لكل ميدان من ميادين الفن لب وجوهر يدور حوله، ومن خلال هذا الجوهر يكتسب نوعًا من السيرورة التي تبعث فيه الحياة وتجذب إليه المتلقين، والمسرح هو عالم واسع يحاكي الحياة ويعرض الواقع من زوايا مختلفة، ومن خلال العرض المسرحي يحلق الممثلون بعيدًا عن قيود العالم الواقعي ويمنحون أنفسهم والمتلقين فرصة للتنفيس عن مآسيهم الاجتماعية، فمنذ قديم الزمن وتجربة المسرح هي انعتاق وتحرر الذات وسبر للأغوار الإنسانية.
وعلى الرغم من أن إفريقيا لم تعرف المسرح بمعناه الحديث بوصفه نصًا مسرحيًا وخشبة عرض وممثلين إلا في حقبة متأخرة نسبيًا، فإنها أدركت جوهره منذ عصور تسبق التاريخ نفسه، وهو ما تجلى في طقوسها الاجتماعية والدينية.
تاريخ المسرح الإفريقي
في البداية كان المسرح في إفريقيا عبارة عن أنشودة يشارك فيها شعب يغني في الهواء الطلق، وإذا عدنا للوراء قليلًا وحاولنا تتبع بدايات فن المسرح في إفريقيا سنجد أن هناك ظاهرتان تعدان توطئة للفن المسرحي وهما: الطقوس الدينية والاجتماعية التي كانت تُمارس جماعيًا في شكل حركات تعبيرية درامية ذات مضمون ديني واجتماعي، والظاهرة الثانية هي الرقص الذي يعد من أقدم الوسائل التي استخدمها الإنسان في إفريقيا للتعبير عن انفعالاته، حيث يقول الفنان الإفريقي والمفكر كتافوديبا إن الرقص في إفريقيا مزيج من الفنون التي تعكس الصراع المتبادل بين الإنسان الإفريقي والطبيعة القاسية التي تحيط به.
على غرار الأدب الإفريقي ونظرًا لافتقار القارة إلى السجلات التاريخية المدونة تناقل فن المسرح عن طريق المنشدين الذين كانوا يتغنون بأمجاد الملوك والأمراء وكانوا هم بحق أصحاب سجلات التراث والتاريخ
أخذت هاتان الظاهرتان شيئًا فشيئًا في التحول التدريجي – في المكان والأداء – وتحولت من التعبير عن أشياء محدودة إلى التعبير عن مختلف مناحي الحياة، ويعتقد الكثيرون أن النصف الثاني من القرن العشرين هو عصر إفريقيا دون منازع، وذلك لأن العلماء لم يتركوا مجالًا من مجالات الحياة في إفريقيا إلا وتعرضوا له بالدراسة والبحث، ونال المسرح جزءًا من هذه الدراسات، إذ يرى الباحثون أن المسرح في إفريقيا ظل نشاطًا شفويًا مرتجلًا لمدة طويلة مثل الأدب الشعبي مما تسبب في عدم وجود نصوص مسرحية مدونة.
وعلى غرار الأدب الإفريقي ونظرًا لافتقار القارة إلى السجلات التاريخية المدونة، تناقل فن المسرح عن طريق المنشدين الذين كانوا يتغنون بأمجاد الملوك والأمراء وكانوا بحق أصحاب سجلات التراث والتاريخ، وغالبًا ما كانت تدور المسرحيات في إفريقيا حول فك الأساطير والحكايات والدعوة للالتزام بأخلاقيات المجتمع، وكانت تقدم في شكل مشاهد بسيطة ترتكز على الرقص والغناء في حواراتها الداخلية مما كان يشجع الجماهير على التفاعل والمشاركة في الأحداث مع الممثلين.
المسرح الإفريقي في مواجهة الاستعمار الأوروبي
لطالما كان الفن درعًا قويًا يحمي شعوب إفريقيا من طغيان المستعمر، فالفنون الإفريقية كانت دومًا صيحة تحرر تحمي الثقافة الإفريقية من عبث المستعمرين، وفي الوقت الذي حاول فيه المستعمر الأوروبي فرض هيمنته الثقافية على شعوب إفريقيا فإن الثقافة الإفريقية هي التي أثرت في النهاية على أوروبا حيث كانت الرافد الأساسي للفنون التشكيلية الحديثة مثل التكعيبية والوحشية.
خلال فترة الاستعمار قُدمت المسرحيات الإفريقية باللغات الأوروبية وذلك بداية من أواخر القرن التاسع عشر حيث كانت سنوات التعليم الأولى من نظام التعليم الاستعماري تشجع ممارسة الفنون الأدبية بواسطة متعلمين من إفريقيا
وقد وُظفت العروض المسرحية الإفريقية كوسيلة للتعبير عن الذات الوطنية ومحفزًا للشعوب في مجابهة الاستعمار ورفض الخضوع له، وخلال هذه الفترة بنهاية الأربعينيات ظهر وعي عام بأهمية الدور الذي يلعبه المسرح، فبدأت القوى الاستعمارية في توظيفه من أجل تسويق منتجاتها والدعوة لزراعة المحاصيل الاقتصادية والتعليم الصحي وكذلك تحسين الممارسات الزراعية.
وخلال فترة الاستعمار قُدمت المسرحيات الإفريقية باللغات الأوروبية وذلك بداية من أواخر القرن التاسع عشر حيث كانت سنوات التعليم الأولى من نظام التعليم الاستعماري تشجع ممارسة الفنون الأدبية بواسطة متعلمين من إفريقيا الذين كتبوا فيما بعد بعض الأعمال المسرحية الساخرة عن الحياة الاجتماعية في ظل النظام الاستعماري ومن أشهر هؤلاء الكتاب إبراهيم حسين في تنزانيا ونجوجي واثيونجو في كينيا.
المسرح الإفريقي المعاصر: حقبة ما بعد الاستقلال
تناول المسرح الإفريقي بعد الاستقلال القضايا التاريخية محاولًا تفسير وتحليل عناصرها كما عمد أيضًا حينها إلى محاولة تجاوز حدود الاغتراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، إذ قام حينها الكثير من الكتاب الأفارقة بالنزول إلى أرض الواقع من أجل وصف تفاعل الإنسان وصراعه مع البيئة الاجتماعية ومن هنا ظهرت المدرسة الواقعية في المسرح.
من أشهر الدول الإفريقية التي طورت شكل الدراما المسرحية، نيجيريا حيث فاز الكاتب المسرحي النيجيري وول سوينكا بجائزة نوبل للأدب عام 1986
وتعد هذه المرحلة الأكثر ثراءً بالأعمال الأدبية المسرحية التي ارتكزت حينها على تناول التمرد على الوضع الكارثي الذي ساد القارة الإفريقية خلال السنوات الأولى من الاستقلال وكان هدف تلك النصوص المسرحية خلق صحوة بين غير المتعلمين بحقيقة الأوضاع المتردية في المجتمع الإفريقي، كما هدفت أيضًا تلك المسرحيات إلى دعوة الأفارقة لمقاومة زعماء القارة الذين كانوا ينادون باسترجاع هيمنة البيض وعليه فقد كان موضوع الإمبرالية الاستعمارية الجديدة هو محور الأدب المسرحي بعد الاستعمار في إفريقيا، ومن أشهر مسرحيات تلك الحقبة مسرحية “شاكا” التي كتبها الرئيس السنغالي سنجور وهي ملحمة شعرية تحاكي قصة شاكا زعيم قبائل زولو الذي قاوم الاستعمار بكل شجاعة.
ومن أشهر الدول الإفريقية التي طورت شكل الدراما المسرحية، نيجيريا حيث فاز الكاتب المسرحي النيجيري وول سوينكا بجائزة نوبل للأدب خلال عام 1986، وغانا ومالي وفي الشرق أوغندا وإثيوبيا وغينيا وفي الجنوب روندا وجنوب إفريقيا التي تعد الدولة الأكثر تطورًا في فن المسرح، فهي الدولة الإفريقية الوحيدة التي وصلت إلى مرحلة متقدمة من الدمج بين العرائس والعنصر البشري بالمسرح بالإضافة إلى فوز الكاتبة المسرحية نادين غورديمير بجائزة نوبل للأدب خلال عام 1999.
السياسة بوصفها الهاجس الأكبر للكتاب الأفارقة
خلال الثمانينيات كانت السياسة المصدر الأول لكتاب المسرح في إفريقيا وحينها كتبوا عن فشل النظم السياسية الإفريقية ومن أشهر المسرحيات التي تناولت هذا الأمر: مسرحية “أنطوني باع لي مصيره” للكاتب سوني لابوتانسي الصاردة خلال عام 1986، ومسرحية “شارع الذباب” وكذلك “ستر الآلهة” الصاردتان خلال عام 1985 للكاتب زادي زاهود برنادي، وهناك أيضًا مسرحية “السلحفاة المغنية” لسنوقو أجيوتا زنسو.
الأفارقة يخلقون الفن من كل شيء، فعلى سبيل المثال بالنسبة للموسيقى نجد أنهم يستطيعون أن يجعلوا جميع الأشياء تصدح نغمًا فعالمهم يمور بآلاف الأصوات
حقبة التسعينيات وظهور موضوعات أخرى للمسرح الإفريقي
مع قدوم التسعينيات ترسخت أشكال أخرى للمسرح الإفريقي مثل: المسرح التقليدي والفنون الشعبية الفلكلورية، ففي مالي ظهر “مسرح كوتيبا” وهو نمط من المسرح الشعبي الذي ينظمه الشباب كل عام ويحضره الآلاف، وفي بوركينافاسو تقيم مجتمعات الموسى أيضًا مسرحًا كل عام، وقد أصبح المسرح التقليدي وحكاياته الشعبية مصدرًا ثريًا يستمد منه معظم الكتاب المسرحيين إلهامهم، فخلال عام 2008 عُرضت في المهرجان الإفريقي للإنتاج المسرحي في وغادوغو 20 مسرحية كان أكثر من نصفها مرتكزًا على أساس المسرح التقليدي الشعبي مثل مسرحية “غضب الأجمة” و”الولاء المضروب”
بالنسبة للفنون الشعبية الفلكلورية فمن المعروف أن القارة السمراء لديها مخزون ثقافي هائل من تلك الفنون، فالأفارقة يخلقون الفن من كل شيء، فعلى سبيل المثال بالنسبة للموسيقى نجد أنهم يستطيعون أن يجعلوا جميع الأشياء تصدح نغمًا، فعالمهم يمور بآلاف الأصوات، إذ إنهم يصنعون موسيقاهم من الحصى والعصا والصدف والمعادن، وحتى الرقص لا يعد في المجتمعات الإفريقية ضربًا من الترفيه ولكنه حياة وضرورة واحتياج أساسي، فهناك رقصة الإخصاب ورقصة الميلاد والبلوغ والخطبة والزواج والموت، وبالتالي فالفنون الشعبية هي حياة الإفريقي ومن رحم تلك الفنون وُلدت الكثير من الكتابات المسرحية مثل مسرحية كينجيكتيلي للكاتب إبراهيم حسين.