شكل الجسد الفلسطيني هدفًا ثابتًا لممارسات الانتهاك والإبادة التي تقوم عليها بنية الاحتلال الاسرائيلي، ولم تتوقف تلك الممارسات على أجساد الأحياء، بل طالت أجساد الأموات كذلك، إذ مارست ضدها أشكالًا عديدة من العنف، إما بالتمثيل المنظم بها أو باستخدامها كوسيلة ردع أو احتجازها كورقة ضغط تفاوضية لاسترداد جنودها أو جثامينهم المحتجزة لدى المقاومة، وهو الادعاء “القانوني” الذي استند إليه قرار الهيئة الموسعة للمحكمة العليا الإسرائيلية، بغالبية 4 قضاة ضد 3 قضاة، في ملف احتجاز الجثامين المرفوع أمامها منذ يوليو/تموز العام 2018، والقاضي بمنح صلاحية للقائد العسكري باحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين ودفنهم مؤقتًا لغرض استغلالهم كورقة تفاوض مستقبلية في عمليات تبادل الأسرى.
يأتي صدور القرار من جهاز وظيفي مدني داخل بنية الاحتلال، استمرارًا لمساعيه في توفير غطاء شرعي وقانوني لسياسات وممارسات السيطرة والإبادة المُنتهجة منه ضد الحيز والجسد الفلسطينيين.
يُعد قرار المحكمة العليا الإسرائيلية والصادر بتاريخ 9 من سبتمبر/أيلول 2019 سابقةً قضائية على الصعيد الإسرائيلي، ومن هنا يكتسب أحد أوجه خطورته، وهو ما أكده لـ”نون بوست” المحامي حسن جبارين مدير مركز “عدالة” وأحد المحامين المترافعين في القضية، الذي قال إن هذه المرة الأولى التي تقرر فيها المحكمة العليا الإسرائيلية إمكانية احتجاز جثامين شهداء فلسطينيين.
وأشار جبارين إلى أن “مركز عدالة نجح خلال السنوات الماضية في كسب التماسات قدمها للمحكمة العليا الإسرائيلية، إذ قضت حينها المحكمة بعدم جواز احتجاز الجيش لجثامين شهداء فلسطينيين، وأن البند الثالث من المادة 133 للعام 1945 من قانون الطوارئ، لا يعطي الجيش إمكانية أن يدفن مؤقتًا لاستعمال الجثة، وبالتالي رفضت المحكمة طلب النيابة العامة حجز الجثامين، وأعطت مهلة مدتها ستة أشهر للكنيست لتشريع قانون ينظم عملية احتجاز الجثامين، ورغم سهولة هذا الخيار من ناحية إجرائية وقانونية، فإن النيابة العامة الإسرائيلية لم تنحَ تجاهه لما سيخلقه من إشكاليات على الصعيد الدولي”.
إضافةً لقرارات المحكمة العليا خلال السنوات الأخيرة المناقضة للقرار الجديد، فإن المحكمة قضت في أواخر التسعينيات، برفض استخدام أشخاص “لا ذنب لهم” كورقة للمساومة
وبالتالي ذهبت النيابة العامة إلى الخيار الثاني، وهو الطلب من المحكمة العليا أن تعيد النظر بهذه القرارات بالانعقاد بهيئة موسعة، لكونها قرارات إشكالية، لا تعطي للجيش الإسرائيلي أوراق للتفاوض على جثامين جنود إسرائيليين أو جنود إسرائيليين أحياء.
وتلى قبول إعادة النظر، طلب من النيابة العامة بإصدار أمر منع مؤقت لإعادة الجثامين لحين بت المحكمة العليا في إعادة النظر، وعلى هذا الأمر استند الجيش “قانونيًا” في استمراره بحجز الجثامين من وقت قرار المحكمة العليا القاضي بعدم جواز الاحتجاز وحتى صدور القرار الجديد المناقض له.
واستند الجيش الإسرائيلي في إيجاد صلاحية لاحتجاز الجثامين على قانون الطوارئ 133 لعام 1945، وصيغته المعدلة الحاليّة التي تعود لشهر يناير/كانون الثاني من العام 1948 التي تعطي صلاحيات للقائد العسكري باحتجاز ودفن جثامين مؤقتًا واستغلالها كورقة مفاوضات.
وإضافةً لقرارات المحكمة العليا خلال السنوات الأخيرة المناقضة للقرار الجديد، فإن المحكمة قضت في أواخر التسعينيات، برفض استخدام أشخاص “لا ذنب لهم” كورقة للمساومة، حين ثارت إشكالية أمامها بشأن احتجاز لبنانين في “إسرائيل” لمدة غير محدودة بهدف المفاوضات لإرجاع جندي إسرائيلي محتجز في لبنان.
ويشير جبارين إلى أن خطورة القرار على الصعيد الدولي، تأتي من جانبين: الأول، انتهاك القرار لأسس القانون الدولي وعلى رأسها اتفاقية مناهضة التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والثاني، أن قرارات الدول يمكن أن تُشكل مرجعية قانونية تستند عليها دول أخرى لتمرير ذات الممارسات المنتهكة لحقوق الإنسان، بما أن القانون الدولي يقاس كذلك وفقًا لممارسات الدول.
وفقًا لبيانات مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، تواصل السلطات الإسرائيلية احتجاز رُفات 253 من العرب والفلسطينيين فيما يعرف باسم “مقابر الأرقام”
من المخاوف التي يثيرها هذا القرار ما سيمنحه من صلاحية للجيش الإسرائيلي للدخول الى المستشفيات لاحتجاز جثامين شهداء فلسطينيين، وقد حاول الجيش مسبقًا، عدة مرات، اقتحام المستشفيات لاحتجاز الجثامين كان منها على سبيل المثال محاولة احتجاز جثمان الشهيد محمد أبو غنام من مستشفى المقاصد بالقدس في يوليو/تموز 2017.
ووفقًا لبيانات مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، تواصل السلطات الإسرائيلية احتجاز رُفات 253 من العرب والفلسطينيين فيما يعرف باسم “مقابر الأرقام”، قتلتهم منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، بينما ترفض أيضًا الاعتراف بمصير 68 مفقودًا، إضافةً إلى مواصلتها احتجاز 51 جثمانًا، منذ قرار العودة لاحتجاز الجثامين في أكتوبر من العام 2015.
وقالت عائلات الشهداء المحتجزة جثامينهم في بيانٍ لها: “قرار محكمة العدل الاحتلالية جاء بالتساوق مع سياسة حكومة الاحتلال التي تمعن في تشديد العقوبات الجماعية على عائلات الشهداء بما يتعارض مع كل أحكام وقواعد القانون الدولي الإنساني”، وأكدت رفضها ربط قضية أبنائها الشهداء بأي عملية تبادل أسرى محتملة، كما أكدت مواصلة جهدها الشعبي والقانوني لاستعادة جثامين أبنائها، وهو ما أكده جبارين من وجود خيارات لدى مركز عدالة للتحرك قانونيًا ضد القرار الصادر، ستذهب إليها بعد التشاور والاتفاق مع ذوي الشهداء.