في ظل توقيع الرئيس الأمريكي العديد من الأوامر التنفيذية بشأن إيران واقتصادها، يزداد الجدل في العراق حول احتمالية فرض واشنطن عقوبات أو مضايقات اقتصادية على العراق لإجباره على الابتعاد عن إيران وعدم تمويلها عبر تهريب الدولار أو غض الطرف العراقي عن غسيل الأموال.
ويزداد التخوف العراقي مع تأكيد النائب الجمهوري في الكونغرس الأمريكي، جو ويلسون، أن مصرف الرافدين العراقي يسهم في تمويل إيران بالدولار وغسل أموالها، ومطالباته للإدارة الأمريكية بمعاقبة المصرف وحكومة بغداد.
تحديات اقتصادية
وتصاعدت حدة الضغوط الأميركية على العراق مع بدء فصائل مسلحة سلسلة هجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة على القواعد الأميركية والمدن المحتلة في فلسطين عقب بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، مما أضاف مزيدًا من الضغوط الأميركية على العراق، الذي كان يعاني بالأساس من تصاعد الضغوط السياسية لضبط تهريب عملة الدولار نحو إيران.
وبعد تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب سدة البيت الأبيض، تصاعدت حدة التصريحات التي تصدر عن الإدارة الأميركية، فضلاً عن الرسائل والضغوط التي يوجهها أعضاء جمهوريون في الكونغرس الأميركي.
وتعاني بغداد من عدة تحديات اقتصادية متشعبة ومتشابكة فيما بينها، حيث تجتمع وتتقاطع جميعها لترسم صورة سوداوية عن مستقبل الوضع الاقتصادي في العراق، لا سيما أن هناك تراجعًا ملحوظًا في حجم الإيرادات النفطية للبلاد التي تعتمد بنحو 90% في تمويل ميزانيتها على بيع النفط، مما يجعل مسألة مواجهة بغداد للضغوط الأميركية قضية مستحيلة.
ومع تقلبات أسعار النفط العراقية واقترابها في أحيان كثيرة من 72 دولارًا، فإن ناقوس الخطر يدق سريعًا في بغداد خوفًا من عدم إمكانية الالتزام ببنود الموازنة المالية الثلاثية 2023-2025، التي أقرت لكل عام نحو 152.2 مليار دولار.
ويأتي التخوف الحكومي نتيجة العدد الكبير للموظفين الحكوميين الذي يناهز 5 ملايين موظف، فضلاً عن أكثر من 3 ملايين متقاعد وقرابة 1.8 مليون عراقي يتقاضون رواتب الإعانة الاجتماعية، بما يشكل عبئًا ماليًا كبيرًا على الحكومة، التي تخشى في حال تراجع أسعار النفط أو تعرض البلاد لمضايقات اقتصادية أميركية أن يؤدي ذلك إلى عدم القدرة على تسديد الرواتب وخروج مظاهرات شعبية على غرار ما حدث في انتفاضة تشرين 2019.
ضغوط أميركية
منذ بدء استهداف الفصائل العراقية للمصالح الأميركية وللمدن المحتلة في فلسطين، هددت إدارة جو بايدن السابقة بفرض عقوبات اقتصادية، إضافة إلى تهديدات إدارة ترامب الجديدة التي بدأت ملامحها منذ الأيام الأولى لتوليه منصب رئيس الولايات المتحدة، حيث وقع قبل أيام العديد من الأوامر التنفيذية التي تتعلق بتشديد العقوبات الاقتصادية على طهران وقطع شرايينها الاقتصادية، التي من ضمنها العراق.
يقول رئيس الجمعية العراقية للعلوم السياسية، صادق الصيمري، إن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمنع بغداد من استيراد الغاز الإيراني يعد ورقة ضغط اقتصادية وتصنف ضمن سياسة الضغط الأقصى على إيران لإجبارها على العودة للتفاوض على برنامجها النووي بشروط أميركية، لافتًا إلى أن هذا القرار سيؤدي إلى تداعيات خطيرة، لعل أخطرها فقدان ثقة المواطن بالحكومة العراقية، وتأثر العراقيين بتراجع تجهيز الكهرباء الصيف المقبل.
من جهته، يؤكد الخبير الاقتصادي أنمار العبيدي أن العراق سيفقد قرابة 8 آلاف ميغاواط مع دخول قرار ترامب حيز التنفيذ في 5 من آذار/مارس المقبل، إضافة إلى خسارة نحو 3 آلاف ميغاواط التي يستوردها العراق من إيران بصورة مباشرة، بما يعني تراجع معدل ساعات تجهيز الكهرباء إلى نحو 50%.
وبين العبيدي في حديثه لـ “نون بوست” أن هذا الضغط الأميركي سيجعل الحكومة مكبلة اليدين دون القدرة على أي تحرك فعلي لتعويض فقدان الغاز والكهرباء الإيراني، حيث إن أي بديل للغاز الإيراني يتطلب تهيئة بنى تحتية ضخمة غير متوفرة في البلاد حاليًا.
وقد لا يتمكن العراق من الالتفاف على الضغوط الاقتصادية الأميركية، كون النظام المالي العراقي مسيطر عليه بصورة كاملة من قبل البنك الفدرالي الأميركي الذي يتولى استلام الأموال المتأتية من بيع العراق لنفطه، وبالتالي، فإن واشنطن تزود العراق بكميات معينة من الدولار الأمريكي عن طريق البنك الفدرالي ووفقًا لما تطلبه الحكومة العراقية.
وفي هذا الصدد، يقول الباحث الاقتصادي رياض العلي إن واشنطن كانت قد أكدت سابقًا أنها رصدت ملايين الدولارات العراقية في إيران وروسيا ودول أخرى من خلال تتبع الأرقام التسلسلية للدولار المرسل إلى العراق، وهو ما أدى في أكثر من مرة لتحذير الحكومة العراقية وتهديدها بإيقاف تزويدها بالدولار في عهد إدارة بايدن السابقة.
ويبدو أن واشنطن الآن، وفي ظل الإدارة الجديدة، باتت أكثر جدية في مراجعة النظام المالي العراقي، وهو ما أشار إليه صراحة عضو الكونغرس الأميركي الجمهوري جو ويلسون الذي طالب إدارة ترامب بفرض عقوبات على مصارف عراقية عديدة من بينها مصرف الرافدين الحكومي، الذي اتهمه بغسيل الأموال لصالح إيران وحلفائها.
خيارات محدودة
وفي حديثه لـ “نون بوست”، أوضح العلي أن خيارات العراق للإفلات من الضغوط الأميركية المتعلقة بالدولار تعد معدومة بشكل فعلي، لعدم قدرة العراق على استلام أمواله بمعزل عن الفدرالي الأميركي، في حين أن تعامل العراق بعيدًا عن الغاز الإيراني يبدو ممكنًا خلال 6 أشهر، اعتمادًا على ما ستقوم به حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لتجهيز البنية التحتية في ميناء أم قصر لاستلام شحنات الغاز القطري المسال لتوليد الكهرباء.
وفيما يتعلق بالدولار، كشفت تقارير دولية أن هناك قرارًا أمريكيًا باحتمال إيقاف تدفق الدولار النقدي إلى العراق في حال عدم التزام بغداد بشروط واشنطن، حيث سيقتصر تزويد بغداد بالدولار على تعاملات البنوك فيما يتعلق بالاستيراد، دون إرسال شحنات الدولار النقدي إلى البنك المركزي بصورة دورية، مما سيضع الحكومة في مأزق آخر لا يقل خطورة عن الأزمات الأخرى، إذ سيتسبب قرار مثل هذا بصعود جنوني لسعر الدولار في الأسواق السوداء داخل العراق، وهو ما سيؤثر سلبًا على أسعار جميع المواد الغذائية، فضلًا عن شلّ حركة التجارة الداخلية وفقدان العملة المحلية “الدينار” لقيمتها السوقية.
ليس هذا فحسب، إذ بات واضحًا من خلال تصريحات الإدارة الأميركية أن واشنطن ستمنع بغداد من التعامل مع إيران ماليًا وبكافة الأشكال، بما يعني أن القطاع الخاص العراقي مشمول بذلك، وهو ما سيتمخض عنه عدم إمكانية التجار العراقيين استيراد المواد الغذائية والبضائع الإيرانية نتيجة عدم إمكانية التعامل بالدولار أو حتى بالدينار العراقي، مما سيتسبب بارتفاع أسعار المواد والبضائع الإيرانية التي باتت، ومنذ سنوات، المسيطرة على السوق العراقي إضافة للبضائع الإيرانية.
ويذهب في هذا المنحى نبيل المرسومي، أستاذ الاقتصاد بجامعة المعقل في محافظة البصرة جنوبي البلاد، حيث أضاف أن العقوبات يمكن أن تمتد إلى النظام المالي العراقي، بما سيؤدي إلى تقويض التجارة مع إيران ومنع وصول الأموال العراقية إلى الداخل الإيراني.
ويعد العراق الرئة الاقتصادية الرئيسية لإيران منذ سنوات، إذ تستخدم طهران العراق منفذًا للتهرب من العقوبات الدولية والأميركية، وذلك من خلال الأذرع الإيرانية داخل العراق وتهريب الدولار النقدي إلى إيران، فضلًا عن استغلال إيران للعراق لتهريب كميات كبيرة من نفطها عن طريق العراق من خلال مزج النفط العراقي مع الإيراني.
وقد لا ترتبط العقوبات الأميركية المحتملة على العراق بملف إيران فحسب، إذ أن ضغوط واشنطن على بغداد لحل الحشد الشعبي وإنهاء أي وجود للفصائل المسلحة قد تمهد لضغوط اقتصادية على بغداد في حال عدم استجابة بغداد، وهو ما يثير قلقًا مضاعفًا للحكومة العراقية التي ليس لديها خيارات عديدة في هذا الجانب.
وفيما يتعلق بخيارات الحكومة العراقية لمواجهة تداعيات ضغوط واشنطن الاقتصادية، فإن جميع الخيارات العراقية تعد صعبة ومستحيلة في بعض الأحيان. فالإفلات من قبضة إيران السياسية والاقتصادية ليس بالأمر الهين، فضلًا عن مطالبات واشنطن بحلّ الفصائل المسلحة التي لم تستجب حتى الآن، مما يضع الحكومة أمام خيارين اثنين: إما الذهاب للحل العسكري مع هذه الفصائل، بما يهدد بدخول البلاد في حرب أهلية، أو تعرض البلاد لعقوبات أميركية أو ضربة عسكرية.
أما على مستوى الخيارات الاقتصادية الداخلية للحكومة، فقد لا تبدو سهلة هي الأخرى. فالإنفاق الحكومي المرتفع، وتفشي الفساد، والمخصصات المالية الهائلة للرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية، رئاسة الوزراء، ورئاسة البرلمان)، فضلًا عن وجود أكثر من 4 آلاف مدير عام في وزارات الدولة، تؤدي بمجملها إلى استهلاك جزء كبير من الموازنة العامة للبلاد التي تعاني في الأساس من عجز هائل يصل إلى نحو 30 مليار دولار أمريكي.
هي خيارات صعبة تواجهها الحكومة العراقية في ظل ترقب حكومي وشعبي للأسابيع القادمة، التي قد تفضي إلى تحركات جديدة للبيت الأبيض تجاه العراق، سواء عسكريًا أو اقتصاديًا، وسط انعدام الخيارات الحكومية وتعنت جميع أطراف النزاع.