دخل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، والذي بدأ في 16 كانون الثاني/ يناير الماضي، منعطفًا جديدًا من الضبابية، إثر مساعي رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الانقلاب عليه والتملص من الالتزامات الواردة في بنوده، على رأسها استكمال تعهدات المرحلة الأولى بشأن البروتوكول الإنساني، والبدء في مفاوضات المرحلة الثانية، الأمر الذي يعرض مستقبل الصفقة للغموض ويشكك في قدرتها على الصمود أمام هذا التعنت الممنهج.
وكانت المقاومة الفلسطينية أوفت بما عليها من التزامات وفق بنود الاتفاق بإطلاقها سراح 3 أسرى (ألكسندر تروبنوف، أسير لدى حركة الجهاد الإسلامي، وساغي ديكل حن ويائير هورن لدى القسام)، وذلك ضمن الدفعة السادسة لتبادل الأسرى من المرحلة الأولى، وفي المقابل أفرجت سلطات الاحتلال عن 369 أسيرًا فلسطينيًا (36 من المحكوم عليهم بالمؤبد و333 أسيرًا من قطاع غزة ممن اعتقلوا بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023).
مشاهد للمقاومة الفلسطينية خلال استعدادها لتسليم أسرى الاحتلال في #خانيونس ضمن الدفعة السادسة من صفقة التبادل. pic.twitter.com/OWznyh1nv4
— نون بوست (@NoonPost) February 15, 2025
وكانت حماس تمسكت بالالتزام ببنود الاتفاق، ضاربة بتهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عرض الحائط، حيث لوّح بتحويل غزة إلى “جحيم” إذا لم تفرج الحركة عن كل الأسرى الإسرائيليين لديها دفعة واحدة بحلول ظهر السبت 15 شباط/ فبراير 2025، الخطوة التي اعتبرها البعض تحديًا مباشرًا للرئيس الأمريكي الذي يسابق الزمن لترجمة الأجندة الصهيونية الواهمة في تهجير غزة وتدويل القطاع.
إصرار المقاومة على إطلاق سراح 3 أسرى فقط وتمسكها بما التزمت به سابقًا مع الوسطاء ضمن بنود الصفقة الموقَّع عليها بضمانة أمريكية مصرية قطرية، أربك حسابات حكومة نتنياهو ومجلس الكابينت المصغر، والذي عقد اجتماعًا عاجلًا بعد تسلم الدفعة السادسة من الأسرى، لمناقشة مستقبل الاتفاق، ما تبقى من مرحلته الأولى وتفاهمات المرحلة الثانية، وسط تنسيق مكثف مع الإدارة الأمريكية التي باتت هي الأخرى في موقف حرج بعد انتهاء المهلة المحددة دون أي رد فعل.
رفض أو إرجاء البروتوكول الإنساني
في أول رد فعل له على تمسك حماس ببنود الاتفاق وعدم الانصياع لتهديدات ترامب، رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي إدخال المنازل المتنقلة والمعدات الثقيلة لغزة، وفق ما كان مقررًا له في الاتفاق، وذلك في ختام مشاورات أمنية عقدها مع قادة الأجهزة داخل الكابينت، مساء أمس السبت، حسبما أكدت هيئة البث الإسرائيلية.
ولم يغلق نتنياهو الباب بشكل كامل أمام مسألة البروتوكول الإنساني، لافتًا إلى أن هذا الموضوع سيُناقش في الأيام المقبلة، وفق ما أشارت الهيئة التي كشفت عن استمرار جهود ومباحثات التنسيق والتفاهم مع واشنطن، التي أعربت عن كامل دعمها للكيان المحتل في إطلاق سراح أسراه دفعة واحدة.
وفي هذا السياق، جدد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المُستقيل إيتمار بن غفير، هجومه على نتنياهو، معتبرًا استمراره باتفاق وقف إطلاق النار “خطأ تاريخيًا يعيد البلاد إلى الوراء”، فيما نقلت إذاعة “103 إف إم” المحلية عن بن غفير قوله: “إن سلوك نتنياهو يتسبب في تآكل مستمر لإنجازات الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة”، وشدد على أن “الصفقة تلغي النصر الكامل لإسرائيل، وكل يوم يمر يثبت صواب رأيي في معارضة الاتفاق مع حماس”.
وأضاف: “أنا لست في الحكومة، وهذا ليس عبثًا. عندما ترى شاحناتهم (مقاتلي حركة حماس)، وسياراتهم من طراز تويوتا، وعدد الإرهابيين الذين عادوا إلى السلطة، وكمية المساعدات التي تقدمها الحكومة، فإن كل هذا يسمح لحماس بالحكم والسيطرة”، على حد تعبيره.
مواصلة خرق الاتفاق
لم يترك نتنياهو بابًا يمكن من خلاله خرق الاتفاق إلا طرقه وبقوة، فمنذ اليوم الأول لدخول الصفقة حيز التنفيذ وجيشه لا يكف عن ارتكاب الخروقات تلو الأخرى، ولولا سياسة ضبط النفس التي تلتزم بها المقاومة لتفويت الفرصة على رئيس الوزراء المأزوم، لما أكملت الهدنة يومًا واحدًا.
وآخر تلك الخروقات استهداف مُسيّرة إسرائيلية مجموعة من لجان حماية المساعدات التابعة لجهاز الشرطة في المناطق الشرقية لمدينة رفح جنوبي قطاع غزة، اليوم الأحد 16 شباط/ فبراير 2025، مما أسفر عن استشهاد ثلاثة فلسطينيين وإصابة آخرين، بينهم جروح خطيرة.
بدوره، قال المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: إن الاحتلال لم يلتزم حتى الآن بإدخال المعدات الأساسية إلى القطاع، منوهًا إلى أنه “لم يدخل إلى القطاع أي كرفانات أو معدات ثقيلة حتى اللحظة”، وأضاف: “عدم التزام إسرائيل ببنود الاتفاق يضع الوسطاء في موقف حرج”.
انتهاء مهلة ترامب
في حديث تغلفه العنجهية وتهيمن عليه لغة التطاوُس، وأمام عموم الصحفيين داخل مكتبه بالبيت الأبيض، وجّه ترامب تهديدًا وتحذيرًا مباشرًا لحماس ظهر الاثنين 10 شباط/ فبراير الجاري قائلًا: “فيما يتعلق بي، إذا لم تتم إعادة جميع الرهائن بحلول الساعة 12 ظهر السبت 15 شباط/ فبراير 2025، وأعتقد أنه وقت مناسب، أود أن أقول، ألغوا الاتفاق وستنهار كل الرهانات ودعوا الجحيم يندلع”.
توهم ترامب كما توهم نتنياهو أن تهديدًا كهذا من شأنه أن يربك حسابات المقاومة ويدفعها نحو الرضوخ والانصياع، حيث حبست الساحة العربية والإقليمية أنفاسها ترقبًا لما يمكن أن يحدث حال عدم التزام حماس بهذا الوعيد، فيما بدأ البعض مناقشة تفصيلات وسيناريوهات الجحيم الذي توعد به الرئيس الأمريكي الموهوم.
لكن أمام هذا المشهد المرتبك والملغم بقنابل الترقب والقلق، جاء رد المقاومة حاسمًا، الإعلان ابتداء عن أسماء 3 أسرى فقط ضمن الاتفاق المزمع، والكشف عن أسمائهم والمكان الذي سيسلمون فيه، ثم تقديم عرض مشهدي رمزي أسطوري لعملية التسليم، إبهار غير مسبوق في إدارة هذا الملف، إعلاميًا وسياسيًا وأمنيًا ونفسيًا.
ضربت حماس بتهديدات ترامب عرض الحائط، إذ وجد نفسه في مأزق أخلاقي وسياسي اعتاده مع كل من يتعامل معه بمنطق الندية وسياسة المعاملة بالمثل، متنصلا من وعيده بإلقاء الكرة في ملعب الكيان المحتل، مؤكدًا أن تل أبيب من لها الحق في اختيار الرد المناسب وأنه يدعم أي قرار تراه مناسبًا.
وأمام التراجع المُخزي في مواجهة ثبات وصمود المقاومة وإيمانها بقدراتها وإمكانياتها، كشف مصدر إسرائيلي لهيئة البث أن ترامب يريد تغيير الاتفاق المبرم مع حماس بحيث يتضمن إطلاق سراح كافة الأسرى الإسرائيليين قبل الموعد المحدد للمرحلة الثانية، فيما خرجت تسريبات تشير إلى رغبة نتنياهو في تمديد المرحلة الأولى حتى إطلاق سراح جميع الرهائن.
بالتوازي مع ذلك وصل وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، تل أبيب، مساء السبت، في أول زيارة له للكيان المحتل منذ توليه المسؤولية الشهر الماضي، حيث عقد اجتماعا مع نتنياهو في مكتبه في القدس ظهر اليوم الأحد، في محاولة للدفع قدماً باقتراح ترامب المتعلق بالسيطرة على قطاع غزة وتهجير سكانه لبعض الدول المجاورة.
الضغوط تتصاعد على نتنياهو
نشوة الانتصار المعنوي التي عاد بها نتنياهو من واشنطن التي زارها قبل أيام، وجرعة الدعم التي حصل عليها من الرئيس الأمريكي، والتي انعكست بطبيعة الحال على لغة خطابه التصعيدية ضد غزة والمقاومة، يبدو أنها بدأت تتلاشى مع مرور الوقت، إذ لم يؤت مخطط الترهيب أهدافه، وعلى العكس زاد الأمر تعقيدًا على الأرض.
كان الكل يترقب مراسم تسليم الدفعة السادسة من الأسرى، كونها البروفة الأولى بعد تهديدات ترامب ونتنياهو، وامتعاضهما عن مشاهد التسليم في المرات الخمسة السابقة، والتي دفعت كل من الزعيمين للتلويح بورقة الوعيد، حتى جاءت اللحظة الحاسمة لتؤكد المقاومة على المؤكد عليه، مشهدية رمزية تنسف مزاعم النصر المطلق وتكشف حجم البون الشاسع بين أخلاقياتها الإنسانية والانتهاكات الإجرامية التي يرتكبها المحتل والتي أثارت انتقاد وحفيظة الداخل الإسرائيلي ذاته.
وأمام هذا المشهد المرتبك تصاعدت الضغوط على نتنياهو تطالبه باستكمال مراحل الاتفاق والكف عن التلاعب بمصير الرهائن الإسرائيليين لصالح حسابات وأهداف خاصة، حيث نقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مسؤولين إسرائيليين وصفتهم بالكبار قولهم إن “الرهائن الذين لا يزالون في قطاع غزة يواجهون خطراً محدقاً بحياتهم” وهي التصريحات التي قرأت على أنها حث للحكومة عل إتمام المرحلة الثانية من صفقة تبادل الأسرى مع حماس.
فيما نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن أورين سيتر الذي استقال من فريق التفاوض الإسرائيلي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قوله: “من وجهة نظري، فوتنا فرصتين لتوقيع اتفاق… في مارس/ آذار ويوليو/ تموز” من العام الماضي. وأضاف: “لم نبذل كل ما في وسعنا لإعادتهم في أسرع وقت ممكن”.
شعبيًا.. خرج آلاف الإسرائيليين، من عائلات الأسرى والمناصرين لهم، مساء السبت، في تظاهرات حاشدة في تل أبيب والقدس، دعما لاستمرار صفقة تبادل الأسرى وتنفيذ المرحلة الثانية منها مع حركة حماس، فيما أكدت هيئة عائلات الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة، أنها لن تسمح لنتنياهو بعرقلة تنفيذ المرحلة الثانية من صفقة تبادل الأسرى.
المرحلة الثانية.. الكرة في ملعب الوسطاء
بإصرار نتنياهو على عرقلة المرحلة الأولى ورفض البدء في تنفيذ البروتوكول الإنساني في غزة، وتوظيفه كورقة ضغط على المقاومة لتقديم المزيد من التنازلات، باتت الكرة في ملعب الوسطاء بصفتهم الضامنين للاتفاق المبرم، وتقع على عاتقهم مسئولية إلزام الطرفين بالبنود الواردة في الصفقة.
بحسب هيئة البث الإسرائيلية يُزيد الوسطاء الضغوط على نتنياهو لبدء مباحثات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، كونها شرطا أساسيًا لاستكمال المرحلة الأولى، وفق ما أكد مصدر إسرائيلي للهيئة بقوله أنه من أجل الاستمرار في عملية التبادل خلال المرحلة الحالية، يجب على إسرائيل أن تبدأ مفاوضات جدية بشأن المرحلة الثانية، لافتا أنه كان من المفترض أن تنتهي المحادثات بشأن المرحلة الثانية بحلول نهاية الأسبوع المقبل وفقا للاتفاق، لكنها لم تبدأ حتى الآن.
بدوره شدد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على “ضرورة تحلي جميع الأطراف بالمسؤولية لضمان المحافظة على وقف إطلاق النار” في غزة، مؤكداً في تصريحات له خلال استقباله رئيس الكونغرس اليهودي العالمي رونالد لاودر، بحضور حسن رشاد رئيس المخابرات العامة، الأحد، أن “استمرار الصراع وتوسيع نطاقه سيضر بكافة الأطراف دون استثناء”.
وفي بيان نشره المتحدث باسم الرئاسة محمد الشناوي، على صفحة الرئاسة بموقع فيسبوك، أوضح أن اللقاء تناول سبل استعادة الاستقرار في المنطقة، حيث تم استعراض الجهود المصرية الرامية إلى تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بما في ذلك تبادل المحتجزين والأسرى وتيسير دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع. وأوضح المتحدث أن السيسي أكد أيضًا على أهمية البدء في إعادة إعمار قطاع غزة.
وتبذل كل من القاهرة والدوحة جهودًا دبلوماسية مكثفة، مع الشركاء الإقليميين والدوليين، لإثناء نتنياهو عن تراجعه عن تنفيذ بقية مراحل الاتفاق، بعدما قلب ترامب الطاولة على الجميع بالتلويح بتغيير الاتفاق بما يتضمن إطلاق سراح كافة الأسرى دفعة واحدة، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه عمليًا، سياسيًا وأمنيًا ولوجستيًا.
ثمة مخاوف كبيرة من أن تؤدي الفاشية المتزايدة داخل إسرائيل إلى مزيد من التصعيد، بحسب الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، مصطفى البرغوثي، الذي قال إنه سيكون صعبا حتى على الاحتلال نفسه، لافتا أن الرئيس الأميركي “ابتلع تهديداته، وألقى بالكرة في ملعب نتنياهو حتى يحمله مسؤولية أي إخفاق محتمل”.
في المحصلة.. يمر اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بمنعطف حساس للغاية، تصعيد في الخطاب الأمريكي الإسرائيلي في مواجهة صمود وثبات المقاومة، ومما زاد الموقف صعوبة حشر ترامب للأنظمة العربية المنخرطة في المشهد، مصر والأردن، في حجر زاوية ضيق للغاية، مما يبقى الساحة مفتوحة على كافة الاحتمالات، ما بين انهيار الاتفاق والعودة للمربع صفر مرة أخرى، او الدفع نحو المرحلة الثانية بشروط مختلفة، أو تمديد المرحلة الأولى نسبيًا بما يسمح بإطلاق دفعات إضافية من الأسرى كشرط للدخول في المرحلة الثانية.