك وفق مراقبين، هدف ربما يتقدم على أهداف أخرى إستراتيجية، تجنبًا للولوج في مستنقع التبعية السياسية والاقتصادية مرة أخرى، وهو الفخ الذي سقط فيه البشير خلال أعوامه الأخيرة على وجه التحديد وأسرعت بسقوطه وتراجع سمعة بلاده وشعبها عالميًا.
تحد جديد ربما يواجهه حمدوك ورفاقه في الحكومة الجديدة، فهل تصمد الخرطوم أمام الإغراءات المالية، الخليجية على وجه التحديد، في هذه الظرفية الاقتصادية الحساسة التي تواجهها البلاد؟ سؤال من المبكر الإجابة عنه، غير أن الأيام القادمة ربما تميط اللثام رويدًا رويدًا عن الكثير من التفاصيل التي ستثبت حينها، هل تسير الثورة في طريقها الصحيح كما يتوقع البعض أم ستواجه نفس السيناريو الذي واجهته الدول المجاورة على رأسها مصر على سبيل المثال.