يبدو أن معاناة أهالي محافظة نينوى لا نهاية لها، فمنذ أن حلَّ الاحتلال على هذا البلد عام 2003 وهم يتقلبون بين أشكال المعاناة المختلفة، فيتعرضون للتمييز الطائفي من حكومة بغداد كون محافظتهم من أكبر الحواضر السنيَّة، ويتعرضون للتميز القومي الشوفيني من الكرد كون محافظتهم من أكبر الحواضر العربية التي تمتلك أطول حدود مع إقليم كردستان.
أما من جاء إليها عبر الحدود من سوريا، فلم تكن إلا آلة قتلٍ تسمى داعش، حصدت أرواح أبنائها بحجة أنها جاءت لتدافع عن السنَّة من بطش الكرد والشيعة، لكنها في حقيقة الأمر، أعطت للطائفيين في بغداد وللشوفينين في أربيل، الفرصة المثالية للانتقام من أهالي تلك المحافظة المنكوبة.
حمل عام 2014 لأهالي محافظة نينوى كلَّ نُذر الشر، وبنفس الوقت حمل فرصة مثالية للأحزاب الكردية لتوسيع حدود الإقليم على حساب هذه المحافظة، ومن هنا نعرف مقدار الخدمة التي قدمها تنظيم داعش للساسة الكرد باستيلائه على تلك المحافظة والعديد من المناطق السنية الأخرى، وقدم فرصة رائعة لأحزب السلطة الطائفية في بغداد لتقضم مناطق السنَّة لصالح التشيع.
وفي خضم كل عمله، لم يخدم تنظيم داعش بأي حال من الأحوال المكوّن العربي السني الذي يدعي أنه جاء لحمايته، فهو شارك بتدمير مدنهم إلى جانب الطائفيين والشوفينيين، وحول معظم أهلها إلى نازحين، وقضى على كثير من أبناء السنَّة بالقتل والتهجير.
أصدرت منظمة هيومن رايتس تقريرًا لها في 6 من سبتمبر/أيلول 2019، فضحت فيه كل أساليب السلطات الكردية في سبيل منع العرب من الرجوع لقراهم، على عكس معاملتها لسكان القرى الكردية التي عمِلت على إرجاعهم لقراهم وتوفير أسباب ذلك الرجوع
سلطات الإقليم عمِدت إلى استغلال فرصة وجود تنظيم داعش في الموصل، وفرصة شن الحرب لإخراجه، والعمل على تدمير القرى العربية المتاخمة لحدود كردستان، أما بعد أن تم طرد التنظيم، عمدت سلطات كردستان، إلى عدم السماح للقرويين الذين فروا من قراهم بسبب الحرب، بالعودة لقراهم، والحجج التي يتعذرون بها كثيرة، لكنها واهية وضعيفة، لا تنطلي على عاقل، بعد أكثر من ثلاث سنوات على تحرير تلك القرى من عصابات داعش.
وفي ذلك أصدرت منظمة هيومن رايتس تقريرًا لها في 6 من سبتمبر/أيلول 2019، فضحت فيه كل أساليب السلطات الكردية في سبيل منع العرب من الرجوع لقراهم، على عكس معاملتها لسكان القرى الكردية التي عمِلت على إرجاعهم لقراهم وتوفير أسباب ذلك الرجوع، حيث ذكرت المنظمة أن حكومة إقليم كردستان العراق تمنع نحو 4200 نازح من العرب السنة من العودة إلى موطنهم في 12 قرية في قضاء الحمدانية شرقي الموصل رغم تحريرها من قبضة داعش منذ ثلاث سنوات، فيما سمحت بعودة الأكراد والعرب الموالين لها إلى قراهم بعد معارك تحرير الموصل.
تقرير هيومن رايتس الأخير، ليس التقرير الأول من نوعه الذي يعالج مأساة سكان القرى العربية وضياعهم في شتات المخيمات ومنعهم بالقوة من الرجوع إلى أراضيهم وقراهم، فقد أصدرت تلك المنظمة سلسلة من التقارير على مدى السنوات الخمسة الماضية منذ احتلال داعش للموصل ولحد الآن، ولكنها كالعادة، لم تجد آذانًا صاغية من الساسة الكرد.
في 25 من فبراير/شباط 2015 نشرت هيومن رايتس ووتش تقريرًا لها جاء فيه أن القوات الكردية العراقية احتجزت آلاف العرب في “مناطق أمنية” بشمالي العراق سيطرت عليها منذ أغسطس/آب 2014 من تنظيم داعش المتطرف، ومنعت القوات الكردية لأشهر عديدة العرب الذين شردهم القتال، من العودة إلى ديارهم في أجزاء من محافظتي نينوى وأربيل، في حين سُمح للأكراد بالعودة إلى تلك المناطق، وحتى بالانتقال إلى منازل العرب الذين لاذوا بالفرار.
وصل بالكرد الأمر إلى العمل على البدء بأولى خطوات الانفصال عن العراق، بتنظيم استفتاء قانوني بائس على ذلك، فكانت تلك الخطوة التي قصمت ظهر البعير، وجعلت الشعب الكردي يدفع ضريبة المغامرة التي أقدم عليها ساسته
حتى جاء الوقت الذي أحس فيه الساسة الكرد بنشوة الانتصار العظيم على داعش، وضمهم لأراضٍ شاسعة يقولون عنها إنها تاريخية تعود للكرد، حتى وصلت للدرجة التي قالوا عن المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، قد طويت صفحتها، وتم اقتضام تلك المناطق ولا يمكن للكرد إرجاعها.
بل وصل بهم الأمر إلى العمل على البدء بأولى خطوات الانفصال عن العراق، بتنظيم استفتاء قانوني بائس على ذلك، فكانت تلك الخطوة التي قصمت ظهر البعير، وجعلت الشعب الكردي يدفع ضريبة المغامرة التي أقدم عليها ساسته، فكان ما كان من حصارٍ من ثلاث دول يشترك إقليم كردستان بحدود مشتركة معها، واستولى الحشد على المناطق التي أخذتها البيشمركة من قبل، حتى جعل ذلك الكرد مكرهين على التراجع عن كل تلك الخطوات، فقط لكسب ودَّ بغداد لإعادة رواتب موظفي كردستان الذين وصل بهم الحال إلى أسوأ حال.
لكنهم مع ذلك لم يتراجعوا عن خطواتهم ضد أهالي القرى الموصلية التي استولت عليها، ولم يسمحوا للنازحين المحتجزين في المخيمات في كردستان من العودة لقراهم، بل طردوهم من تلك المخيمات ولكن بشرط ذهابهم إلى مركز الموصل أو أربيل، ليستطيعوا العمل على استيطان الكرد في القرى العربية بدلًا من أهلها العرب الأصليين.
منظمة هيومن رايتس ذكَّرت القادة الكرد بأن إجراءاتهم تلك المبنية على خلفية احتمال حدوث أعمال عدائية محتملة في المستقبل من أولئك القرويين، لا تصلح لئن تكون أساسًا قانونيًا يتم تهجير أهالي القرى العربية لأجله، وذلك بموجب “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” الذي يعتبر الأمر بالتشريد غير القانوني للمدنيين جريمة حرب.
إن الدور الكردي في تمزيق أواصر هذه المحافظة وتمزيق جغرافيتها، لم يكن وليد اليوم أو على خلفية استيلاء داعش على أراضي نينوى، إنما يعود إلى ما قبل هذا التاريخ
كما حصلت المنظمة على شهادات تفيد بأن قوات حكومة إقليم كردستان، دمرت العشرات من منازل العرب في مناطق يبدو أنها تسعى لضمها إلى أراضيها، والحجة المستخدمة لذلك أنها فعلت ذلك انتقامًا للدعم المفترض أن تم تقديمه من هؤلاء العرب لتنظيم داعش.
إن الدور الكردي في تمزيق أواصر هذه المحافظة وتمزيق جغرافيتها، لم يكن وليد اليوم أو على خلفية استيلاء داعش على أراضي نينوى، إنما يعود إلى ما قبل هذا التاريخ، فقد دعت قيادة إقليم كردستان قبل أن يستولى تنظيم داعش على المحافظة، إلى تأسيس محافظتين على أجزاء من أراضي محافظة نينوى، وهي فكرة يعود تاريخها إلى ما قبل ظهور داعش في المحافظة، كما ذكر ذلك النائب الكردي السابق عبد الباري الزيباري، والحجة في ذلك، عدم قدرة مكونات المحافظة على التعايش فيما بينهم.
ولو كان ذلك صحيحًا، كيف كانت تلك المكونات تعيش بشكل سلمي من قبل؟ وهذا يدلل أن تمزيق النسيج الاجتماعي لمحافظة نينوى كان بتحريض من تلك السلطات الكردية ويتوافق مع أجندة سياسية تسعى من خلالها لاقتطاع ما يمكن اقتطاعه من أراضي المحافظة.