يشهد عالمنا من حين لآخر حوادث طريفة ومحيّرة في غرابتها، تنتشر انتشار النار في الهشيم بفعل سيولة المحتوى الرقمي الذي يعزز انتشار الصرعات والتقليعات ويعطي قيمة لكل خبر مهما بدا ساذجًا أو متهورًا أو مجنونًا، من بينها بالطبع الإعلانات التي بدأت تكثر مؤخرًا عن دول يُعلنها أفراد من طرفهم بدون العودة لأحد، مستغلين بعض الثغرات في القانون الدولي وترسيمات الحدود أو النزاعات الحدودية بين الدول، وبالطبع، يفوز مؤسس الدولة بمنصب الرئيس أو الملك أو الأمير للدولة الجديدة التي قد لا يعيش فيها أحد غيره، إذا قرر هو أصلًا العيش فيها!
على الأمر ليس جديدًا بالكلية، فمنذ فترة ما بعد الاستقلالات بدأت كل فترة تظهر ممالك بالغة الصغر يعلنها أشخاص، سرعان ما يصبحون حديث وسائل الإعلام، المحلي والدولي، ونلقي في هذا التقرير الضوء على بعض قصصهم الطريفة.
استغلال الأراضي المباحة المتنازع عليها
وقبل أيام، طالعتنا وسائل الإعلام بإعلان “رسمي” عن قيام ما يعرف بـ “مملكة الجبل الأصفر” بالقرب من منطقة حلايب المتنازع عليها بين مصر والسودان، وتبلغ مساحتها ما يقارب 3000 كيلومتر مربع تقريبًا، في مؤتمر صحافي في مدينة أوديسا بأوكرانيا، وقد جاء الإعلان من خلال بيان لـ نادرة نصيف التي عيّنت نفسها بمنصب “رئيسة مجلس الوزراء”، نيابة عن ملك مملكة الجبل الأصفر الذي لم تُكشف هويته أو ربما ليس موجودًا.
يقول بعض الخبراء والقائمين على مشروع الدولة إن الاعتراف بإقامة هذه الدولة يستند إلى الوفاء بالمعايير المنصوص عليها في القانون الدولي باتفاقية “مونتيفيديو” لحقوق وواجبات الدول التي صدرت في 26 من ديسمبر 1933
قدم القائمون على هذا المشروع حجتهم القانونية في أحقية تملك هذه الأرض بداعي أنها كانت تصنَّف قبل تأسيسها في القانون بالأراضي المباحة، أي التي لا يطالب بها أي طرف، أو لا تقع تحت سيادة أي دولة في الأرض، التي كانت تتبع للسلطنة المصرية حتى عام 1895، وفي عام 1899 وضعت مصر خط عرض 22 حدودًا لها، وهو ما جعل أرض الجبل الأصفر خارج الحدود المصرية، ثم حصلت اتفاقية الحدود السياسية مع السودان عام 1902، وهو ما جعل الدولتين لا تعترفان بهذه الأرض ضمن حدودهما، مما تسبب في تصنيفها كأرض مباحة.
وفي إطار قانوني آخر، يقول بعض الخبراء والقائمين على مشروع الدولة إن الاعتراف بإقامة هذه الدولة يستند إلى الوفاء بالمعايير المنصوص عليها في القانون الدولي باتفاقية “مونتيفيديو” لحقوق وواجبات الدول التي صدرت في 26 من ديسمبر 1933، في المؤتمر الدولي السابع للدول الأمريكية، الذي تم به تدوين النظرية التقريرية للدولة، وأصبحت جزءًا مقبولًا من القانون الدولي العرفي لتصبح الدولة تُرى كشخص في القانون الدولي إذا استوفت معاييرها، وقد التزمت “مملكة الجبل الأصفر” بمعايير الدولة كما حددتها الاتفاقية مما يجعلها نافذة بالقانون الدولي، وبذلك فإن السكن بها سيكون متاحًا نهاية العام 2020 بعدما تكون قد هيأت كل شيء.
ببساطة فإن تأسيس الدول بحسب اتفاقية “مونتيفيديو” جاء حسب القواعد الأساسية المذكورة في المادة الأولى للاتفاقية “الدولة بوصفها خاضعة للقانون الدولي يجب أن تتوافر بها النقاط التالية: سكان دائمون، أرض محددة، حكومة، القدرة على الدخول في علاقة مع بقية الدولة”.
في حادثة تاريخية مشابهة إلى حد ما، تم تأسيس ما كان يُعرف بـ”جمهورية التيار الهندي” التي تم إنشاؤها في أرض بين الولايات المتحدة وكندا، لم يتم تعريفها بوضوح في معاهدة باريس 1783، وظلت هذه الجمهورية قائمة في الفترة من 1832 إلى 1835، قبل أن تستولى عليها الولايات المتحدة
أما عن بقية المواد العشرة الأولى، فقد ذهبت إلى شرح أن وجود الدولة أمر مستقل عن اعتراف الدول الأخرى، والدولة لها حق التصرف بالأصالة عن نفسها وأن أي دولة لا يحق لها التدخل في أمور دولة أخرى، لكن ما يمكن ملاحظته هنا أن هذه ليست بمثابة قوانين بالمعنى التقليدي، بمعنى أن لك حق إعلان دولتك المستقلة، في أي وقت وفي أي مكان، لكن ليس بالضرورة أن يتعامل أي شخص معك بجدية، ما يعنى ببساطة أنك لن تحصل على الشرعية بوصفك دولة.
وفي حادثة تاريخية مشابهة إلى حد ما، تم تأسيس ما كان يُعرف بـ”جمهورية التيار الهندي”، التي تم إنشاؤها في أرض بين الولايات المتحدة وكندا، لم يتم تعريفها بوضوح في معاهدة باريس 1783، وظلت هذه الجمهورية قائمة في الفترة من 1832 إلى 1835، قبل أن تستولى عليها الولايات المتحدة.
دول أعلنها أفراد
سيلاند
هي جزيرة بحجم ملعب كرة القدم قريبة من سواحل بريطانيا الشمالية، تم إنشاؤها خلال الحرب العالمية الثانية، على إحدى المنصات البحرية المنشأة في القناة الإنجليزية وبحر الشمال التي كانت بمثابة مواقع قتالية ونقاط إعادة إمداد أُطلق عليها اسم Fort Roughs، على متنها 300 جندي من البحرية الملكية، وكانت تضم أسلحة مضادة للطائرات قادرة على إنزال الطائرات الألمانية.
عام 1974 أعلن الرائد بيتس هذه المنشأة مستقلة، ولقب نفسه بالأمير وصك عملة خاصة لإمارته وهي “دولار سيلاند”
عام 1965 تولى الرائد بادي روي بيتس هذه المنصة، وبعد 3 أعوام تم اتهامه بمشاركته بمعارك باستخدام الأسلحة النارية الموجودة، وإطلاقه لمحطة راديو مقرصنة، لكن لم تتم محاكمته لأنه كان خارج نطاق أراضي المملكة المتحدة.
عام 1974 أعلى الرائد بيتس هذه المنشأة مستقلة، ولقب نفسه بالأمير وصك عملة خاصة لإمارته، وهي “دولار سيلاند”، وبدأ بإصدار جوازات سفر خاصة، واتخذ علمًا خاصًا بالإمارة ورفعه عاليًا كرمز لسيادتها، ومن الجدير ذكره أنه فتح باب “منح الجنسية” للراغبين في أن يصبحوا مواطنين لهذه الجزيرة الحديدية، تم تمثيل الحصن في الأنشطة الرياضية ضد الدول الأخرى غير المعترف بها وفي الأعمال التجارية كما كان موضوع عروض من الشركات التي ترغب في شرائها.
في ذلك الوقت كان كثير من حاملي هذه الجوازات ينجحون بدخول الولايات المتحدة دون تأشيرة، لأن الأنظمة المحوسبة لم تكن متطورة، وكانت نقاط الدخول للولايات المتحدة تحمل قوائم بأسماء الدول التي يحظر إدخال مواطنيها من دون تأشيرة، و”سيلاند” لم تكن بينها، لكونها غير معترف بها أصلاً، الأمر الذي جعل جواز سفر “سيلاند” منتشرًا بين العصابات المسلحة وتجار المخدرات حول العالم.
على الرغم من عدم اعتراف المجتمع الدولي والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة بها وتصنيفها على أنها جزيرة صناعية، فإن وقوعها في المياه الدولية منع بريطانيا من فرض سيطرتها عليها وإخراج بيتس منها حتى اليوم، وما زالت سيلاند دولة مستقلة وعائلة بيتس تحكمها، فبعد وفاة الأمير بادي، تولى ابنه جيمس بيتس رئاسة ولاية سيلاند.
جمهورية مينيرفا
عام 1972، استولى المليونير الأمريكي والناشط السياسي مايكل أوليفر على جزيرة وإعلان استقلال “جمهورية منيرفا” على أحد الشعب المرجانية في المحيط الهادي والقريبة من دولة “فيجي”، وبذلك أصبحت دولة مجهرية صغيرة جدًا لا يحكمها إلا هو دون حكومة، ويسكنها 42 شخصًا، وتعتمد “دولار منيرفا” عملة لها.
كان أوليفير قد عيّن “دافيس” رئيسًا مؤقتًا للجمهورية الصغيرة لكنه قتله لاحقًا لخلاف نشأ بينهما، مما تسبب بحالة إرباك كبيرة، لاحقًا وبعد سيطرة تونجا على الجزر رحل أوليفير هو وشعبه
حاول أوليفر استقطاب الناس لتسكن فيها، فأعلن أنها جمهورية بلا ضرائب، وبذلك يكون العرض مغريًا لرجال الأعمال حول العالم لينشئوا أعمالهم فيها، إلا أن جمهوريته لم تستمر بالعيش بسلام طويلاً، إذ تعرضت في العام نفسه، لغزو عسكري من دولة تونجا القريبة منها التي احتلتها وسيطرت عليها بدورها نظرًا لأنها تقع ضمن حدود سيادتها ومياهها الإقليمية.
وفي تلك الأثناء كان أوليفير قد عيّن “دافيس” رئيسًا مؤقتًا للجمهورية الصغيرة لكنه قتله لاحقًا لخلاف نشأ بينهما، مما تسبب بحالة إرباك كبيرة، لاحقًا وبعد سيطرة تونجا على الجزر رحل أوليفير هو وشعبه، لكن المكان ظل ضمن مطامع مجموعات عديدة، فحاولت جماعة تابعة للرئيس موريس دافيس السيطرة على الجزيرة عام 1982 إلا أنهم واجهوا مقاومة من القوات التونجانية وأخرجوا منها.
مملكة نهر هوت
عام 1970 أعلن المواطن الأسترالي ليونارد جورج كاسلي مزرعته ومزارع مجاورة تبلغ مساحتها 517 كيومترًا مربعًا دولة مستقلة، ونصب نفسه ملكًا عليها، وذلك احتجاجًا على اعتماد أستراليا قانونًا يحدد المساحة القصوى المسموح لمواطن واحد بتملكها من أراضي البلاد.
حاول كاسلي أن يتميز بمملكته عن الأراضي المحيطة بها ويحيطها بنوع من الرسمية، فأسس صحيفة وأصدر عملة محلية، ومن ثم تطور الأمر لاحقًا بإصداره جوازات سفر كرمز للسيادة والاستقلالية
لم تكترث الحكومة الأسترالية لإعلان الملك ليوناردو انشقاقه عنها، ليستمر الحال على ما هو عليه حتى عام 1977 الذي شهد إعلان “نهر هوت” الحرب على كانبيرا، لكن شيئًا لم يتغير، إذ تجاهلت الحكومة الأسترالية هذا التحدي، ليعلن الملك نفسه منتصرًا في الحرب التي لم تقع.
حاول كاسلي أن يتميز بمملكته عن الأراضي المحيطة بها ويحيطها بنوع من الرسمية، فأسس صحيفة وأصدر عملة محلية، ومن ثم تطور الأمر لاحقًا بإصداره جوازات سفر كرمز للسيادة والاستقلالية، لكن لم يهتم بذلك أحد إلا بعض وسائل الإعلام المحلية التي كانت تلقي الضوء عليه من حين لآخر.
ورغم أن مملكته تصدر جوازات سفر للمواطنين، فإن هذه الجوازات لم تعمل ولم يتم الاعتراف بها على أي مستوى دولي أو حتى محلي، ولا يمكنك السفر إلى مقاطعة هوت ريفر حتى لو كنت تحمل جواز سفرها، ولا تعترف أستراليا بأي شكل من الأشكال بمقاطعة هوت ريفر بل وتعتبر أوراقها الثبوتية غير قانونية على الإطلاق.
جمهورية مولوسيا
عام 1977 أعلن الأمريكي كيفين بو جمهورية مولوسيا من جانب واحد قرب دايتون داخل حدود ولاية نيفادا الأمريكية، وترأسها منذ ذلك الحين، ويقول رئيس الجمهورية في مقابة له مع قناة “سي إن إن” إن فكرة تأسيس دولته جاءت بعد مشاهدته وصديقه جايمس فيلمًا قديمًا بعنوان “الفأر الذي زأر”، مؤكدًا أن تأسيس دولة مجهرية لا يتطلب أكثر من اختيار ألوان للعلم وتنصيب الشخص نفسه رئيسًا لها.
تدفع هذه الجمهورية الضرائب للولايات المتحدة، وهو ما يعتبره رئيسها بمثابة تقديم المساعدات لدولة أجنبية
يقول بو إنه أنفق 10 آلاف دولار لينشئ هذه الدولة في فنائه الخارجي، تبلغ مساحة جمهوريته 6 هكتارات، أي 14 فدانًا وربع الفدان ويبلغ عدد سكانها 5 أشخاص و3 كلاب يحملون الجنسية، وهم في الواقع يعيشون في منزل واحد كبير داخل مزرعة ويوضح أنه وغيره من الدول المجهرية لا يقيمون أي علاقات مع دول أخرى لأنهم لا يرغبون في التورط بالدبلوماسية.
تدفع هذه الجمهورية الضرائب للولايات المتحدة، وهو ما يعتبره رئيسها بمثابة تقديم المساعدات لدولة أجنبية، وقد هدد بو بإعلان الحرب رسميًا على الولايات المتحدة نظرًا لما وصفه بـ”التهديدات” المتزايدة لدولته من مواطني الولايات المتحدة الأمريكية، كما هدد بإعلان الحرب على ألمانيا عام 2007 دون أسباب معروفة.
ليبرلاند
عام 2015 قام فيت جيدليكا، وهو عضو بأحد الأحزاب التشيكية السياسية، بتنصيب نفسه رئيسًا على أرض تبلغ مساحتها 7 كيلومترات مربعة وتقع على نهر الدانوب، وهي منطقة حدودية غير مأهولة لا مالك لها قانونيًا تقع بين كرواتيا وصربيا مطلقًا عليها اسم “ليبرلاند“.
أطلق رئيس الجمهورية علم دولته الجديد عبر موقع الدولة، وبلغ عدد المتقدمين لطلب الجنسية نحو 20 ألف طلب مواطنة بحسب موقع الجمهورية الوحيد على الفيسبوك
أنشأ جيدليكا موقعًا إلكترونيًا خاصًا بدولته الجديدة ليبرلاند مبينًا فيه أهداف هذه الدولة، وأوضح أن أهم ما يميز الدولة الجديدة هو رفعها شعار “عِش ودع الآخرين يعيشون”، مؤكدًا أن المواطنين في دولته سيتمتعون بحرية تامة ومساواة في كل الأمور الحياتية وعدم التمييز وفقًا للجنس أو الدين أو العرق.
وأطلق رئيس الجمهورية علم دولته الجديد عبر موقع الدولة، وبلغ عدد المتقدمين لطلب الجنسية نحو 20 ألف طلب مواطنة بحسب موقع الجمهورية الوحيد على الفيسبوك، وينوي المسؤولون في الدولة الجديدة منح الجنسية لقرابة 3000-5000 شخص سيتم اختيارهم لاحقًا.
حال هذه الدولة كحال الدول التي سبقتها، من حيث الاعتراف الدولي، فلم تعترف بها أي من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة حتى اليوم، بل ويشكك البعض في مصداقيتها والغايات التي ظهرت من أجلها.
في نهاية الأمر، قد تكون التحالفات والمخططات والمؤامرات سببًا في قيام دول حديثة لم تكن موجودة من قبل، أو أن مجرد أشخاص عاديين اطلعوا على ثغرات القوانين الدولية التي تُعطي الأحقية بإنشاء دول في أراض مباحة، وهو مصطلح قانوني يعني أن الأرض المعنية لا مالك أو لا صاحب لها، أو أن أشخاصًا هواة أو متمردين أعلنوا دولًا على أراضيهم وأملاكهم دون أن يؤخذ ذلك في عين الاعتبار.