يُقدَّم مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في بغداد على أنه خطوة حضرية طموحة تسعى إلى تحديث البنية التحتية وإعادة تشكيل المشهد العمراني للعاصمة العراقية، من خلال تخصيص مساحات متكاملة لكل وزارة وفق بنية تحتية حديثة، لكن تساؤلات جدية تكتنفه، تتعلق بملكية الأراضي، وجدواه الاقتصادية، والتحديات الاجتماعية والسياسية، فضلًا عن مخاوف حول دوافعه التي يُخشى أن تكون طائفية تهدف لتغيير ديموغرافي بالمنطقة.
مشروع حضري طموح
وتتجه الحكومة العراقية نحو تنفيذ مشروع العاصمة الإدارية الجديدة كجزء من رؤية أوسع لإعادة تشكيل المشهد الحضري، في ظل مساعٍ لتحديث البنية الحضرية وتوسيع نطاق التنمية العمرانية.
وأعلنت وزارة الإعمار والإسكان والبلديات العامة في العراق عن تقديم 4 شركات مصرية طلبات لإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة في مدينة النهروان ببغداد، في خطوة تسلط الضوء على توجه حكومي نحو تطوير نموذج حضري جديد في العراق.
وأوضح رئيس هيئة المدن الجديدة في الوزارة، المهندس حامد عبد حمد، في تصريح نشرته صحيفة الصباح الرسمية، في 5 شباط/فبراير الجاري، أن الشركات المصرية المتقدمة تمتلك خبرة واسعة في تنفيذ مشاريع المدن الجديدة والعواصم الإدارية، سواء في العراق أو في مصر.
وأضاف حمد أن الوزارة ما زالت في مرحلة دراسة العروض وعقد اجتماعات مع ممثلي الشركات لاختيار الأنسب، في وقت يحتاج فيه المشروع إلى تخطيط دقيق لتحديد مواقع الوزارات وضمان الانتقال السلس للأنشطة الحكومية.
ويتضمن المشروع تخصيص 50 دونمًا لكل وزارة، مع إنشاء بنية تحتية حديثة تشمل طرقًا سريعة ووسائل نقل متطورة.
وتأمل مصر في استنساخ تجربتها بإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة في القاهرة، والتي نفّذت بمشاركة شركات وطنية ودولية.
ويمكن أن تشكّل الخبرات المصرية رافدًا مهمًا لمشروع العاصمة الإدارية الجديدة في بغداد، غير أن نجاح التجربة في العراق يتطلب معالجة العقبات الإدارية والسياسية والمالية، لضمان تنفيذ المشروع وفق رؤية واضحة، بعيدًا عن التحديات التي قد تعرقل الاستفادة الكاملة من التجربة المصرية.
تساؤلات وقضايا عالقة
رغم الطابع الطموح لهذا لمشروع الملياري الكبير، تبقى العديد من القضايا العالقة التي تثير تساؤلات حول أولوياته وجدواه في سياق التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه العراق.
ومع أهمية الاستفادة من الخبرات المصرية وتجربتها، تُطرح العديد من علامات الاستفهام حول مدى توافقها مع الواقع العراقي من حيث التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
وبينما تبدو مخططات المشروع واقعية على الورق، إلا أن التحدي الأكبر يكمن في إمكانية إسهام هذا التطوير في تلبية احتياجات المواطنين وليس فقط المؤسسات الحكومية، خاصة في ظل الحاجة الماسة لتحسين جودة الحياة في الأحياء الحالية للعاصمة.
وفي إطار رؤية أوسع، أشار المهندس حمد إلى أن مشروع إنشاء مدن جديدة مدرج ضمن البرنامج الحكومي، مع خطط لإنشاء 52 مدينة مستقبلية موزعة في أنحاء العراق، ويثير هذا الطموح الكبير إشكالات حول آليات التمويل، وضمان استدامة هذه المشاريع، ومدى قدرة الدولة على تحقيق توازن بين تطوير مدن جديدة وتأهيل المدن القائمة.
لا شكّ أنّ مشروع العاصمة الإدارية الجديدة يعدّ خطوة جريئة نحو إعادة رسم المشهد الحضري للعراق، لكن نجاحه سيعتمد على مدى قدرته على معالجة التحديات الحقيقية التي يواجهها المواطنون، وضمان أن يكون جزءًا من رؤية شاملة للتنمية المستدامة، وليس مجرد مشروع رمزي يضيف عبئًا جديدًا على كاهل البلاد.
عقبات تواجه الطموح
يواجه مشروع العاصمة المتلكئ منذ سنوات، مجموعة من العقبات التي قد تحول دون تنفيذه على أرض الواقع، حيث تتداخل عدة عوامل تؤثر بشكل مباشر على سير العمل فيه، من نقص في البنية التحتية اللازمة إلى تحديات مالية وتنظيمية، فضلًا عن تعقيدات سياسية وأمنية قد تخلق بيئة غير مستقرة.
وتعترض مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في بغداد تحديات جوهرية تتعلق بالموقع، حيث يشير الباحث في الشأن السياسي والأمني، رعد هاشم، إلى أن هناك تضاربًا في تحديد مكان إنشائها، وسط غياب الوضوح في التخطيط الأولي.
وما تزال مسألة اختيار الموقع محل جدل، فعدم الشفافية في تخصيص الأرض قد يؤدي إلى تعقيدات قانونية وإدارية تعرقل التنفيذ.
ويبيّن هاشم في حديثه لموقع نون بوست أن هذا التضارب يثير مخاوف بشأن النزاعات على ملكية الأراضي، خاصة في ظل استمرار المشكلات العقارية منذ عام 2003 نتيجة التشابك بين المصالح العشائرية والسياسية.
ورغم أن المشروع يمثل قفزة حضرية، إلا أن مسألة اختيار الموقع ما زالت محل جدل، فعدم الشفافية في تخصيص الأرض قد يؤدي إلى تعقيدات قانونية وإدارية تعرقل التنفيذ.
ومن الناحية السياسية، يبدو أن المشروع لا يحظى بإجماع، إذ قد تثير منطقة إنشائه خلافات ذات طابع سياسي وطائفي، ويثير هاشم تساؤلات حول سبب الإعلان عنه دون توافق سياسي مسبق، خصوصًا مع ارتباطه بعقود بمليارات الدولارات، مما يجعله محط اهتمام الأحزاب السياسية.
كما يحذّر مراقبون من أن توقيت الإعلان، الذي يتزامن مع قرب الانتخابات، يطرح فرضية استغلاله لكسب تأييد القوى السياسية وضمان توافقها على المشروع مقابل مكاسب معينة.
أما من حيث الجدوى العملية، فإن ازدحام بغداد قد يبرر الحاجة إلى العاصمة الجديدة، لكن المسافة البعيدة عنها قد تشكل عائقًا أمام فئات معينة، مثل كبار السن، في ظل افتقار البلاد إلى وسائل نقل عام متطورة.
وبالنظر إلى المستفيدين، فمن المحتمل أن تكون المؤسسات الحكومية الأكثر استفادة، نظرًا لما يوفره المشروع من مركزية إدارية تسهل التنسيق بين الوزارات، لكن مدى تأثيره المباشر على المواطنين يبقى موضع تساؤل.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من التجربة الكبيرة للشركات المصرية في تنفيذ مشاريع مماثلة، إلا أن هاشم يرى أن العوائق الحقيقية تكمن في بيئة العمل داخل العراق، حيث لا تزال البيروقراطية والفساد من أبرز التحديات؛ فنجاح المشروع لن يعتمد فقط على قدرات الشركات المنفذة، بل أيضًا على مدى قدرة الحكومة العراقية على توفير بيئة عمل خالية من الفساد، تضمن الشفافية وتحمي المشروع من الابتزاز السياسي.
وتمثل التحديات المالية عقبة رئيسية أمام المشروع، فمع قرب انتهاء ولاية الحكومة الحالية، تبرز مشكلة تأمين السيولة المالية اللازمة للمشروع، ويبدو أن هناك مخاوف من أن يلقى المشروع مصير العديد من المشاريع المتعثرة التي توقفت بسبب تغير الحكومات وعدم التزام الإدارات الجديدة بها، كما أن أي تأخير في التمويل قد يخلق نزاعات قانونية مع الشركات المنفذة، مما يهدد استمرارية العمل ويؤدي إلى تعطيله.
ويرى هاشم أن المشروع لا يزال يفتقر إلى رؤية متكاملة تضمن نجاحه بعيدًا عن التجاذبات السياسية والأزمات المالية، فبدون توافق سياسي حقيقي، واستراتيجية اقتصادية واضحة، قد يتحول المشروع من خطوة نحو التطوير الحضري إلى عبء جديد يفاقم التحديات التي تواجهها البلاد.
أزمة قديمة تتجدد
وأثار إعلان الحكومة العراقية السابقة عن تخصيص 106 آلاف دونم من الأراضي المحيطة بمطار بغداد للاستثمار جدلًا واسعًا، وسط رفض سياسي وشعبي يتهم المشروع بأنه غطاء لصفقات فساد وإضرار بالمصالح الوطنية.
وقوبل المشروع الذي أعلن عنه عام 2021 بانتقادات حادة من قوى سياسية وسكان المناطق المتأثرة، الذين يرون فيه تهديدًا لحقوق الملكية الخاصة، حيث يمتلك العديد منهم سندات رسمية تعود لعقود مضت.
واعتبر تحالف “القرار العراقي” و”تحالف عزم” آنذاك أن المشروع يتجاوز حقوق السكان ويشكل خطرًا على النسيج الديموغرافي للمنطقة، مشيرين إلى مخاوف من تهجير قسري وتغيير سكاني، كما دعا هؤلاء القوى البرلمان والقضاء للتدخل ووقف المشروع.
وقال رئيس مجلس النواب محمود المشهداني، غداة الإعلان عن المشروع عام 2021، إن “مشروع مدينة الرفيل يثير مخاوف الطائفة السنية، ويتعيّن على رئيس الوزراء الابتعاد عن القضايا التي تسبب خلافات سياسية واجتماعية”.
وأضاف المشهداني في تصريحات صحفية، أن “المشروع سيؤدي إلى الإضرار بمصالح الناس وتاريخهم والمناطق التي يسكنونها”، معربًا عن تساؤله من الفائدة من إقامة المدينة على أنقاض أهلها ودمار مناطقهم وتاريخهم، لا سيما أنه غير مستكمل للشروط الصحيحة.
ويتخوف معارضو المشروع من كونه جزءًا من مخطط أكبر لإحداث تغييرات ديموغرافية في محيط بغداد، خاصة مع سجل سابق من النزاعات حول ملكية الأراضي وعمليات التهجير التي شهدتها مناطق مثل جرف الصخر والطارمية، ويرى هؤلاء أن المشروع قد يؤدي إلى إقصاء مجتمعات محلية لصالح مصالح اقتصادية وسياسية.
وفي هذا الصدد، يقول المحلل السياسي عبد القادر النايل إن “المشروع لم يكن هدفة النهضة العمرانية لبغداد أو إنشاء عاصمة جديدة؛ لأنه جاء فقط إعلان حكومي عن إنشاء بنايات على مناطق معينة من حزام بغداد، والتي يسكنها المكون السني العربي فيها”.
وفي حديثه مع نون بوست، أضاف النايل: “هناك مشروع بدعم إقليمي بدأ منذ الاحتلال الامريكي للعراق؛ يهدف لتهجير العرب السنة من بغداد، ابتدأ بالاغتيالات والاعتقالات والتهجير القسري، حتى وصل اليوم إلى حجة بناء عاصمة بغداد ومدن سكنية يتم العمل على التغير الديموغرافي بشكل كبير وإحلال سكان مكان سكان آخرين”.
كما أن هناك تخوفات أخرى تضاف على مخاوف إسكان عراقيين من خارج بغداد على أسس طائفية، تتمثل في إسكان أجانب في هذه المناطق، تمهيدًا لتغيير تركيبة مناطق حزام بغداد، حيث يشير النايل إلى “وجود الآلاف من الباكستانيين والأفغان والإيرانيين قد منحوا الجنسية العراقية”.
ويلفت إلى أن “هذه المخاوف حقيقة وواقعية، وليست مبالغ فيها، لأنها حدثت لعشرات المدن العراقية التي أصبحت منزوعة السكان على أسس طائفية، مثل جرف الصخر، وعزيز بلد ويثرب والعوجة، وقرى الإمام في ديالى، ومجمع الفوسفات السكني غرب الأنبار، وغيرها”.
لذا، يتطلب المشروع آليات يمكن تحافظ على عدم التغير الديموغرافي، ويوضح النايل أنها تتمثل في أن تكون هذه المدن لأبناء المناطق التي شيدت عليها أولًا، ومن ثم توسيع دائرة المشاركة في التصميم العمراني لبغداد، كما أن تخضع لاستقبال تصاميم من مكاتب هندسية عراقية وعربية وعالمية بطريقة شفافية، على ألا تؤثر على المساحات الخضراء والزراعية لحزام بغداد.
فضلًا عن ذلك، يتطلب تشريع قانون يلزم الحكومة بألا يسكن بغداد إلا سكانها الأصليون، لأن هجرة المواطنين من القرى والأهوار باتجاه العاصمة، “أثر عليها وعلى سكانها الأصليين بشكل كبير”، كما يقول النايل.
من جهتها، أقرت رئيسة الهيئة الوطنية للاستثمار، سها داود نجار، في لقاء تلفزيوني حينها، بوجود ثغرات في قانون الاستثمار قد تسمح بمنح الأراضي بأسعار زهيدة، مما يعزز الشكوك حول إمكانية استغلال المشروع لأغراض فاسدة.
ورغم الحاجة الملحة لمشاريع تنموية كبرى في العراق، إلا أن تحقيق التوازن بين متطلبات التنمية واحترام حقوق سكان تلك المناطق يبقى هو التحدي الحقيقي الذي سيحدد مصير هذا المشروع.
خطوة ضرورية
من جانب آخر، يرى بعض المراقبين أن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في بغداد يشكل خطوة ضرورية لمعالجة العشوائية والفوضى التي تعاني منها العاصمة، إذ يقول المحلل السياسي علي البيدر إن المشروع يسهم في تقديم صورة أكثر حداثة وحضارية للعراق.
ويؤكد في حديثه لموقع نون بوست أن نجاح المشروع يتطلب توفير ضمانات قوية، من بينها تعزيز أدوات الرقابة والاستعانة بشركات إنشائية رصينة تمتلك سمعة دولية، مما يضمن التزامها بمعايير الشفافية والجودة.
كما أن تأمين المشروع عبر انتشار القوات الأمنية في مواقع الإنشاء يمكن أن يقلل من مخاطر الابتزاز أو استهداف الجهات المنفذة، مع أهمية أن تكون تفاصيل وخطوات تنفيذ المشروع متاحة للعامة لضمان الشفافية، إضافة إلى ضرورة وجود إرادة سياسية واضحة لتنفيذه بنجاح.
وفيما يتعلق بالخبرات اللازمة، يلفت البيدر إلى أن تجارب الدول الأخرى مثل مصر وتركيا توفر نماذج ناجحة يمكن الاستفادة منها، سواء عبر إشراك شركاتها الإنشائية أو عبر توظيف القدرات العراقية لمراقبة مراحل التنفيذ.
أما المخاوف المتعلقة بالتغيير الديموغرافي، فيرى البيدر أنها غير مبررة، إذ أن التغيير الديموغرافي تصنعه العوامل السياسية والقوة العسكرية، وليس المشاريع العمرانية، بل على العكس، قد يؤدي المشروع إلى ارتفاع قيمة العقارات وتنشيط الحركة الاقتصادية في المناطق المستهدفة.