ترجمة وتحرير نون بوست
ندد بائعان للكتب في القدس باعتقالهما من قبل الشرطة الإسرائيلية هذا الأسبوع، بعد اتهامهما بنشر كتب تسببت في “الإخلال بالنظام العام”. وأكد المحتجزان أن الواقعة تعكس حملة متزايدة تستهدف الثقافة الفلسطينية وحرية التعبير.
وقضى محمود منى وابن شقيقه أحمد، وهما من عائلة تدير “المكتبة التعليمية” منذ أكثر من 40 عامًا، يومين رهن الاعتقال، قبل فرض الإقامة الجبرية عليهما حتى يوم الأحد، رغم غياب أي أدلة تدعم التهم الموجهة إليهما.
وشنت الشرطة الإسرائيلية، بملابس مدنية، مداهمة على فرعين لمكتبة في شارع صلاح الدين بالقدس الشرقية، عند الساعة الثالثة من بعد ظهر الأحد الماضي. واستهدفت المداهمة فرعًا متخصصًا في بيع الكتب العربية، وآخر يضم أعمالًا أدبية وأكاديمية بالإنجليزية ولغات أجنبية أخرى.
وقال أحمد منى (33 عامًا): “بدأوا بتفتيش الكتب، وإذا لم تكن تهمهم، كانوا يلقونها على الأرض”.
وأثارت هذه المداهمة موجة غضب دولية، إذ تُعد “المكتبة التعليمية” مؤسسة ثقافية بارزة على مدى أجيال، حيث توفر الكتب الأكاديمية والتاريخية والسياسية والروايات، إلى جانب تقديم القهوة والشاي للطلاب والسياح والصحفيين والدبلوماسيين. وأعقبت المداهمة احتجاجات في الشارع، كما حضر تسعة دبلوماسيين على الأقل من بريطانيا ودول أوروبية أخرى جلسة محاكمة الأخوين منى.
ويرى محللون أن استهداف المكتبة يعكس تصاعد التطرف داخل الحكومة الإسرائيلية الائتلافية، التي تضم أحزابًا يمينية متشددة.
من جهته، وصف الصحفي الإسرائيلي نوا سيمون المداهمة بأنها “عمل فاشي”، مشيرًا إلى أنها “تحمل دلالات تاريخية مرعبة يدركها كل يهودي”.
الأخوان منى أشارا إلى جانب من السخرية السوداء وسط الفوضى، حيث تبين أن فريق الشرطة المداهم لم يكن يضم أي متحدثين بالعربية، مما دفعهم لاستخدام تطبيق “ترجمة غوغل” على هواتفهم لمحاولة العثور على أدلة تحريض في الكتب التي صادروها.
وأوضح أحمد: “لم يكن ذلك فعالًا، لأن بعض العناوين مكتوبة بخطوط مزخرفة أو بخط اليد يصعب ترجمتها، فصار التقييم يستند إلى الغلاف، الألوان، وما إذا كان يتضمن علمًا أو صورة لسجين”.
بعد ساعتين من التفتيش، صادرت الشرطة نحو 300 كتاب لمزيد من الفحص، شملت كتاب تلوين للأطفال، ودليل تسلق في الأراضي الفلسطينية، وكتابًا ألمانيًا يتناول حركة حماس.
وكشف محمود منى (41 عامًا)، الذي كان يدير فرع الكتب الأجنبية والإنجليزية يوم الأحد، عن تفاصيل المداهمة، قائلًا: “كان الكتاب بالألمانية، لكن الشرطي كان يستخدم ترجمة غوغل مضبوطة على الإنجليزية، فلم يتمكن من فهم النص الموجود على غلافه الخلفي”. وأضاف: “لو كان قادرًا على قراءته، لاكتشف أنه موضوعي تمامًا، بل إنه ينتقد حماس أيضًا بسبب استخدامها للعنف”.
وتحدث الأخوان منى عن تجربتهما في مقابلات منفصلة، إذ يخضعان للإقامة الجبرية في شقق تقع في طوابق مختلفة من المبنى ذاته في القدس الشرقية. ووفقًا لشروط الإقامة الجبرية، يُمنع عليهما اللقاء أو التواصل المباشر.
بعد المداهمة، اقتيد أحمد ومحمود إلى مركز شرطة داخل البلدة القديمة في القدس، حيث عُرضت الكتب المصادرة على طاولة للتدقيق فيها.
وقال محمود: “دخل ضابط يرتدي زيًا رسميًا، تفحص الكتب، وسمعته يقول: هذه الكتب غير مريحة بالنسبة لنا، لكنها ليست غير قانونية تمامًا”.
وأضاف: “شعرت ببعض الارتياح حينها”، لكن ذلك لم يؤدِ إلى الإفراج عنهما. فقد خضع الأخوان منى لتحقيقات سطحية استمرت 15 دقيقة، لم تتناول محتوى الكتب أو أي قضايا سياسية. ولم يُطرح أي حديث عن تهمة “التحريض”، التي كانت ستتطلب موافقة رسمية من المدعي العام، بل جرى استبدالها بتهمة “الإخلال بالنظام العام”، وهي تهمة فضفاضة لا تحتاج إلى تفويض قضائي لتبرير الاعتقال.
مع حلول المساء، لم يكن هناك سوى مكان واحد شاغر في سجن المسكوبية، المعروف باكتظاظه الشديد، ما دفع السلطات إلى احتجاز أحمد في زنزانة داخل مركز الشرطة، بينما تم نقل محمود إلى السجن.
وقال محمود: “إنه مكان غير صالح للعيش الآدمي”، وأوضح أن زنزانته التي تبلغ مساحتها 25 مترًا مربعًا كانت تضم عشرة معتقلين، ينامون على حصائر إسفنجية فوق أرضية خرسانية، وسط درجات حرارة قاربت التجمد خلال الليل.
كشف محمود منى عن الأوضاع القاسية التي واجهها داخل سجن المسكوبية، حيث وصف الزنزانة بأنها “مكتظة للغاية، بلا تدفئة أو كهرباء أو إضاءة، لا نور شمس ولا ساعة لمعرفة الوقت”. وأضاف أن المعتقلين يُحرمون من أي وسيلة لمعرفة الزمن، ويُجبرون على الاستيقاظ كل ساعتين للوقوف أثناء عمليات التعداد.
وفي حديثه عن التنقل داخل السجن، قال محمود إنه كان مقيد اليدين ومعصوب العينين، ويُجر عبر الممرات، وأوضح: “عندما يجرونك، يتعمدون جعلك تصطدم بجوانب الأبواب أو الزوايا، مما يعرضك لخطر مستمر بإصابة رأسك”.
بعد 48 ساعة من الاعتقال، أُطلق سراح الأخوين منى، لكن فُرضت عليهما الإقامة الجبرية لمدة خمسة أيام إضافية. وبموجب هذه القيود، سُمح لهما بالحركة بعد ذلك، لكن مُنع عليهما التواصل مع بعضهما البعض، رغم إمكانية الحديث مع أي شخص آخر، بما في ذلك وسائل الإعلام، ولم تقدم السلطات أي تفسير لهذه الإجراءات.
ورغم إعادة معظم الكتب المصادرة، احتفظت الشرطة بثمانية منها، من بينها كتاب تلوين للأطفال يحمل عنوان “من النهر إلى البحر”، وهي عبارة تحمل دلالات سياسية لدى الفلسطينيين والإسرائيليين. وأوضح الأخوان منى أن الكتاب لم يكن معروضًا للبيع، بل كان موجودًا في غرفة خلفية ضمن مجموعة كتب خُصصت للمراجعة.
يؤكد محمود أن المداهمة لم تكن حادثة فردية، بل جزء من حملة ممنهجة لتقييد الثقافة الفلسطينية وحرية التعبير، وقال: “ما حدث ليس معزولًا، بل يأتي ضمن سلسلة هجمات على المؤسسات الثقافية في القدس وخارجها. هناك إدراك متزايد داخل المؤسسة الإسرائيلية بأن هذه المؤسسات تلعب دورًا محوريًا في الحفاظ على الهوية الثقافية الفلسطينية”.
وأضاف متسائلًا: “إلى أي مدى سيصلون؟ إذا كانوا يستهدفون المكتبات الفلسطينية اليوم، فقد يكون الدور على المكتبات الإسرائيلية غدًا”.
يرى الأخوان منى أن تدخل المجتمع الدولي ساهم في التخفيف من حدة الإجراءات التي واجهوها. وقال محمود: “لو لم تكن مكتبتنا معروفة عالميًا وتتمتع بعلاقات دولية قوية، لربما تم التلاعب بالقضية ضدنا بشكل مختلف”.
من جانبه، أشار أحمد إلى أن التجربة كشفت مدى هشاشة الحريات: “يمكنك أن تكون في متجرك، وخلال 30 دقيقة فقط، تجد نفسك بلا هاتف، بلا حقوق، ومعزولًا تمامًا عن العالم. بدأت أتساءل عن أولئك الذين قضوا 10 أو 15 عامًا في هذه الظروف، كيف يؤثر ذلك على عقولهم؟”.
المصدر: الغارديان