“الغرق حكايات القهر والونس” هي أحدث روايات السوداني حمور زيادة الذي يسرد السودان كل مرة بشكل أشد ألمًا، وأشهر أعماله “شوق الدرويش” الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ وترشحت للقائمة القصيرة للبوكر، تحكي “شوق الدرويش” -مثل أغلب أعمال الكاتب- عذابات السودان في غلاف تاريخي، لسنا هنا للحديث عن رائعة “شوق الدرويش” بل آخر أعمال الكاتب التي انتظر القراء فيها رؤية عالم “شوق الدرويش” ثانية، لنتحدث عن حكايات القهر والونس.
الشلوخ لا كرمز للرواية بل رمز للقرى السودانية
قبل الحديث عن الرواية، لنتحدث أولًا عن صورة الغلاف أو الرمز الذي ترمز إليه، الشلوخ هي عادة سودانية تقوم بها القرى وإن كانت على وشك الاختفاء. ظل السودان لتاريخ مديد محتفظًا بعادة شق خدود البنات بالموس ثم حشوه بالقطن والحلبة والبن، تتم هذه العملية في سن النضوج كزينة للفتاة، وتفتخر العائلات والقرى بهذه العادة حتى إن بعض العائلات يمتلكن شكلًا معينًا للشلوخ سواء في الجبهة أم الخد بجانب عدد هذه الشلوخ وأصبح يقوم بها الرجال أيضًا.
ذكرت الرواية في عدة مواضع هذه الشلوخ وهي أفضل رمز لكل ممارسة تحت مسمى التقاليد استطاعت يومًا أن تقهر المرء بلا معنى، قدم الشلوخ نموذجًا لحماسة القرية لممارسة فعل متوارث حتى أصبح قاعدة ثابتة ومدعاه للتفاخر بالنسب والانتماء، رغم معاملة الشلوخ بطريقة عادية في الرواية، ولكن في واحدة من أجمل الفصول وهو قيام الرضية بالتضييق على سكينة الفتاة الوحيدة دون شلوخ، فتقول مخاطبة زوجها:
“أي عمدة أنت لا يدافع عن إرث قومه وتقاليدهم؟! لا يزعك أبناء الحرام الذين تنجبهم الإماء، لا يهمك ترك الناس الشلوخ! ربما غدًا يترك الناس طهارة البنات فلا تتدخل”.
يمكن أن يكون الشلوخ هو البداية لفهم كيف يعامل الناس بعضهم بعضًا وكيف لعادة أن تصبح أداةً لتحقيق القهر
لقد قامت الرضية بالمساوة بين الزنا وترك عادة من التراث، ولكن المقصد من الرضية لم يكن حبًا في التراث بشكل كامل بل لأنها لا يمكن أن تلتزم وحدها بهذا التراث، حتى إن كان معنى هذا هو فرض القهر وتهويل هذا التراث ليجعلهم مخطئين وهي بنت الأصول الوحيدة.
“يعرف أنها تبحث عن معنى لخضوعها الطويل لأهلها، يقتلها التعلق بشيء ما يجعل لحياتها قيمة. إن لم تقاتل دفاعًا عن ميراث الأجداد فلأي شيء وهبت حياتها ورضخت لهم؟ لا قيمة لرضوخها إلا برضوخ الآخرين لها”.
يمكن أن يكون الشلوخ هو البداية لفهم كيف يعامل الناس بعضهم بعضًا وكيف لعادة أن تصبح أداةً لتحقيق القهر.
بيئة الرواية هي قرية “حجر نارتي” في بداية عشرينيات القرن الماضي وحتى مرحلة متقدمة للغاية (حتى الثمانينيات)، الحقيقة أن التاريخ ليس مهمًا بالنسبة لحجر نارتي فلم يتغير الكثير خلال أعوام الرواية الطويلة التي قد تظن أن أحداثها متصلة، فرغم تداخل حكايات الماضي مع الحاضر لا تكاد تجد فرقًا، تغير فقط اسم الأمة إلى خادمة، ولكن بقيت الشلوخ تُحفر على خدود البنات والقهر والهاربات الغرقى كل عام.
بينما كانت مشاكل البدري و الناير الظاهرية تتمحور حول السلطة ورفعة الشأن فإن الإماء حياتهن بحد ذاتها مشكلة، فهن مستباحات لا يستطعن رد طالب مثل الحرائر الكرام بنات العائلات
ليس للرواية أبطال بشكل كامل، بل تتوزع بين عائلة الناير وعائلة البدري والخادمة فايت ندو وابنتها داخل القرية وعلى مستوى العديد من الأفراد، بينما تتقاتل عائلة الناير والبدري على السلطة ويناقشون الانقلاب العسكري بشموخ حاد ورفعة تكاد تظن أنهم الأهم في السودان، أسرتني حكايات الإماء، ففي توقيت الرواية منع الرق فتحررن منه بالاسم ولكن ظللن بالهوية ذاتها وحياتهن والخدمة بلا شكر ولا حق.
“نحن وحيدتان، ليس لنا أهل ولا مال ولا احترام، كل اللائي يعانقنني يضمرن لي احتقارًا، نحن المتناسلون اللامكان في قرية تتفاخر بالأنساب، لا يحترمنا أحد إلا بمقدار ما يحتاجون إلينا وما نُظهر لهم من أدب وطاعة”.
بينما كانت مشاكل البدري والناير الظاهرية تتمحور حول السلطة ورفعة الشأن فإن الإماء حياتهن بحد ذاتها مشكلة، فهن مستباحات لا يستطعن رد طالب مثل الحرائر الكرام بنات العائلات وبالتالي تتكرر الحلقة وتدور بين الولادة والاحتقار رغم أنهم صناعة هذا المجتمع القادر على منع أولاد الحرام بسهولة، ولكن من يتولي اللوم عن فساد المجتمع، وبالنسبة للنساء من يشعرهن أنهن حرائر أطهار ملتزمن بالتقاليد ليشعرن بالفخر، وبالنسبة للرجال من يطفئ شهوتهم دون ترفع وتمنع وبلا مقابل.
استطاع المجتمع أن يجد ألف سبب لتبرير الكره لهؤلاء الإماء، ولكنه لم يحاول يومًا أن يمنعهن.
عندما يقوم المجتمع بقهر بعضه بعضًا
كل القصص في الرواية تؤدي إلى القهر، قهر السياسة أو الحب أو العادات، رغم أن حجر نارتي في ظاهرها قرية عادية، فإن كل شخصية بها عانت الكثير حتى أكثرهم قوةً ونفوذًا، تتنوع القصص وتتداخل بعضها، منها معاناة عاشقين وبعضها نكبات لا تعلم كيف لأصحابها أن يعيشوا بها، هناك العاشق الذي يخسر حبيبته مرتين، والطالب الذي يضطر إلى ترك مستقبله رضوخًا لعائلته، وآخر يتزوج رغمًا عنه، وربما لا نحتاج للحديث عن النساء، فلا امرأة واحدة في الرواية لم تكن مقهورة وتم اتخاذ ألف قرار بشأنها غيبًا.
في العادة، نقرأ عن مأساة شخص أو عائلة، ولكن مجتمعًا كاملًا يساهم في قهر كل فرد كشكل طبيعي للحياة، هنا حقًا يجب أن نفكر لما القراءة عن قرية سودانية تسمى “حجر النارتي” مهمة.
دائرة الغرق
تُفتتح الرواية بحادث غرق يلقي فتاة على ضفة النيل، في البداية قد يبدو مشهدًا عاديًا بل وحتى منتصف الرواية لم أدرك أن حادثة الغرق مهمة إلى هذا الحد لدرجة أن تصبح عنوان الرواية، ولكن مع الوقت سوف تدرك أن كل الحوادث تقع لفتيات فقط، ثم في النهاية تدرك أن حوادث الغرق ما هي إلا ردود فعل لفتيات وصلن إلى حافة القهر بلا مهرب لينتهي بهن الحال في نهر النيل بدلًا من الاستسلام لقدر لا يعلمن أهو أفضل أم الموت، قد تظن أن هناك حدًا للظلم وبعد كل مشهد يستفز الأعصاب تنتظر أن يتغير شيء ما ولكن لا يتغير، وسوف يظل الغرق طالما ظل هناك قهر.