ترجمة وتحرير: نون بوست
يدرك الطفل الذي يتمتع بقدرات عالية مدى اختلافه عن أترابه، فينشأ لديه شعور بالعزلة يصاحبه لبقية حياته.
يبدأ الشعور بالوحدة لدى الإنسان منذ بداية تشكل الوعي بالذات الفردية. والطفل الذي يتمتع بموهبة عالية، يدرك مدى اختلافه عن الآخرين دون أن يكون قادرا على تفسير ذلك. وينشأ لدى الطفل الموهوب شعور بالوحدة يستمر لديه طويلا، وأحيانا يسلط عليه ضغطا لا يطاق في كافة مراحل حياته.
عموما، يتعلم الطفل الموهوب الحروف والأرقام بسرعة، وفي عديد الحالات يتعلم القراءة، ويكون مهتما بالكلمات والقصص والكتب، ويشعر دائما بالفضول والقلق حول كيفية عمل الأشياء من حوله، وبعض الظواهر والحقائق مثل الموت واستحالة العودة بالزمن إلى الوراء. قد يحاول مشاركة هذه الأفكار في الحضانة أو مع زملائه في المدرسة، إلا أنهم سينظرون إليه باستغراب، أو يتجنبونه، لأنه لا أحد يفهمه. نتيجة لذلك، يستبطن الطفل شعورا بأن أمرا ما في داخله هو ليس طبيعيا، وأنه مختلف عن الآخرين. وعندما يضطر للاختيار بين التأقلم مع ممارسة الألعاب والأنشطة التي يقوم بها أقرانه، أو التقوقع والاختلاء مع أفكاره لأنه يجد ألعابهم مملة، فإنه سيميل مباشرة نحو الانعزال.
من السهل ملاحظة العزلة التامة التي يعاني منها الطفل الموهوب بمجرد إلقاء نظرة على ساحة اللعب في المدرسة أثناء الاستراحة، حيث يكون الطفل جالسا بمفرده، أو يمشي في الأرجاء دون هدف محدد
بالنسبة للفتيات، فإن الأمر يختلف قليلا، حيث أنهن سوف يفضلن الانخراط في المجموعة أملا في الحصول على القبول الاجتماعي، ويتعلمن في سن مبكرة كيفية التحكم في أنفسهن وإخفاء الاختلافات حتى يندمجن في المجموعة للشعور بالتقدير الذاتي من خلال الحصول على اعتراف الآخرين. ولكن مع مرور الوقت، فإن هذا التمثيل والسلوك المصطنع سوف يتجاوز حدود الاحتمال، ولن تكون البنت قادرة على التعرف على شخصيتها الحقيقية، وستشعر في قرارة نفسها بأنها تعاني من وحدة قاتلة.
يتقدم الأطفال عبر مختلف المستويات في المدرسة دون أن يتراجع شعورهم بالوحدة. أما أولئك الذين يتمتعون ببعض المهارات الاجتماعية، سوف يجدون طريقة لتخفيف هذا الشعور، في حين أن الانطوائيين والمتمسكين بميولاتهم ومعاييرهم الاجتماعية، والذين تتجاوز اهتماماتهم مجموعة أقرانهم المحيطين بهم، سيجدون أنفسهم بمفردهم ممتنعين عن لعب كرة القدم أو ألعاب الفيديو، ولا تتم دعوتهم لحفلات أعياد الميلاد.
من السهل ملاحظة العزلة التامة التي يعاني منها الطفل الموهوب بمجرد إلقاء نظرة على ساحة اللعب في المدرسة أثناء الاستراحة، حيث يكون الطفل جالسا بمفرده، أو يمشي في الأرجاء دون هدف محدد، ويكون مستغرقا في التفكير وغير مدرك لمحيطه، أو يجلس في الركن ليلعب مع النمل دون أن يقتله لأن مستوى التعاطف لديه يتجاوز الاعتيادي، وهو لا يسمح لنفسه بإيذاء الآخرين.
ستمر سنوات طفولة الموهوبين وتكون فيها أوقات الحزن أكثر من أوقات السعادة، حيث سيعانون من الوحدة داخل الفصل وخارجه
حيال هذا الشأن، قال البروفيسور جيم ديلايل من جامعة أوهايو في الولايات المتحدة، إن “بعض العلامات المميزة، مثل قوة المشاعر، والشخصية العاطفية، والخيال الواسع، والتفكير الذاتي، تُفسر بشكل خاطئ على أنها دليل على افتقار الطفل للمنطق، واتصافه بالشذوذ والغرابة. وتكمن المشكلة في أننا نأخذ هذه الصفات التي تميز الطفل الموهوب وننظر إليها من زاوية سلبية، ونحاول إجباره على التشبه بالآخرين والالتزام بالمعايير السائدة والمقبولة لدى المجتمع”.
ستمر سنوات طفولة الموهوبين وتكون فيها أوقات الحزن أكثر من أوقات السعادة، حيث سيعانون من الوحدة داخل الفصل وخارجه. فقط المحظوظون من بينهم سيجدون من يلاحظ عبقريتهم ويتحدث معهم، ويشرح لهم بكثير من الحب والتفهم أنهم لا يشكون من أي عيب. أما الباقون، فسيكونون غير مرئيين ولن يلاحظ الناس تميزهم، ويضمحل تقديرهم لذاتهم بشكل كامل حتى لا يعودوا قادرين على استعادة الثقة بأنفسهم.
في المراهقة، سيكون على الطفل الموهوب مواجهة مجموعة جديدة من التحديات التي تنضاف إلى الآثار التي يحملها معه منذ مرحلة الطفولة. في هذه المرحلة العمرية، تصبح الهوة بين الموهوبين وأقرانهم كبيرة بشكل لا يطاق. عموما، يحتاج المراهق في هذه الفترة للشروع في بناء شخصيته، وذلك من خلال التشبه بأقرانه، باعتبار أن والديه لم يعودا هما القدوة والمعيار بالنسبة له كما كان الأمر في الماضي، وهذا يترك المراهق الموهوب في حالة من الضياع التام، بسبب الهوة السحيقة بينه وبين أبناء جيله.
بالنسبة للفتيات بشكل خاص، فإن هذه الفترة من حياتهن تشهد الانهيار التام لكل المحاولات المبذولة سابقا للاندماج والتشبه بالآخرين
فكيف له أن يتمكن من هذه النقلة دون وجود مرآة ينظر فيها ليرى نفسه؟ سوف يقوم البعض من هؤلاء الموهوبين بمحاولات يائسة وفاشلة للشعور بالانتماء، وذلك من خلال تقليد الكلمات السائدة والتفوه بالعبارات العدائية، أو حضور الحفلات الصاخبة والتظاهر بالاستمتاع مثل الآخرين، أو حتى إخفاء موهبتهم التي تحولت بالنسبة لهم إلى لعنة، بينما سيفضل آخرون الاختفاء تماما والاستسلام للعزلة في غرفهم، والتركيز على التفكير في مخاوفهم واحتياجاتهم، وتوجيه اللوم للعالم لأنه أساء فهمهم.
بالنسبة للفتيات بشكل خاص، فإن هذه الفترة من حياتهن تشهد الانهيار التام لكل المحاولات المبذولة سابقا للاندماج والتشبه بالآخرين. ستفتقر البنت إلى الأشخاص الذين ترى فيهم نفسها، وستكتشف أن شخصيتها اختفت تماما، لأن استراتيجية التصنع من أجل الاندماج التي استخدمتها في الطفولة، ستكون تكلفتها عالية جدا.
بعد ذلك، يصل هذا الموهوب إلى مرحلة النضج بكثير من الندوب وآثار الحروب التي خاضها، والتي حولته إلى كائن غريب. ولحسن الحظ، شهدت السنوات الأخيرة تطورا في الوعي العام بمدى موهبة هؤلاء الأطفال والقدرات الخاصة التي يتمتعون بها.
وتجدر الإشارة إلى أن نسبة الأشخاص الموهوبين تبلغ 2 بالمئة من إجمالي السكان، وهم يتميزون بمظهر خاص بهم وطريقة مميزة في استيعاب الواقع بعيدة جدا عن السائد والمعتاد، حيث أنهم يمتلكون إحساسا عميقا ووعيا كبيرا بفضل تركيبتهم الدماغية ونشاطهم العقلي.
تبدأ الأجوبة بالظهور في حياة الموهوبين، بينما تبرز أسئلة جديدة. وتمثل هذه النقطة مرحلة ولادة حقيقية بالنسبة لهم
إن الأشخاص الموهوبين لا يختلفون عن الآخرين من حيث قدراتهم الذهنية فقط، وهو أمر يلاحظه الآباء والأمهات الذين ينجبون أطفالا موهوبين. أما الكبار الذين يتميزون بقدرات استثنائية ويمرون بكافة مراحل المعاناة بسبب عدم فهمهم لأنفسهم، يتمكنون من فهم موهبتهم عندما ينجبون أطفالا يحملون نفس الموهبة، وهو ما لاحظه الأخصائيون في مجال البحوث الطبية.
من هنا تبدأ مرحلة جديدة من استكشاف الذات لدى هؤلاء الكبار الموهوبين، الذين قد ينتهي بهم الأمر إلى الشعور بالغضب لأنهم لم يكتشفوا هذه الحقائق في الوقت المناسب وظلوا لسنوات يعانون المشاكل النفسية بسبب تفردهم واختلافهم عن الآخرين، لدرجة أن بعضهم كانت تراودهم أفكار بأنهم مصابون باختلال عقلي.
تبدأ الأجوبة بالظهور في حياة الموهوبين، بينما تبرز أسئلة جديدة. وتمثل هذه النقطة مرحلة ولادة حقيقية بالنسبة لهم، لأنهم سيبدأون بالعيش وهم يعرفون سبب اختلافهم عن الآخرين، وحقيقة تركيبتهم العقلية، وكيفية تأثيرها على حياتهم. وبعد أن كانوا يعانون من عقدة الإحساس بالنقص، سيصبح لديهم شعور بالتميز والتفوق عن الآخرين.
في النهاية، لا أريد أن أقول إن هذه نظرة متشائمة عن ظاهرة الأطفال الموهوبين، بل هي مقاربة متعاطفة مع أكثر أنواع الاختلاف إيلاما، وهي اعتراف بمعاناة الأمهات والآباء الذين يقومون كل يوم بجهود خيالية لتربية طفل يحمل هذه الصفات، ويعاني من الوحدة ويتعامل بشكل يومي مع سوء الفهم والأفكار المغلوطة التي تجرده من أي شعور بالفخر والتميز. أنا أعرف هذا النوع من الناس، وأشاهدهم يبكون ويعانون ولكنهم لا يستسلمون، فقد كنت واحدة منهم، وأصبحت أيضا أما لاثنين منهم.
المصدر: البايس