“لأن هدف الأكاديمية هو بناء الشباب السوري بناءً منهجيًا، واستثمار المفكرين والنخب الفكرية والعلمية أينما وجدت، أطلقت الأكاديمية برنامجها في إسطنبول”، هذا ما طالعته في بداية التعريف ببرنامج إحدى “الأكاديميات” الموجودة في مدينة إسطنبول التركية، التي تقدم محتوى فكريًا وثقافيًا وبرنامجًا متنوعًا، مما يراه القائمون عليها مناسبًا لروادها، وبحسب إعلان البرنامج فإنه “لم يتقيد بقوالب جاهزة وأنماط مكررة، بل ابتدع نسقًا يلائم حاجة الشباب السوري ويلبي تطلعاته وطموحاته”.
دعانا هذا الكلام للبحث أكثر في حقيقة هذه الأكاديميات المنتشرة بالمدينة التركية التي تستقبل الكثير من المنفيين أو المهجرين أو المغتربين، والسؤال عن مناهجهم والفئات المستهدفة من هذه المشاريع التي يرنو بها أصحابها لأن تتطور وتصبح في مستويات أعلى مما هي عليه، وما الذي تستطيع تقديمه؟ وما الفجوة التي تسدها عبر وسائلها؟ وكيف ستلبي طموحات وتطلعات الشباب المنتمين إليها؟
بعد ما رأيناه في الأعوام الماضية فإن هذا البرنامج لا يختلف كثيرًا عن غيره مما تعتمده بقية الجمعيات والمؤسسات التثقيفية والفكرية التي تعتمد بشكل أساسي على نوع معين من الشباب، وتضع مناهجًا معينًا للسير عليه، إلا أن بعضها قدم نموذجاً جديداً يستحق الدراسة والمتابعة، وغالبًا فإن هذه المؤسسات يطلق عليها مؤسسوها اسمًا معينًا مسبوقًا بلقب “الأكاديمية”، في حال كانت فقط للمهام الفكرية أو الندوات العلمية كـ”أكاديمية فجر” و”أكاديمية نهر”.
ونتيجة ما حدث في البلدان العربية واستقرار العديد من الشباب العربي في إسطنبول، كانت هذه الأكاديميات مقصدًا للبعض، ووجدوا فيها ملاذًا لتوسيع نطاق معرفتهم وزيادة وعيهم بالإضافة لبناء قنوات تواصل مع الشباب الآخرين من الثقافات الأخرى وخلق حالة اجتماعية جديدة في بلد الاغتراب هذا.
إلا أن الشاب عيسى الذي التزم مع إحدى الأكاديميات لمدة ليست بالقصيرة قال لـ”نون بوست” إنه في بداية التحاقه بأحد هذه البرامج وجد نمطًا اجتماعيًا مميزًا واستطاع التغيير من مستواه الشخصي، مشيرًا إلى أنه مع مرور الوقت أصبح البرنامج مكررًا ولا يلبي الطموحات التي انتسب من أجلها، وأصبحت باتجاه واحد مع تكرار في نفس المدرسين ولذلك قرر ترك البرنامج.
طموحات وأهداف
للوهلة الأولى فإن من ينظر للاسم على أنه أكاديمية، فإنه يعتبرها شيئًا قريبًا من الجامعات وتقدّم تعليمًا مكثفًا، غير أن هذا العمل يعتبر تطوعيًا وتثقيفيًا ولا يقدم شهادةً معترفًا بها. من جهته يقول همام التون مدير “أكاديمية فجر” (أكاديمية معنية بالشباب السوريين) لـ”نون بوست”: “إدخال اسم أكاديمية جاء باعتبار أن هناك منهاجًا يتم دراسته، فيه مدخلات وخطة دراسية يتم تلقيها بشكل متدرج وعلى مراحل مع تقييم نهائي وهدف نطمح ونسعى للوصول إليه وهو مخرج البرنامج والمتدرب يطلب منه الحضور الكامل لهذا السبب أسميناها بهذا الاسم”.
يقول الدكتور وائل الشيخ أمين الباحث والكاتب في قضايا الشباب والتغيير، في حديثه لـ”نون بوست”: “هذه المؤسسات أطلقت على نفسها صفة الأكاديمية تعبيرًا منها عن الجدية في التدريس والعلمية في إعداد المناهج وتطبيقها، فهي تقوم على فلسفة واضحة في الإعداد، ورؤية واضحة في التراكم البنائي، ولديها مستشارون علميون في التخصصات التي يدرسونها، واختبارات في نهاية كل مرحلة أو وسائل تقييم مختلفة، فكان لفظ الأكاديمية للتعبير عن كل هذا، وحتى لا يفهم أنها مجرد لقاءات دورية في أجواء ثقافية فقط”.
ويرى الشيخ أمين أن هذه الأكاديميات “تجمع هؤلاء الشباب في مجتمعات صغيرة، وهذه المجتمعات مفيدة جدًا وغاية في حد ذاتها، فاللغة الثقافية المشتركة داخل هذا المجتمع، والمهارات التي يكتسبونها معًا، والحوارات التي يعقدونها، كل هذا يزيد من احتمالية نجاحهم في مشاريع نهضوية يقومون بها”.
محاضرة في أكاديمية فجر
تعتبر هذه المشاريع الشبابية تجميعية ومناطق لتلاقي الشباب، في ظل الضغوطات الحياتية التي يلاقونها في هذه المدينة، فمنهم من هو طالب أو عامل، من جهته يقول همام التون: “الفائدة من هذه الأكاديميات أنها تشكل حالة تطوعية تضيف قوة للمجتمع المدني وخاصة للمجتمع السوري في المهجر وتجعلنا أكثر تماسكًا وتلاقيًا وأكثر تفكرًا بواقعنا ومستقبلنا خصوصًا أن جزءًا كبيرًا من القضايا التي ندرسها أو نناقشها مرتبطة بواقعنا وقضايانا بشكل مباشر”، ويشير همام إلى أن مشروع الأكاديمية وغيره من المشاريع المشابهة تعكس صورة إيجابية عن حيوية الجالية العربية وسعيها لأن تكون عاملاً بناءً في المجتمع الجديد الذي تعيش فيه.
وفي تقرير سابق لـ”نون بوست“، قال معاذ الراوي أحد مسؤولي الأكاديمية الدولية للقيادة والتنمية في إسطنبول، وهي مؤسسة معنية بشؤون الطلبة العراقيين، إن مؤسستهم تساهم في اكتشاف الطاقات وتنمية القدرات لدى الفرد والمنظمات، من خلال توفير بيئة تربوية ملائمة، ويضيف الراوي “رؤية الأكاديمية تُختصر بأنها مؤسسة بيت خبرة رائدة ومتخصصة في بناء القدرات وتوفير بيئة تعليمية وتنمويّة متطورة، وتهتم ببناء الإنسان، مع التزامها بقيم النجاح والإبداع والتميُّز”.
مناهج خاصة
تقدم هذه المؤسسات مناهج خاصة بها، بحسب سياستها التي تضعها إداراتها، فقد تكون دينيةً أو فكريةً تثقيفيةً أو توعوية، إلا أنه ومن خلال البحث وجدنا أن هذه الأكاديميات قائمة على أساس العمل الإسلامي الفكري الذي يستقطب شرائح واسعة من الشباب المقيمين في تركيا، وقد تمتد لتشمل أفرعها في حال وجودها بغير مدن أو دول.
من جهته يروي الدكتور وائل الشيخ أمين لـ”نون بوست” أن هذه الأكاديميات نشأت من رحم مشاكل الأمة التي وعتها في ثورات الربيع العربي، ولذلك فالقائمون عليها يمتلكون فلسفةً خاصةً بهم في وضع المناهج تختلف عن فلسفات الجامعات، ويشير إلى أنهم “يريدون أن يفهم الشاب واقعه بشكل أفضل، وأن يكون قادرًا على إحداث تغيير في هذا الواقع”.
معظم المناهج والبرامج التي تركز عليها برامج التعليم البديل تكون برامج تدريبية وتكمن أهميتها في أنها تجعل الشباب أكثر انفتاحًا على روح العصر وكثيرًا ما يتخرج الطالب من جامعته ويجد نفسه وأفكاره وقناعاته بعيدة غير ملائمة للتطورات المعاصرة التي تحيط به ويشعر بفجوة كبيرة بين ما درسه واحتياجات الواقع والمستقبل كما يروي همام التون.
القائمون على هذه الأكاديميات لا يفكرون بأي حال أن يكونوا بديلًا للتعليم الجامعي، خاصة أنهم يستهدفون الطلاب الجامعيين
ويكمل همام بأن هذه البرامج “تملّكهم الأدوات العملية للتعامل مع الواقع وتكون مرتبطة عادة بالحاجة العملية بشكل مباشر، فهي تتجاوز مشكلة الإغراق في الجانب النظري الذي يغرق فيه التعليم الرسمي”، ويوضح “لما خرجنا إلى بلاد المهجر وجدنا الحاجة أكبر إلى التدريب وشعرنا بحجم الانغلاق والأفق الضيق على مستوى القناعات والمهارات التي كنا نعيشها في بلادنا تحت ظروف الاستبداد”.
وعما إذا كان الشباب العربي في تركيا الهدف الوحيد لهذه التجمعات يقول الشيخ أمين: “القائمون على هذه الأكاديميات لا ينحصر تفكيرهم الجغرافي في تركيا، بل ينصب اهتمامهم في أوطانهم وأبناء جلدتهم ابتداءً، ولذلك فإن الجامعات التركية لا يمكن أن تلبي لهم كل احتياجاتهم المعرفية والفكرية والتأهيلية”.
الدكتور وائل الشيخ أمين
تعليم بديل
ورغم الإقبال الذي يعتبر مرتفعًا على هذه المؤسسات، فإن القائمين على تلك الأكاديميات لا يعتبرونها بديلًا عن التعليم التقليدي، “وفي النهاية فإن النظام التعليمي الرسمي هو ضرورة أساسية في هذا العصر ولا يمكن أن يستغنى عنه المجتمع”، طبقًا لهمام التون الذي أشار أيضًا إلى أن أكاديميتهم “تشكل حالة داعمة ومكملة في مجتمع المهجر”، ويشير أن لديهم فرعًا عن مؤسستهم في الشمال السوري المحرر، وأضاف: “مع ضعف التعليم الرسمي وعدم وجود برامج معتمدة يصبح البرنامج في هذه المنطقة أكثر أهميةً وتأثيرًا”.
ويعتبر همام أن برامجهم من الممكن أن تكون داعمًا للتعليم في المجتمع بشكل عام لأنها ترفع من قيمة التعليم والاهتمام بالعلم كعلم، مشيرًا إلى أنه عندما “يتعود الطالب أن هناك برنامجًا يلتزم فيه لمجرد قيمته العلمية وهو يحضر ويقرأ ويستمع ولا ينتظر في النهاية شهادة رسمية، بالتأكيد هذا سيغير من بعض القيم التي حولت الهدف من التعليم، الانتقال من مرحلة إلى أخرى وانتظار الحصول على شهادة”.
ولا يعتقد الدكتور وائل الشيخ أمين أن القائمين على هذه الأكاديميات يفكرون بأي حال أن يكونوا بديلًا للتعليم الجامعي، خاصة أنهم يستهدفون الطلاب الجامعيين، ويضيف “نعم هي نشاطات تثقيفية ولكن لا نقصد بالتثقيف هنا الرفاهية المعرفية، بل نقصد ما يحتاج إليه الشاب ليكون عنصرًا فعالًا في بناء نهضة أمته”.
ومن النقاط المهمة أيضًا في هذه البرامج أن بعضها بدأت تركز على العلوم الإنسانية وهي علوم ضرورية للنهضة بالأمم وكثير من الطلاب يتجهون لدراسة العلوم التطبيقية نتيجة النظرة العامة أنها تحقق دخلًا ماديًا أفضل، ثم يكون لهؤلاء الطلبة نشاط في الأعمال الاجتماعية وهنا تكون الحاجة أكبر للمعرفة في العلوم الإنسانية التي تساعد على فهم السنن في ميدان العمل الاجتماعي وفهم منهج التغيير والبناء الصحيح، بحسب همام التون، ويوضح بأن الأكاديميات تقدم بعض البرامج كخلاصات مكثفة في هذه المجالات توسع آفاق المتدرب وتجعله أكثر قدرة على التوسع مع هذه العلوم والتعامل معها.
ودائمًا ما تواجه هذه المؤسسات تحديات كبيرة، على رأسها الجانب المادي والتمويل، وتقدم هذه الأكاديميات دبلوماتها على شكل منح، ولا تتقاضى أية أجور من الطلاب. ما يعني أنها تتلقى تمويلًا من جهات ورجال أعمال مؤمنين بأهمية المشروع وجدواه النهضوي، لكن يبقى التحدي في الحفاظ على حماسة هؤلاء المستثمرين بالشباب ونموّهم الفكري.