خسائر مليارية فادحة تأتي على القطاعين العام والخاص في العراق بشكلٍ شبه يومي، ضمن سيناريو الحرائق التي باتت تلتهم الأخضر واليابس في البلاد، بدءًا من الأراضي الزراعية، ووصولًا إلى الأسواق التجارية، وانتهاءً بالدوائر الحكومية، كلها تنضوي تحت ذريعة واحدة: “التماس الكهربائي”!
الحرائق في الدوائر الحكومية هي الأكثر خطورة، وتخفي تحت جناحها أبعادًا سياسية مقصودة كثيرة، يؤكد مراقبون أنها تفتعل لإخفاء جرائم فساد وتلاعب بوثائق رسمية، عادةً ما تظهر قبيل مغادرة بعض المسؤولين مناصبهم.
3596 حريقًا في غضون شهر!
من يقف وراء الحرائق؟ ولماذا تحدث في أقسام حساسة مثل الحسابات بدوائر الدولة؟ هذه الأسئلة طرحها فريق “نون بوست” على مديرية الدفاع المدني، سبقها وأعقبها أسئلة كثيرة أخرى، لم تلق أي إجابة، إلا إجاباتٍ شكلية لا تشفي غليل السائلين، منها أنهم يتذرعون بأن الموافقة لم تحصل!
عناصر من الدفاع المدني العراقي يحاولون إخماد أحد آبار النفط
وفي تصريح صحفي لافت تابعه “نون بوست” كشفت مديرية الدفاع المدني عن عدد الحرائق التي نشبت خلال شهر أغسطس/آب الماضي، إذ بلغت نحو 3596 حريقًا، غالبيتها في العاصمة بغداد، وأسبابها يكاد يكون متفقًا عليها، وكلها تشترك في “عدم الالتزام بشروط السلامة” و”التماس الكهربائي” بحسب الدفاع المدني.
الحرائق تلتهم سوق الشورجة التاريخي
يشهد سوق الشورجة الشهير، قلب بغداد التجاري ومركزها، وأحد أبرز معالمها التاريخية، يعود تاريخ إنشائه إلى عصر الدولة العباسية، منذ عام 2003 حرائق متواصلة وممنهجة، لا يلتفت مفتعلوها إلى القيمة التاريخية ولا إلى حجم الأضرار البشرية والمادية عندما يقومون بفعلتهم التي يفعلون!
الحرائق التي تنشب في المراكز التجارية العراقية ليست محصورة في سوق الشورجة، بل امتدت – بعد غياب الرقيب – لتأتي على مركز تجاري ضخم، يكاد يكون هو الآخر الأكبر في العراق، إنه سوق جميلة
يقول التاجر أحمد عبد الله لـ”نون بوست”: “إن الأضرار التي لحقت بالمحال التجارية والتجار جسيمة جدًا على المستويين المادي والمعنوي”، فيما انتقد تعاطي السلطات العراقية مع الحوادث المتكررة ومواقفها السقيمة إزاء حوادث جسيمة كهذه، بعد أن عزتها إلى “تماسٍ كهربائي” أو سوء تخزين، واتهم جهات لم يسمها “تسعى لضرب الاقتصاد العراقي عبر افتعال الحرائق”.
حريق كبير في سوق الشورجة ببغداد
الحرائق التي تنشب في المراكز التجارية العراقية ليست محصورة في سوق الشورجة، بل امتدت – بعد غياب الرقيب – لتأتي على مركز تجاري ضخم، يكاد يكون هو الآخر الأكبر في العراق، إنه سوق جميلة، المركز التجاري الثاني في بغداد الذي يوازي سوقها الأشهر، إذ شهدت الفترة الماضية هجمات مسلحة استهدفت أبرز تجاره، لتمتد آثاره كذلك في ضرب الاقتصاد الذي يشهد تدهورًا في هذا البلد منذ عقود خلت.
خسائر بالمليارات حصاد مسلسل الحرائق
في هذا الإطار يقول الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الرحمن المشهداني: إن “الأضرار الاقتصادية نتيجة الحرائق كبيرة وجسيمة، والقطاع التجاري يتكبد خسائر تصل إلى مليارات الدنانير”.
وأضاف المشهداني في تصريح لـ”نون بوست”: “الحرائق التي تحدث كبدت التجار العراقيين خسائر هائلة”، وعلى سبيل المثال يوضح المشهداني أن الحريق الذي نشب بسوق العطور في بغداد وصلت خسائر كل تاجر بسببه إلى أكثر من مليار دينار عراقي.
أوضح المشهداني أن هناك أبعادًا سياسية أيضًا وراء اتساع رقعة الحرائق التي تشهدها الأسواق التجارية، فيما لم يستبعد وقوف جهات خارجية تهدف إلى ضرب الحركة التجارية المحلية
وتتباين أسباب الحرائق من وجهة نظر الخبير الاقتصادي بين أسباب عدة، يمكن لمن يقرأ بنودها بتأمل أن يدرك أنه مسلسل مؤامرات، اختلفت في أسبابها، لكنها اتحدت في نتائجها، منها أن أصحاب الأملاك يرومون إخراج التجار من أملاكهم وإعادة تأجيرها بسعر أغلى أو تغيير جنسها أو هي نتيجة صراع تجاري بين التجار أنفسهم، وقد تمتد إلى أسباب أخرى، يمكن أن تكون شخصية أو غير ذلك.
وأوضح المشهداني أن هناك أبعادًا سياسية أيضًا وراء اتساع رقعة الحرائق التي تشهدها الأسواق التجارية، فيما لم يستبعد وقوف جهات خارجية تهدف إلى ضرب الحركة التجارية المحلية في هذا البلد الملتهب بكل أنواع الحرائق!
القطاع الزراعي.. حرائق هائلة وأسباب عدة
القطاع الزراعي هو الآخر لم يسلم من عمليات الحرق التي طالت مفاصل وقطاعات عديدة في العراق، إذ تباينت أسباب حرائقه بين الشرارة الكهربائية والتنازع على الأرض وعدم الاستقرار الأمني في بعض المدن والإرهاب في بعض الأحيان، فيما أكد مزارعون أنها تمت بفعل فاعل، وبطريقة منسقة، حتى إنه يمكن القول: تعددتْ الأسباب والحرق واحد. هو واحد في نتائجه، بل إنه يصب في نتيجة مشتركة واحدة هي حرق ما تبقى من جسد هذا البلد المنكوب.
الاقتصاد العراقي تحت رحمة ذئاب جائعة
تؤكد وزارة الزراعة أن “عدم الاستقرار الأمني والسياسي في العراق يجعله عرضة للتدخلات الخارجية، ومعظم الحرائق تستهدف اقتصاده لجعله بلدًا مستوردًا للمحاصيل”.
عقب إعلان العراق اكتفائه الذاتي من منتجات الدواجن ومنع استيرادها من دول الجوار، التهم حريق هائل في أغسطس/آب الماضي أكبر مشروع للدواجن في البلاد، وأتلف عددًا من القاعات المخصصة للدواجن ومعدات قدرت خسائرها الأولية بنحو مليار دينار عراقي
يقول المتحدث باسم الوزارة الدكتور حميد النايف في تصريح لـ”نون بوست” إن وزارته تقوم بخطط من أجل مجابهة هذه القضية والوصول بالاكتفاء الذاتي لمعظم المحاصيل الزراعية والمنتجات الحيوانية وزيادة تشغيل الأيادي العاملة.
“أكبر” مشروع دواجن في العراق يدخل المحرقة!
التهمت النيران مشروع الدواجن في مدينة الديوانية
عقب إعلان العراق اكتفائه الذاتي من منتجات الدواجن ومنع استيرادها من دول الجوار، التهم حريق هائل في أغسطس/آب الماضي أكبر مشروع للدواجن في البلاد، وأتلف عددًا من القاعات المخصصة للدواجن ومعدات قدرت خسائرها الأولية بنحو مليار دينار عراقي، فيما تصر السلطات على تبريرها الوحيد السقيم من أنه ناتج عن “تماس كهربائي” كذلك، وكأنها لا تريد أن تتخلى عنه، حتى إن ذلك ليثير في النفس الظنون في أن أطرافًا مستفيدة من مصلحتها إسدال ستائرها المرقعة على تلكم الصور البشعة في هذه الرقعة المحروقة من العالم!
الكهرباء.. الأقل تجهيزًا والأكثر تماسًا
يعد العراق أحد أكثر البلدان في العالم تعرض اقتصاده إلى حرائق ناتجة عن “التماس الكهربائي” رغم الانقطاع الكبير للتيار الكهربائي في جميع المحافظات، الأمر الذي أصبح مثار سخرية كبيرة أمام المتطلعين ممن يهتمون بإرواء فضولهم في الوصول إلى أسباب كل ما يحدث، حينما تعزو السلطات العراقية أسباب الحرائق إلى “التماس الكهربائي”.
وتأثرت السوق المحلية سلبًا بسبب تلك الأحداث، وخرج التجار من المنافسة – كتحصيل حاصل – والتفتوا عكس ألسنة اللهب التي طالت تجاراتهم وأموالهم متجهين بها نحو مكان آمن خارج الرقعة التي تستعر كالجحيم، إثر وقوع مخازنهم وأسواقهم وسط اللهيب، ووقوفهم فاغرين أفواههم عند بقايا تجاراتهم المتفحمة، وليس هذا مجرد انتقال أموال وتجارات، بل إنه امتد ليخلق كارثة أخرى، أقل نتائجها فقدان العاملين وظائفهم، نتيجة هجرة الأموال وإغلاق المخازن بعد حرقها، وهذا ما حذر المتخصصون منه ومن نتائجه، إذا لم تتم حماية أرباب التجارة في العراق من تعرضهم لعمليات التهجير المنظمة تلك.