ترجمة وتحرير: نون بوست
في 29 يناير/كانون الثاني، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يأمر فيه وزارتي الدفاع والأمن الداخلي بإعداد منشأة في خليج غوانتانامو لسجن 30 ألف مهاجر.
وقال في إعلانه “لدينا 30,000 سرير في غوانتانامو لاحتجاز أسوأ المجرمين الأجانب غير الشرعيين الذين يهددون الشعب الأمريكي، بعضهم سيئ للغاية لدرجة أننا لا نثق حتى في الدول التي تحتجزهم، لأننا لا نريدهم أن يعودوا، لذا سنقوم بإرسالهم إلى غوانتانامو”.
وتأتي هذه الخطوة بعد توقيعه على قانون “لاكين رايلي”، الذي يتيح احتجاز وترحيل المهاجرين غير الشرعيين المتهمين بارتكاب جرائم مثل السرقة من المتاجر والاعتداء على قوات إنفاذ القانون، حتى بدون إدانة.
وتم تقديم القانون ردًا على مقتل طالبة تمريض شابة على يد مهاجر لا يحمل وثائق، وقد دافع عنه الجمهوريون الحريصون على فرض ضوابط أكثر صرامة على الهجرة.
وبعد أقل من أسبوع، وصل 300 فرد من أفراد الخدمة العسكرية إلى غوانتانامو لإقامة مدينة خيام للمهاجرين، ووصلت أول طائرة محملة بالمعتقلين إلى القاعدة يوم الثلاثاء الماضي.
وأشاد مسؤولون في الإدارة الأمريكية بالقاعدة كموقع احتجاز مثالي، مثل وزير الدفاع بيت هيجسيث، الذي كان ضابطًا في غوانتانامو خلال فترة عمله في الحرس الوطني؛ حيث قال: “نحن نريد مكانًا آخر لاحتجازهم بأمان في الفترة الانتقالية -المجرمين غير الشرعيين- وخليج غوانتانامو… هو المكان المثالي”.
أصبح خطاب ترامب التحريضي ضد المهاجرين، والذي بات أداة فعالة لإثارة الخوف خلال حملتيه الرئاسيتين، حجر الزاوية في سياسات إدارته المتعلقة بالهجرة.
إنه يعزز هذا الموقف العنصري من خلال استخدام غوانتانامو، مستغلًا القيمة الصادمة لموقع يشتهر بانتهاكات حقوق الإنسان لتأطير المهاجرين كتهديد خطير للأمن القومي، كما أنه يُدخلهم في إطار “الحرب على الإرهاب”، ويطمس الخط الفاصل بينهم وبين من يسميهم “الإرهابيين” الذين طالما احتجزهم السجن لتبرير حرمانهم من حقوقهم.
“الحدود السيادية”
وللتأكيد على الحاجة الملحة لإرسال المهاجرين إلى غوانتانامو، أعلن ترامب:”نحن بحاجة إلى أن يوفر الكونغرس تمويلًا كاملًا لأجل استعادة حدودنا السيادية بالكامل”.
وعلى الرغم من أن خطابه العنيف يهدف إلى استحضار تهديد وجودي، إلا أن مشوب بسخرية مريرة: فالحل الذي يطرحه لحماية سيادة الولايات المتحدة هو احتجاز المهاجرين على أرض كوبية مسروقة ومستعمرة.
تحتل الولايات المتحدة غوانتانامو منذ أن أجبرت كوبا على عقد إيجار بموجب تعديل بلات لعام 1903، والذي أعيد تأكيده في عام 1934، ولا يمكن إنهاء عقد الإيجار دون موافقة متبادلة أو تخلي الولايات المتحدة عنه.
وفي مقالها “أين غوانتانامو؟“، تؤطر الباحثة في الدراسات الأمريكية آمي كابلان استخدامه كسجن في إطار موقعه التاريخي: “إن وضعه القانوني -أو الخارج عن القانون- له منطق يرتكز على الإمبريالية، حيث تم حشد السلطة القسرية للدولة بشكل روتيني خارج سيادة الأراضي الوطنية وخارج سيادة القانون”.
إن عبثية تذرع ترامب بالسيادة تظهر جلية عندما نضع في الاعتبار أن العديد من المهاجرين المعرضين لخطر الإرسال إلى غوانتانامو يأتون من بلدان زعزعت الولايات المتحدة استقرارها من خلال الانقلابات والاستغلال الاقتصادي ودعم الأنظمة القمعية.
ومع ذلك، يستمر السياسيون الأمريكيون في تأطير الهجرة على أنها تهديد خارجي، ويضعون الولايات المتحدة في موضع الضحية وليس الجاني المسؤول عن الظروف التي تجبر الناس على الفرار.
وفي الوقت نفسه، تحتفظ الدولة التي يُفترض أنها تحت الحصار بـ 750 قاعدة عسكرية في أكثر من 80 دولة حول العالم.
لماذا غوانتانامو؟
على الرغم من أن غوانتانامو أصبح سيء السمعة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول لاحتجازه رجالًا وصبية مسلمين، إلا أنه كان منذ فترة طويلة بمثابة سجن لأولئك الذين يُنظر إليهم باعتبارهم مهمشين أو يمكن الاستغناء عنهم.
فقبل عقد من “الحرب على الإرهاب”، استخدمته الولايات المتحدة لاحتجاز الآلاف من اللاجئين الهايتيين وطالبي اللجوء الكوبيين، وكان يمثل مساحة خارج نطاق القانون حيث تم تجريد المعتقلين من حقوقهم.
واستمرت هذه الممارسة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول؛ حيث تم استخدام غوانتانامو لاحتجاز المسلمين بموجب مجموعة مختلفة من القوانين، وتم وصفهم بـ”المقاتلين الأعداء” للتهرب من القيود القانونية الأمريكية.
وفي مقابلة حديثة مع “فرونت لاين“، وصفت ماري جينارد المعسكر، وكانت قد فرت من هايتي مع والدها واحتجزت في غوانتانامو لأكثر من عام في أوائل التسعينيات، وكشفت عن النية المبيّتة وراء احتجاز الأشخاص “خارج” الولاية القضائية الأمريكية.
وتذكرت قائلة: “كان معسكرًا ضخمًا للغاية، وكان مسيّجًا بالأسلاك الشائكة، ولم يكن لدينا حقوق لأننا لم نكن في الولايات المتحدة من الناحية الفنية. لذا، كان الأمر أشبه ما يكون بالسجن. أعني أن هذا ما كان عليه الأمر بالنسبة لنا؛ كان الأمر أشبه بوجودنا في سجن”.
واستمر مركز عمليات المهاجرين في غوانتانامو في العمل، ولكن طاقته الاستيعابية حتى عام 2024 كانت لا تزيد عن 130 سريرًا وكان يضم أربعة محتجزين فقط.
وعلى الرغم من هذه الفجوة الواضحة بين الطاقة الاستيعابية الحالية والتوسعة التي يخطط لها ترامب والتي تبلغ 30,000 سرير، فقد دافعت وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم عن هذه الخطوة، وقالت: “لطالما كان لدينا عدد من المهاجرين غير الشرعيين تم احتجازهم هناك، نحن فقط نسعى لتوسيع بعض القدرات الاستيعابية”.
“أمة في حالة حرب”
ومع ذلك، فإن قرار احتجاز المهاجرين في غوانتانامو لا يتعلق بالمكان؛ بل يتعلق بتأطير المهاجرين كإرهابيين.
فعلى الرغم من أن مركز عمليات المهاجرين في غوانتانامو منفصل عن السجن، إلا أن خطاب ترامب يطمس الفرق بينهما عمدًا، فالأمريكيون الذين تشكل وعيهم عبر عقود من دعاية “الحرب على الإرهاب”، مهيئون لقبول أن الذين يتم إرسالهم إلى غوانتانامو هم بالفعل أناس خطرين.
ويصف اللغوي آدم هودجز، في كتابه “سردية الحرب على الإرهاب“، كيف تشكل الروايات المألوفة الإدراك العام عند الناس.
فبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، تم تأطير استجابة أمريكا من خلال “خطاب عام لأمة في حالة حرب”، مما خلق إطارًا ثقافيًا جاهزًا جعل التدابير الاستثنائية تبدو ضرورية.
وتستخدم إدارة ترامب نفس قواعد اللعبة لتبرير استخدام القاعدة بطريقة تلقى صدى ثقافيًا لدى الأمريكيين، الذين تمت تهيئتهم لقبول صيغة معينة للـ”إرهابي” الذي يستحق هذا النوع من الاحتجاز.
وهكذا، أشارت نويم إلى المهاجرين بأنهم “أسوأ الأسوأ”، زاعمةً أنهم قتلة ومغتصبون ومهربي مخدرات، ويعمل هذا التأطير في الواقع على تبرير استمرار استخدام غوانتانامو وتوسيع وظيفته.
وكما كتب الخبير في قانون الهجرة بيدرو جيرسون في مجلة سليت: ”يحمل غوانتانامو اليوم أهمية سياسية خاصة. فبالنسبة للبعض، هو رمز لسوء معاملة الحكومة، ولكنه بالنسبة للبعض الآخر مكان يُحتجز فيه الإرهابيون، وينوي ترامب أن يستخدم غوانتانامو عن قصد لإعادة ترسيخ الرسالة نفسها التي دفعته إلى السلطة: المهاجرون مجرمون، وهم هنا لإيذائكم. ولكن ترامب يذهب الآن إلى أبعد من ذلك: إن بعض هؤلاء المهاجرين ليسوا مجرمين فحسب، بل هم مساوون للإرهابيين”.
وفي سعيه للتمييز بين معسكرات المهاجرين وأقسام غوانتانامو التي تضم “إرهابيين” مزعومين، أصر هيجسيث على أن “هذا معسكر عبور مؤقت… حيث تمكننا زيادة الأعداد إلى آلاف – وعشرات الآلاف إذا لزم الأمر – من نقل المهاجرين غير الشرعيين من بلادنا بطريقة إنسانية”.
لكن لا يوجد شيء إنساني في غوانتانامو؛ فقد كشف تقرير صادر في سبتمبر/أيلول 2024 عن المشروع الدولي لمساعدة اللاجئين أن المحتجزين هناك “يحتجزون إلى أجل غير مسمى في ظروف تشبه السجن دون إمكانية الوصول إلى العالم الخارجي، ومحاصرون في نظام عقابي… مع وجود القليل من الشفافية أو المساءلة أو بدون وجودهما على الإطلاق”.
ويجادل المنظّر السياسي جيورجيو أغامبين، الذي كان عمله الرائد حول حالة الاستثناء مرجعًا رئيسيًا لتحليل انتهاكات “الحرب على الإرهاب”، بأن المعسكرات هي رمز لهذه الظاهرة.
ويوضح أن “المعسكر هو الفضاء الذي تبدأ فيه حالة الاستثناء في التحول إلى قاعدة”، ويجادل أغامبين بأن السلطة تعمل في هذه الأماكن على حرمان المحتجزين من أي حماية قانونية، وهذا يختزل الأفراد في ”حياة مجردة”، أي مجرد وجود بيولوجي سُلبت منه الحقوق أو القيمة السياسية.
إن وصف المعتقل السابق في غوانتانامو نزار ساسي لمعسكر الاعتقال يجسد هذا التجريد من الإنسانية على نحو ملائم: “ليس لديك حتى الحق في أن تحصل على أي حقوق”.
بناء “الإرهاب”
سعى ترامب بنشاط لربط الإرهاب بالمهاجرين، فقد وقّع في يوم تنصيبه أمرًا يصنف عصابات مثل ترين دي أراغوا كمنظمات إرهابية أجنبية.
وفي 4 فبراير/شباط، نشرت وزارة الأمن الوطني صورًا لأول مجموعة من المهاجرين الذين أُرسلوا إلى غوانتانامو، وجميعهم أعضاء مزعومون في العصابة.
وإمعانًا في إلصاق الإرهاب بالمهاجرين، كانت الصور تحمل تشابهًا مخيفًا مع صور الرجال والصبية المسلمين الذين تم احتجازهم خلال “الحرب على الإرهاب”؛ حيث تم وضع 10 من المهاجرين في المعسكر رقم 6، وهو نفس المرفق الذي كان يحتجز فيه هؤلاء السجناء.
ويصف المفكر الباكستاني إقبال أحمد في عمله المؤثر: “إرهابهم وإرهابنا“، الخصائص الرئيسية لخطاب الإرهاب وهي: عدم الاتساق في التطبيق، وادعاء “المعرفة المطلقة”، والغضب الأخلاقي الانتقائي.
إن هذه السمات لا تفسر قوة وصف الأخرين بالإرهاب فحسب، بل تسلط الضوء أيضًا على على الكيفية التي ينزع بها خطاب الإرهاب الطابع السياسي عن العنف، ويقدم رد الدولة على أنه ضروري وتقني ومتناسب.
وفي سياق مشابه، فإن هذا التأطير الاستراتيجي للمهاجرين باعتبارهم إرهابيين يجد الدعم في التلاعب بالأطر القانونية لإضفاء الشرعية على احتجازهم.
في مقاله “مواطن في حالة استثناء: عمر خضر والفجوة الأدائية في القانون”، يستخدم الباحث مات جونز مصطلح “الصيغة الشرْطية القانونية” لوصف كيفية تلاعب أصحاب السلطة بالقانون.
وبالتركيز على قضية عمر خضر – وهو طفل مسلم اعتُقل وعُذب أولًا في باغرام ثم غوانتانامو وأدين بارتكاب جرائم حرب – يعرّف جونز “الصيغة الشرطية القانونية” بأنه حالة يتصرف فيها الفاعل “كما لو” كانت أفعاله قانونية، حتى عندما يدرك أنه لن يتم الاعتراف بها في نهاية المطاف على هذا النحو، ويجادل جونز بأنه حتى لو تم رفض هذه الصيغة الشرطية، يمكن أن يُحرم الأفراد أو الجماعات من حقوقهم بينما لا تزال العملية القانونية مستمرة.
وهذا التلاعب بالقانون لخدمة أهداف إستراتيجية هو ما سمح لإدارة جورج دبليو بوش بالعمل “كما لو كانت” أفعالهم قانونية، مع العلم أنه بحلول الوقت الذي يمكن فيه تطبيق القانون فعليًا، ستكون أهدافهم في غوانتانامو قد تحققت بالفعل.
إذا ما فُهم الأمر على هذا النحو، فإن احتجاز المهاجرين في غوانتانامو لا يتعلق فقط بالعنف الجسدي والجنائي، بل أيضًا بتصويرهم كتهديدات إرهابية وجودية، وهي رواية يسهل استخدامها كسلاح لتبرير الانتهاكات المستمرة.
تكلفة باهظة
وعلى الرغم من أن ترامب قد لجأ إلى غوانتانامو للاحتجاز المزيد من المهاجرين، إلا أنه تجاهل بشكل ملائم تكاليفه الباهظة.
فقد كلّف تشغيل السجن بالفعل دافعي الضرائب الأمريكيين 7 مليارات دولار أمريكي، وهو ما يغطي احتجاز 780 رجلاً وفتى منذ عام 2002، بالإضافة إلى القوات المتمركزة في القاعدة. وبحلول عام 2022، ومع وجود 36 محتجزاً فقط، وصلت تكلفة الفرد الواحد إلى ما يقدر بـ13 مليون دولار سنويًا.
وقد يؤدي الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب إلى زيادة عدد المحتجزين بأكثر من 800 ضعف، مما سيؤدي إلى إجهاد الموارد وزيادة التكاليف أضعافًا مضاعفة.
وبينما تتم إدارة غوانتانامو ومركز عمليات المهاجرين في غوانتانامو من قبل مؤسستين منفصلتين – الأول من قبل وزارة الدفاع الأمريكية والثاني من قبل وزارة الأمن الداخلي والمنظمة الدولية للهجرة – فإن إيواء المهاجرين على هذا النطاق سيكون باهظ الثمن بلا شك.
غير أن التكلفة الحقيقية هي الخسائر البشرية: أولئك الذين عانوا بالفعل في غوانتانامو وأولئك الذين سيواجهون أهواله في المستقبل، ومع استمرار الولايات المتحدة في استخدام غوانتانامو لأغراض شنيعة، ينبغي التصدي والاعتراض على احتجاز أي شخص في القاعدة .
ولطالما استُخدم غوانتانامو لاحتجاز الرجال والفتيان المسلمين الذين تم اعتقالهم في إطار “الحرب على الإرهاب”، وهو ما شكل مبررًا للتعتيم على الانتهاكات المستمرة في السجن، لكن تدفق المهاجرين إلى القاعدة البحرية الآن يهدد نفس الشيء فيما يتعلق بالعنف في غوانتانامو.
يجب أن نرفض أي مبررات – سواء كانت تتذرع بـ”الحرب على الإرهاب” أو غير ذلك – تترك الباب مفتوحاً أمام الولايات المتحدة لمواصلة عنفها البائس على الأراضي الكوبية.
يجب أن تكون هذه دعوة لإغلاق غوانتانامو؛ ليس فقط بسبب الوجود الأمريكي في القاعدة، ولكن بسبب ما يمثله المكان منذ فترة طويلة: موقع عنيف يفصل بين الأرواح التي ينظر إليها باعتبارها أرواحًا يمكن الاستغناء عنها وبين أولئك الذين ينظر إليهم باعتبارهم يستحقون الحقوق والحماية.
المصدر: ميدل إيست آي