أكثر من ستة أشهر على بداية حراك الجزائريين الاحتجاجي، حراك دفع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الاستقالة من منصبه، وكان سببًا في إيداع العشرات من الوزراء والسياسيين ورجال الأعمال السجن بتهم تتعلق بالفساد، كما أنه كان أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى التراجع “المخيف” في اقتصاد البلاد المتهالك أصلاً.
جمود سياسي
بداية شهر أبريل/نيسان الماضي، قدم بوتفليقة استقالته لتبدأ بعدها سلسلة الاستقالات والإقالات التي طالت مسؤولين كثر في الدولة، نتيجة ضغط الشارع الجزائري الذي يطالب بالديمقراطية والعيش الكريم بعيدًا عن “العصابة” التي حكمت البلاد لعقود عدة، عرفت فيها الجزائر تراجعًا كبيرًا في معظم المجالات.
منذ ذلك الوقت، تعرف الجزائر جمودًا سياسيًا، فالمحتجون يطالبون بابتعاد كل مسؤولي النظام السابق عن السلطة، واستبدالهم بآخرين يلقون قابلية لدى الرأي العام الجزائري، فيما يصر الجيش والماسكون الفعليون بالسلطة على بقاء هؤلاء في مناصبهم لغاية في نفس يعقوب.
لم يكن الجمود السياسي السبب الوحيد لتراجع اقتصاد البلاد، فزج العشرات من رجال الأعمال في السجن، كان أحد الأسباب أيضًا
هذا الجمود السياسي الناتج عن تفرد الجيش بالرأي وإصراره على تمرير رؤيته للحل الأنسب للجزائريين بعد استقالة بوتفليقة، حتم على المحتجين مواصلة حراكهم الشعبي، فتعطل العمل وتراجع الإنتاج والمردودية خارج قطاع الطاقة بنسبة كبيرة.
كما توقفت المفاوضات بين العديد من الشركات المحلية والأجنبية، من ذلك ما حصل مع شركة سوناطراك الوطنية للطاقة التي كانت تأمل في زيادة الإنتاج بالتعاون مع شركات النفط العالمية الكبرى، فقد توقفت المحادثات تمامًا مع شركات “إكسون” و”شيفرون”، فالبلاد يحكمها رئيس مؤقت لا صلاحيات له، ما أثر على اقتصاد البلاد.
ومن المنتظر أن تشهد البلاد فترة أطول من التراجع الاقتصادي، خاصة أن الحكومة الحاليّة والرئيس المؤقت لا يملكان الصلاحيات اللازمة لاتخاذ القرارات الإستراتيجية، ما جعل المستثمرين يتخفون من مصير استثماراتهم في الجزائر.
رئيس الحكومة الجزائرية نور الدين بدوي
نتيجة ذلك، تواجه آلاف شركات المقاولات في الجزائر شبح الإفلاس، بسبب قيام الحكومة المؤقتة بتقليص الإنفاق العام، ما أدى إلى توقف الكثير من المشروعات خاصة في قطاع البناء والأشغال العامة الذي يشغل عشرات الآلاف من العاملين، وتعتبر الأشغال العامة والبناء من القطاعات التي تستحوذ على حصة كبيرة من المخصصات المالية التي تنفقها الحكومة على مشروعات البنية التحتية.
وضعية حرجة للشركات الكبرى
لم يكن الجمود السياسي السبب الوحيد لتراجع اقتصاد البلاد، فزج العشرات من رجال الأعمال في السجن، كان أحد الأسباب أيضًا، وإلى الآن تشهد الجزائر – بإشراف الجيش – تحقيقات الفساد مع بعض من كانوا يعملون مع الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة.
في هذه الحملة تم اعتقال أغنى رجل في البلاد وهو أسعد ربراب وإيداعه الحبس الاحتياطي، لتورطه في تهم فساد، ويشغل ربراب منصب المدير التنفيذي لشركة “سيفيتال” المملوكة لأسرته التي تستورد السكر الخام من البرازيل وتصدر السكر الأبيض إلى تونس وليبيا ودول أخرى في الشرق الأوسط (أكبر مجموعة خاصة في الجزائر).
كما طالت الاعتقالات أيضًا الأخوة كريم ونوح طارق ورضا كونيناف (رجال أعمال)، المقربين من عبد العزيز بوتفليقة، وتم وضعهم في الحبس الاحتياطي بتهمة “عدم الوفاء بالالتزامات التعاقدية عند إنجاز مشاريع عمومية وكذا استغلال نفوذ الموظفين العموميين للحصول على مزايا وتحويل عقارات وامتيازات عن مقصدها الامتيازي”.
من الأشياء اللافتة للنظر والدالة على عمق الأزمة، عدم إعداد حكومة تصريف الأعمال الجزائرية إلى الآن موازنة 2020
إلى جانب هؤلاء، تم توقيف علي حداد رئيس منتدى رؤساء المؤسسات الذي يعتبر أكبر تجمع اقتصادي لرجال الأعمال الجزائريين وإيداعه السجن، رفقة العشرات من رجال أعمال آخرين، بتهم يتعلق أغلبها بالفساد وتبديد المال العام واستغلال النفوذ.
ويواجه القائمون على الشركات التي تم اعتقال أصحابها، صعوبات عدة في تسيير العمل، ذلك أن حساباتهم المصرفية مجمدة، ولا يمكن لهم التصرف فيها في ظل تواصل التحقيقات بشأن التهم الموجهة للمعتقلين.
ويعمل مثلاً في شركات علي حداد، أكثر من 15 ألف موظف، تجد الشركات المشغلة لهم صعوبات في تسديد رواتبهم، ما جعلها ترفت العديد منهم، ليتزايد بذلك أعداد العاطلين عن العمل في البلاد ويبلغ مستويات قياسية لم تعرفها البلاد في السابق، توضح البيانات الرسمية أن واحدًا من كل أربعة مواطنين دون سن الثلاثين عاطل عن العمل، وتشكل هذه الفئة العمرية 70% من سكان البلاد.
2020.. سنة صعبة على الجزائر
نتيجة هذه العوامل، رجحت تقارير اقتصادية عالمية أن تكون سنة 2020 سنة صعبة على الجزائر، في هذا الشأن، حذرت مؤسسة الاستثمارات الاقتصادية العالمية “فيتش سوليشن” من تدهور الاقتصاد الجزائري، حيث خفضت المؤسسة في تقرير نشرته عن الجزائر مؤخرًا، توقعاتها لنموها الاقتصادي خلال 2019 إلى 1.7% مقارنة بتقديرات سابقة بلغت 2.5%.
كما خفضت توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي الجزائري خلال سنة 2020 من 2.3% إلى 2%، مرجعة ذلك إلى استمرار مخاطر الاضطرابات الداخلية منذ انطلاق الحراك الشعبي، وأضافت المؤسسة في التقرير أن هذه المخاطر مرشحة للاستمرار على المدى المتوسط رغم كل المحاولات لإيجاد حلول في البلاد.
توقعت هذه المؤسسة الاقتصادية أن تقتصر مداخيل الجزائر من النفط هذه السنة على 38.5 مليار دولار، وانتقدت “فيتش سوليشن” ضعف الإصلاحات في قطاع الطاقة مما يقلل من الجاذبية الاقتصادية ونمو الصادرات النفطية.
تراجع الاقتصاد زاد من حدة احتجاجات الجزائريين
سبق أن أظهرت بيانات حكومية ارتفاع العجز التجاري للبلاد بنحو 340 مليون دولار 12% إلى 3.18 مليار دولار في النصف الأول من العام الحاليّ، مقابل 2.84 مليار دولار في الفترة المقابلة من العام الماضي.
وكشفت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية نقلاً عن مديرية الجمارك انخفاض الصادرات بنسبة 6.57% على أساس سنوي إلى 18.96 مليار دولار، بينما تراجعت الواردات 4.30% إلى 22.14 مليار دولار، فيما بلغت صادرات المحروقات التي مثلت أكثر من 93% من إجمالي الصادرات، 17.65 مليار دولار بانخفاض نسبته 6.31%، في حين تراجعت الصادرات خارج المحروقات بنسبة 10% إلى 1.31 مليار دولار.
وكانت احتياطات صرف الجزائر – الدولة العضو في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) – قد تراجعت إلى 72.6 مليار دولار مع نهاية أبريل/نيسان 2019، مقابل 79.88 مليار دولار في نهاية سنة 2018، أي بانخفاض قدره 7.28 مليارات دولار في أربعة أشهر، حسب أرقام وزارة المالية.
من الأشياء اللافتة للنظر والدالة على عمق الأزمة، عدم إعداد حكومة تصريف الأعمال الجزائرية إلى الآن موازنة 2020، حيث تجد حكومة نور الدين بدوي صعوبة كبيرة في إعداد هذه الموازنة، فالعوامل السياسية تتصدر جدول الأعمال في الوقت الحاليّ، كما أنها تعاني من صعوبة في جمع الأموال، في ظل شح الموارد المالية وارتفاع الإنفاق الذي رفع حجم الموازنة إلى 64 مليار دولار سنة 2019.