ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت نية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منذ اليوم الأول لهجومه “الانتقامي” الذي شنه على غزة قبل 16 شهرًا، التطهير العرقي أو الإبادة الجماعية.
كان حليفه في الإبادة الجماعية على مدار الـ 15 شهرًا التالية هو الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، وحليفه في التطهير العرقي حاليًا هو الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب.
قدم بايدن قنابل تزن طنا من أجل تنفيذ الإبادة الجماعية، وتفيد التقارير أن ترامب يقدم الآن ذخيرة أكبر من ذلك – وتحديدا قنبلة “مواب” التي تزن 11 طنًا، وتُعرف بأم القنابل – لإجبار سكان غزة على النزوح الجماعي.
ادعى بايدن أن إسرائيل تساعد سكان غزة من خلال “قصفها للقطاع” – على حد تعبيره – من أجل “القضاء” على حماس، بينما يدعي ترامب أنه يساعد سكان غزة من خلال “تطهيرهم” – على حد تعبيره – من “موقع الهدم” الناتج عن الحرب.
وصف بايدن تدمير 70 بالمئة من مباني غزة بأنه “دفاع عن النفس”، أما ترامب فيصف التدمير الوشيك للـ30 بالمئة المتبقية بأنه “فتح لأبواب الجحيم”.
ادعى بايدن أنه “يعمل بلا كلل من أجل وقف إطلاق النار”، بينما كان يشجع إسرائيل على مواصلة قتل الأطفال شهرًا بعد شهر.
ويدّعي ترامب أنه تفاوض على وقف إطلاق النار، رغم أنه يغض الطرف عن انتهاك إسرائيل لشروط وقف إطلاق النار من خلال الاستمرار في إطلاق النار على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، ومن خلال رفض دخول شاحنات المساعدات الحيوية إلى غزة، وعدم السماح بدخول الخيام والمنازل المتنقلة، ومن خلال حرمان مئات الفلسطينيين المشوهين من العلاج في الخارج، ومنع عودة الفلسطينيين إلى منازلهم في شمال غزة، وعدم الانخراط في المرحلة الثانية من مفاوضات وقف إطلاق النار.
هذه الانتهاكات الإسرائيلية، رغم أن وسائل الإعلام تناقلتها على نطاق واسع على أنها “مزاعم” تروجها حماس، إلا أن ثلاثة مسؤولين إسرائيليين واثنين من الوسطاء أكدوا لصحيفة حدوث نيويورك تايمز هذه الانتهاكات.
بعبارة أخرى، خرقت إسرائيل الاتفاق من جميع النواحي، ووقف ترامب إلى جانب الدولة المبجلة مثلما فعل بايدن من قبله.
“فتح أبواب الجحيم”
كانت إسرائيل تعلم جيدًا أنها من خلال خرق وقف إطلاق النار، لم تترك لحماس أي خيار للضغط سوى رفض إطلاق سراح المزيد من الرهائن، وهو بالضبط ما أعلنت عنه الحركة يوم الاثنين الماضي.
وفي رد فعل مألوف ومتزامن، أعربت إسرائيل وواشنطن عن إدانتهما لإعلان حماس بشكل ساخر.
لم يهدر ترامب الفرصة من أجل التصعيد؛ فقد أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل – أو ربما الولايات المتحدة، لم يكن ذلك واضحًا – لـ”فتح أبواب الجحيم”، ما يعني على الأرجح استئناف الإبادة الجماعية.
وهذا لن يحدث إذا رفضت حماس تحرير الرهائن الثلاثة المقرر إطلاق سراحهم بحلول الموعد النهائي ظهر يوم السبت، بل ذهب ترامب أبعد من ذلك، وأصر على أنه يجب على حماس أن تفرج عن جميع الرهائن يوم السبت دفعة واحدة.
وقال الرئيس الأمريكي إنه لن يقبل بعد الآن إطلاق سراح الرهائن على “دفعات” على مدار الأسابيع الستة للمرحلة الأولى من وقف إطلاق النار. بعبارة أخرى، ترامب ينتهك شروط وقف إطلاق النار الأولية التي تفاوض عليها فريقه الخاص.
من الواضح أن كلًا من نتنياهو وترامب لا يحاولان إنقاذ الاتفاق، بل يعملان على نسفه.
هذا ما ذكرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية في نهاية الأسبوع الماضي؛ فقد كشفت مصادر إسرائيلية أن هدف نتنياهو هو “عرقلة” وقف إطلاق النار قبل أن يصل إلى المرحلة الثانية، عندما يُفترض أن تنسحب القوات الإسرائيلية بالكامل من القطاع وتنطلق عملية إعادة الإعمار.
وقال مصدر للصحيفة: “بمجرد أن تدرك حماس أنه لن تكون هناك مرحلة ثانية، قد لا تكمل المرحلة الأولى”.
وقد أصرت حماس على الإفراج التدريجي عن الرهائن لكسب الوقت، مع العلم أن إسرائيل ستكون حريصة على استئناف المذبحة بمجرد أن تستعيد جميع الرهائن.
لقد عاد الفلسطينيون في غزة إلى المربع الأول. إما القبول بالتطهير العرقي حتى يتسنى لترامب وأصدقائه المليارديرات بناء “ريفييرا الشرق الأوسط”، والتي سيتم تمويلها من خلال سرقة عائدات حقول الغاز في غزة، أو العودة إلى الإبادة الجماعية.
كشف المستور
ينبغي أن يكون واضحًا أن نتنياهو وافق فقط على “وقف إطلاق النار” الذي أعلنته واشنطن لأنه لم يكن اتفاقا حقيقيا. لقد كان هدنة مؤقتة حتى تتمكن الولايات المتحدة من إعادة صياغة رواية بايدن للإبادة الجماعية وفق شعارات “الإنسانية” و”الأمن”، لتناسب أسلوب ترامب الأكثر صراحة ووضوحًا.
أصبحت القضية برمتها تتعلق بـ”فن إبرام الصفقات” وفرص التنمية العقارية. لكن خطة ترامب لـ”امتلاك” غزة ثم “تنظيفها” وضعت حلفاءه في أوروبا – أو أتباعه في حقيقة الأمر – أمام مأزق حقيقي.
وكما هو الحال دائمًا، لدى ترامب عادة قبيحة وهي كشف المستور دون مواربة. لقد نزع ورقة التوت عن اللباقة الغربية المهترئة، ووضع الجميع في موقف محرج.
والحقيقة هي أن إسرائيل فشلت على مدار 15 شهرًا في تحقيق أي من أهدافها المعلنة في غزة، أي القضاء على حماس واستعادة الرهائن، وكلاهما لم يكن هدفا واقعيا.
حتى أن وزير خارجية بايدن، أنتوني بلينكن، اضطر إلى الاعتراف بأن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل لم تؤدِ إلا إلى تجنيد مقاتلين جدد في حماس بعدد من قُتلوا.
وقد كشفت مصادر عسكرية إسرائيلية لموقع مجلة +972 الأسبوع الماضي أن إسرائيل قتلت بشكل غير مقصود العديد من رهائنها باستخدام قنابل خارقة للتحصينات زودتها بها الولايات المتحدة.
لم تسبب هذه القنابل انفجارات هائلة فحسب، بل كانت بمثابة أسلحة كيميائية فعالة، وقد ملأت أنفاق حماس بأول أكسيد الكربون مما أدى إلى اختناق الرهائن.
وقد أكد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، يوآف غالانت، في مقابلة مع القناة 12 التلفزيونية الإسرائيلية عدم اكتراث القيادة الإسرائيلية بمصير الرهائن.
واعترف غالانت بأن الجيش الإسرائيلي قد لجأ إلى ما يُعرف بـ”توجيهات هانيبال” بعد الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023؛ حيث سُمح للجنود بقتل الأسرى الإسرائيليين بدلًا من تركهم رهائن لدى حماس.
هذه المعطيات التي ترسم صورة مختلفة عن ممارسات إسرائيل في غزة، تم التعتيم عليها بشكل شبه كامل في وسائل الإعلام الغربية الرسمية.
الحد من الأضرار
لقد كانت خطة إسرائيل منذ البداية هي التطهير العرقي لغزة، والآن يعبّر ترامب عن ذلك صراحةً.
لقد كان الأمر واضحا للغاية، لدرجة أن وسائل الإعلام دخلت في حالة هستيرية للحد من الأضرار، مستخدمةً واحدة من أكثر العمليات النفسية تعقيدا ضد جمهورها.
تم اللجوء إلى كل التعبيرات الملطفة للتعتيم على حقيقة أن ترامب وإسرائيل يستعدان لعملية تطهير عرقي ضد 2.3 مليون فلسطيني يعيشون في غزة.
تحدثت هيئة الإذاعة البريطانية عن “إعادة توطين” و”نقل” و”ترحيل” سكان غزة. وتحدثت تقارير أخرى عن أن الفلسطينيين على وشك “الرحيل” دون أي تفسيرات.
وأشارت صحيفة نيويورك تايمز إلى التطهير العرقي بشكل إيجابي على أنه “خطة ترامب للتنمية”، بينما أطلقت عليها رويترز “إبعاد” سكان غزة.
لقد وُضعت العواصم الغربية ووسائل إعلامها في هذا الموقف المحرج لأن الدول العميلة لواشنطن في الشرق الأوسط رفضت التماشي مع إسرائيل وخطة ترامب للتطهير العرقي.
رغم المذابح المستمرة والمتصاعدة، رفضت مصر فتح حدودها مع غزة للسماح للسكان الذين تعرضوا للقصف والتجويع بالتدفق إلى سيناء المجاورة.
لم يكن هناك بالطبع أي شك في أن إسرائيل لن تسمح بعودة أهالي غزة إلى الأراضي التي طُردوا منها أساسا تحت تهديد السلاح في عام 1948 من أجل إنشاء دولة يهودية من طرف واحد.
وكما هو الحال حاليا، فقد تواطأت القوى الغربية حينها في عمليات التطهير العرقي التي قامت بها إسرائيل، وهو السياق التاريخي الذي تفضل وسائل الإعلام الغربية التعتيم عليه، حتى في المناسبات النادرة التي تعترف فيها بوجود خلفية للأحداث الحالية عدا عن الهمجية الفلسطينية. وبدلاً من ذلك، تلجأ وسائل الإعلام إلى مصطلحات مخادعة مثل “دورات العنف” و”العداوة التاريخية”.
لقد فضّل السياسيون ووسائل الإعلام في الغرب، بعد أن أصبحوا في موقف محرج بسبب تصريحات ترامب في الأيام القليلة الماضية، الإيحاء بأن “خطته التنموية” لغزة هي في الواقع خطة غير تقليدية.
لكن الحقيقة أن الرئيس الأمريكي لا يقدم أي جديد في مطالبته بتطهير غزة عرقيًا، الجديد فقط هو أنه يتصرف بصراحة غير معتادة – وبشكل غير مألوف – لتنفيذ سياسة قائمة منذ فترة طويلة.
لطالما أضمرت إسرائيل خططًا لطرد الفلسطينيين من غزة إلى مصر، ومن الضفة الغربية إلى الأردن.
لكن الأهم من ذلك، كما أشار موقع “ميدل إيست آي” قبل عقد من الزمن، فإن واشنطن كانت على استعداد تام لتنفيذ مشروع التهجير من غزة منذ أواخر رئاسة جورج بوش الثانية في عام 2007. ولمن لا يجيد الحساب، كان ذلك قبل 18 عامًا.
لقد ضغط كل الرؤساء الأمريكيين، بما في ذلك باراك أوباما، على رئيس مصر الأسبق للسماح لإسرائيل بطرد سكان غزة إلى سيناء، وقد تم رفض كل محاولاتهم.
السر المكشوف
هذا السر المكشوف غير معروف على نطاق واسع لنفس السبب الذي يجعل كل النقاد والسياسيين الغربيين يتظاهرون الآن بالذهول من رغبة ترامب في تنفيذه.
لماذا؟ لأن الأمر يبدو سيئًا، وخاصة عندما تتم صياغته في شكل عرض ترامب المبتذل لبيع العقارات في خضم وقف إطلاق النار المزعوم.
كان القادة الغربيون يأملون بتنفيذ التطهير العرقي في غزة بطريقة أكثر لباقة، طريقة “إنسانية” تساعد على خداع الرأي العام الغربي والحفاظ على صورة الغرب المتمسك بالقيم الحضارية في مواجهة “الهمجية الفلسطينية”.
ومنذ عام 2007، عُرف مشروع التطهير العرقي المشترك بين واشنطن وإسرائيل باسم “خطة غزة الكبرى“.
كان حصار إسرائيل للقطاع منذ في أواخر عام 2006 يهدف إلى خلق حالة من البؤس والفقر تُجبر الناس على الرحيل من تلقاء أنفسهم.
بدأت إسرائيل حينها في صياغة ما يسمى بـ”حمية التجويع” لسكان غزة؛ حيث كانت تحصي عدد السعرات الحرارية الكافية لإبقائهم بالكاد على قيد الحياة.
كانت تصوّرات إسرائيل تجاه غزة تشبه أنبوب معجون الأسنان الذي يمكن الضغط عليه، وبمجرد أن تخفف مصر من حصارها وتفتح الحدود، يبدأ تدفق السكان إلى سيناء بدافع اليأس.
تعرض كل رؤساء مصر للترهيب والترغيب بهدف الموافقة على هذه الخطة: حسني مبارك ومحمد مرسي والفريق أول عبد الفتاح السيسي، لكنهم رفضوا.
كانت مصر تدرك جيدا خطط ما بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفهمت أن تدمير غزة كان مصممًا للضغط على الأنبوب بشدة حتى ينفجر من أعلى.
الضغط على مصر
منذ البداية، صرّح مسؤولون مثل غيورا آيلاند، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، علنًا أن الهدف هو جعل غزة “مكانًا لا يمكن أن يعيش فيه أي إنسان”.
وبعد أسبوع واحد فقط من المذبحة الإسرائيلية، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قال المتحدث العسكري أمير أفيفي لـ”بي بي سي” إن إسرائيل لا تستطيع ضمان سلامة المدنيين في غزة، مضيفًا: “إنهم بحاجة إلى التحرك جنوبًا، إلى شبه جزيرة سيناء”.
وفي اليوم التالي، أكد داني أيالون، وهو مقرب من نتنياهو وسفير إسرائيل السابق في الولايات المتحدة، هذه الفكرة قائلاً: “هناك مساحة كبيرة في صحراء سيناء.. سنقوم نحن والمجتمع الدولي بإعداد البنية التحتية للمخيمات”. وأضاف: “ستضطر مصر للانخراط في اللعبة.”
تم الكشف عن مخططات إسرائيل في مسودة سياسة مسربة من وزارة الاستخبارات؛ حيث اقترحت أن يقيم سكان غزة مبدئيًا في مخيمات بعد طردهم، قبل أن يتم بناء مجتمعات دائمة في شمال سيناء.
وفي الوقت نفسه، ذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” أن نتنياهو يمارس ضغوطًا على الاتحاد الأوروبي بشأن فكرة تهجير فلسطينيي القطاع إلى سيناء تحت غطاء الحرب.
قيل إن بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك جمهورية التشيك والنمسا، أبدت ترحيبها وطرحت الفكرة في اجتماع للدول الأعضاء. وقال دبلوماسي أوروبي لم يذكر اسمه لـ”فاينانشال تايمز”: “الآن هو الوقت المناسب لزيادة الضغط على المصريين للموافقة”. في الوقت نفسه، قدمت إدارة بايدن القنابل لمواصلة الضغط.
كان السيسي يدرك تمامًا ما تواجهه مصر: خطة غربية منسقة لتطهير غزة عرقيًا. كان ذلك قبل أكثر من سنة على الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها ترامب.
وفي منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد أيام من بدء المجازر، صرح السيسي خلال مؤتمر صحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتز قائلاً: “ما يحدث الآن في غزة هو محاولة لإجبار السكان المدنيين على اللجوء والهجرة إلى مصر، وهو أمر غير مقبول”
هذا تحديدا ما دفعه إلى بذل الكثير من الجهد لتأمين الحدود بين غزة وسيناء قبل وبعد الإبادة الإسرائيلية للقطاع.
عرض ترامب للسلام
ما يجعل عرض ترامب للسلام يبدو سرياليًا هو تمسكه الفاتر بالنص الأصلي، في محاولة لجعل الخطة تبدو ذات طابع إنساني بشكل غير مفهوم.
ففي الوقت الذي يعيد فيه تسليح إسرائيل ويحذّر من “فتح أبواب الجحيم”، يتحدث عن إيجاد “قطع من الأرض” في مصر والأردن يمكن لسكان غزة أن “يعيشوا فيها بسعادة وأمان”.
وقد قارن ذلك بمعاناتهم الحالية قائلاً: “إنهم يُقتلون هناك بمستويات لم يشهدها أحد من قبل. لا يوجد مكان في العالم أخطر من قطاع غزة.. إنهم يعيشون في الجحيم.”
يبدو أن هذه هي طريقة ترامب الفاضحة في وصف الإبادة الجماعية التي تنكر إسرائيل ارتكابها، وتنكر الولايات المتحدة تسليحها.
لكن الحديث عن مساعدة سكان غزة ليس سوى عبارات مكررة من العروض السابقة، حين كانت الإدارات الأمريكية تسوق للتطهير العرقي باعتباره جزءًا أساسيًا من “عملية سلام” تاريخية.
![لم يبتكرها ترامب.. الولايات المتحدة تتبنى خطة تطهير غزة عرقيًا منذ 2007 2 نون بوست](https://www.noonpost.com/wp-content/uploads/2025/02/noonpost-4209050-jpg.webp)
وكما أشار موقع “ميدل إيست آي” في 2015، فقد تجندت واشنطن لخدمة خطة “غزة الكبرى” منذ سنة 2007. كان المقترح آنذاك يقضي بأن تمنح مصر مساحة 1600 كيلومتر مربع في سيناء – أي ما يعادل خمسة أضعاف مساحة غزة – للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية برئاسة محمود عباس.
وكانت الخطة تقضي بـ”تشجيع” الفلسطينيين في غزة، أي الضغط عليهم قسرًا من خلال الحصار وقطع المساعدات، إضافة إلى حملات القصف المكثف المعروفة بـ”جز العشب”، للفرار إلى سيناء.
وفي المقابل، كان على عباس أن يتخلى عن فكرة إقامة دولة فلسطينية في فلسطين التاريخية، ويتخلى عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين المنصوص عليه في القانون الدولي، وبالتالي ينتقل عبء قمع الفلسطينيين إلى مصر والعالم العربي بشكل عام.
حاولت إسرائيل تنفيذ خطة سيناء بين سنتي 2007 و2018 على أمل إفشال حملة عباس في الأمم المتحدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية.
ومن الجدير بالذكر أن الهجمات العسكرية واسعة النطاق التي شنتها إسرائيل على غزة – في 2008 و2012 و2014 – تزامنت مع تقارير عن جهود إسرائيلية وأمريكية للضغط على الرؤساء المصريين المتعاقبين للتنازل عن أجزاء من سيناء.
“ملكية الواجهة البحرية”
ترامب على دراية عميقة بخطة “غزة الكبرى” منذ فترة رئاسته الأولى، وتشير تقارير من سنة 2018 إلى أنه كان يأمل بإدراجها ضمن خطته المعروفة بـ”صفقة القرن” للتطبيع بين إسرائيل والعالم العربي.
وفي مارس/ آذار من تلك السنة، استضاف البيت الأبيض مؤتمرًا ضم 19 دولة لبحث أفكار جديدة للتعامل مع الأزمة المتفاقمة في غزة.
بالإضافة إلى إسرائيل، شارك في ذلك المؤتمر ممثلون عن مصر والأردن والسعودية وقطر والبحرين وعمان والإمارات، وقد قاطع الفلسطينيون الاجتماع.
وبعد بضعة أشهر، وتحديدا في صيف 2018، أدى جاريد كوشنر، صهر ترامب ومهندس خطته للشرق الأوسط، زيارة إلى مصر. وبعد فترة قصيرة أرسلت حماس وفدًا إلى القاهرة للاطلاع على الخطة المطروحة.
عرض ترامب حينذاك -كما نراه اليوم- إنشاء منطقة في سيناء تضم شبكة للطاقة الشمسية، ومحطة لتحلية المياه، وميناءً بحريًا، ومطارًا، إلى جانب منطقة تجارة حرة تضم خمس مناطق صناعية، بتمويل من دول الخليج.
ومن المثير ما ذكره الصحفي الإسرائيلي المخضرم رون بن يشاي في ذلك الوقت من أن إسرائيل كانت تهدد باجتياح غزة وتقسيمها إلى قطاعين منفصلين، شمالي وجنوبي، لإجبار حماس على الانصياع. هذه هي بالضبط الاستراتيجية التي وضعتها إسرائيل على رأس أولوياتها السنة الماضية خلال اجتياحها للقطاع، قبل أن تشرع في إفراغ شمال غزة من سكانه.
سعى ترامب أيضًا إلى تعميق الأزمة في غزة من خلال وقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”. وقد انتهجت إسرائيل وإدارة بايدن السياسة نفسها بشكل فعّال خلال حملة الإبادة الجماعية الحالية.
منذ تولي ترامب منصبه، حظرت إسرائيل أنشطة الأونروا في كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أحيى فريق ترامب اهتمامه بخطة التطهير العرقي في اللحظة التي أطلقت فيها إسرائيل حرب الإبادة الجماعية، وذلك قبل وقت طويل من فوزه بانتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2024.
في مارس/ آذار من السنة الماضية، استخدم كوشنر نفس العبارات التي يستخدمها ترامب حاليا، فقد أشار إلى أنه “لم يتبق الكثير من غزة في هذه المرحلة”، وأن الأولوية هي “تطهيرها”، وأن “واجهتها البحرية أرض ثمينة”، وأصر على أنه يجب “إخراج سكان غزة”.
مشلول من الصدمة والارتباك
إذا رفض ترامب التراجع، فإن مستقبل غزة يعتمد بشكل أساسي على مصر والأردن المجاورتين: يتعين عليهما قبول خطة التطهير العرقي، أو أن تستأنف إسرائيل إبادة القطاع.
وفي حال رفضهما، فقد هدد ترامب بقطع المساعدات الأمريكية، وهي في الحقيقة رشوة تقدمها الولايات المتحدة منذ عقود لضمان عدم تقديم المساعدة للفلسطينيين أمام آلة الإبادة الإسرائيلية.
وقد بدا العاهل الأردني الملك عبد الله، خلال زيارته للبيت الأبيض هذا الأسبوع، كأنه مشلول من الصدمة والارتباك.
لم يجرؤ على أن يتحدى ترامب برفض الخطة مباشرة، وبدلًا من ذلك اقترح انتظار رد مصر، الدولة العربية الأكبر والأكثر نفوذًا.
لكن في الخفاء، وكما أفاد موقع “ميدل إيست آي”، يخشى الملك عبد الله بشدة من التداعيات المدمرة لتواطؤ الأردن في تطهير غزة عرقيًا، وهو ما يعتبره “تهديدا وجوديا” لنظامه، إلى درجة التهديد بشن حرب على إسرائيل لوقف الخطة.
عبرت مصر أيضا عن استياءها. ففي أعقاب الزيارة المهينة التي قام بها الملك عبد الله، أفادت التقارير أن السيسي أجّل اجتماعه المقرر الأسبوع المقبل مع ترامب – في رسالة رفض واضحة – حتى يتم استبعاد خطة التطهير العرقي من طاولة النقاش. ويقال إن القاهرة تجهّز مقترحها الخاص لإعادة إعمار غزة.
حتى المملكة العربية السعودية حليفة واشنطن الغنية بالنفط باتت في حالة تمرّد.
من النادر أن تُبدي الدول العربية هذا القدر من الصلابة في مواجهة أي رئيس أمريكي، خاصة إذا كان رئيسا مغرورا ومضطربا استراتيجيًا مثل ترامب.
هذا قد يفسر سبب تراجع حدة موقف الرئيس الأمريكي. يوم الأربعاء، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت، إن ترامب بات يسعى الآن للحصول على مقترح بديل من “شركائنا العرب في المنطقة”.
وفي إشارة أخرى إلى أن ترامب قد يكون مترددًا في المضي قدما في خطته، تراجع نتنياهو عن تهديده باستئناف الإبادة الجماعية ما لم يتم الإفراج عن جميع الرهائن بحلول السبت.
وتشير التقارير الواردة من غزة إلى أن إسرائيل قد كثفت أيضًا من وتيرة إدخال المساعدات.
كل هذه أخبار سارة تمنح سكان غزة المزيد من الوقت، لكن لا ينبغي أن نغفل الصورة الأكبر. فلا تزال إسرائيل والولايات المتحدة ملتزمتين بـ”تطهير” غزة، بطريقة أو بأخرى، كما كان الحال طوال السنوات الثماني عشرة الماضية. إنهما ببساطة تنتظران لحظة ملاءمة لاستئناف الخطة.
قد يكون ذلك في الأيام القادمة، أو خلال شهر أو شهرين. لكن هناك أمر واحد نجح فيه بايدن وترامب على الأقل: لقد كشفا لكل العالم أنه لا يمكن اعتبار تدمير غزة خطة سلام.
المصدر: ميدل إيست آي