ترتبط دول منطقة القرن الإفريقي الكبير بروابط تاريخية ثقافية واجتماعية قوية تؤثر بشكلٍ كبيرٍ على التطورات السياسية في هذه المنطقة من العالم، فعلى سبيل المثال عندما انطلقت الثورة السودانية ضد نظام البشير في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي تابعتها شعوب وحكومات دول الشرق الإفريقي بلهفةٍ واهتمامٍ بالغين، نظرًا للتأثير الجيوسياسي الكبير للسودان في هذه المنطقة، ولكَون الرئيس المخلوع البشير أقدم الديناصورات في إفريقيا وأطول الحكّام بقاءً في السلطة إذ امتدّت فترة حكمه لنحو 30 عامًا.
الأنظار تتجه إلى أسمرة
بعد سقوط البشير والتغيير السياسي الذي حدث في إثيوبيا بمجيء آبي أحمد رئيسًا للوزراء إلى جانب التطورات الإيجابية التي يشهدها الصومال رغم استمرار التحديات الأمنية، وكذا الحال بالنسبة لجيبوتي التي شهدت تغيرات إيجابية في الآونة الأخيرة، تتجه الأنظار إلى دولة إريتريا التي لا يزال يحكمها الديكتاتور أسياس أفورقي بالحديد والنار منذ استقلالها قبل 26 عامًا أي من العام 1993، فقد قام بعَزل البلاد عن محيطها الإقليمي والدولي، وأدخلها في صراعات لا تنتهي مع جيرانها (السودان وإثيوبيا واليمن).
مَنَع أسياس دخول وسائل الإعلام العالمية مكتفيًا بالقناة التليفزيونية الوحيدة التي تمجد نظام الجبهة الشعبية الحاكم وتنقل روايته
في إريتريا أسياس أفورقي لا مجال لحرية الأخبار والمعلومات، عشرات الصحفيين يقبعون في السجون الآن، وبعضهم في الحبس الانفرادي، وكل شيء في البلاد يخضع بشكلٍ كاملٍ لأهواء الزعيم الأوحد أفورقي، الذي نقل عنه ذات يومٍ قوله: “هؤلاء الذين يفكرون أن من الممكن أن تكون هناك ديمقراطية في هذه البلاد يستطيعون التفكير هكذا في عالم آخر”، وهناك مقابلة تليفزيونية شهيرة للرئيس الإريتري لإحدى الفضائيات الأمريكية، سأله فيها المذيع عن متى يتم إجراء انتخابات في إريتريا، فقال له أفورقي “سنرى أولًا ما ستجلبه الانتخابات الأمريكية وبعدها ننظر في الأمر بعد 30 أو 40 سنة”، المذيع أُصيب بالصدمة فقال لأفورقي: هل قلت 30 أو 40 سنة؟، كان رد أفورقي: “ربما أكثر.. ربما أكثر!”.
حكومة مؤقتة منذ 26 عامًا
مَنَع أسياس دخول وسائل الإعلام العالمية مكتفيًا بالقناة التليفزيونية الوحيدة التي تمجد نظام الجبهة الشعبية الحاكم وتنقل روايته، فضلًا عن الصحيفة والإذاعة المملوكتين للحزب الذي يحكم البلاد بالقبضة الحديدية، ولم تقم أي انتخابات لا رئاسية ولا تشريعية منذ استلامه للحكم، فالحكومة الموجودة في إريتريا لا تزال مؤقتة منذ أكثر من 26 عامًا!، ولهذا السبب ظلّت إريتريا تحرز مرتبة متقدمة في قائمة أكثر الدول رقابة على وسائل الإعلام، يليها كوريا الشمالية ثم تركمانستان، بحسب تقرير جديد لمنظمة لجنة حماية الصحافيين CPJ.
سياسة إريتريا منذ الاستقلال عن إثيوبيا في 1993 تقوم على التناقضات والتقلبات المستمرة
والقمع السياسي هناك يطالُ جميع المواطنين مع وجود عدد كبير من المعتقلين السياسيين يفوق عددهم الـ10 آلاف بعضهم قضى 10 أو 20 عامًا ولا يعرف إن كانوا أحياءً أو أمواتًا، وإضافة للقمع السياسي يعاني المسلمون بشكل خاص من قمع ديني وثقافي رغم أن نسبتهم تفوق 70% من العدد الكلي للسكان. لذلك، صارت إريتريا دولةً شبه خالية من السكان فمئات الآلاف من أبناء الشعب أصبح حلمهم الوحيد هو الهجرة خارج البلاد مما جعلهم وسيلة ثراءٍ شهية لعصابات الاتجار بالبشر المتعاونة بطريقة أو بأخرى مع جنرالات نافذين وفق تقارير منظمات حقوقية، وآخرون لقوا حتفهم في البحر المتوسط وهم في الطريق إلى دول أوروبا.
سياسة إريتريا منذ الاستقلال عن إثيوبيا في 1993 تقوم على التناقضات والتقلبات المستمرة، فكما ذكرنا تقوم السياسة الإريترية على أهواء وأمزجة الرجل الواحد “أفورقي” الذي اتفق من قبل مع رئيس وزراء إثيوبيا مليس زناوي في لندن على أن يدعم كل منهما الآخر، وبالفعل دعم الأول الثاني حتى تسلّم السلطة في إثيوبيا، وأوفى زناوي بوعده لأفورقي بتسهيل مهمة استقلال إريتريا لكن أسياس غدر برفيق دربه مشعلًا حربًا جديدة في المنطقة.
وهنا لا بد أن نشير إلى التضحيات الكبيرة لأبناء الشعب الإريتري من أجل الاستقلال والحرية، فقد قدّمت الثورة الإريترية خلال حرب التحرير آلاف الشهداء وما زالت التضحيات قائمة في سبيل الانعتاق من ديكتاتورية أفورقي الذي انقلب على رفاق النضال، وحوّل البلاد إلى سجنٍ كبيرٍ يضم آلاف المعتقلين السياسيين.
تقلبات في السياسة الخارجية مع الجيران
الـ26 عامًا من حُكم أفورقي كانت كلها عبارة عن تقلبات في السياسة الخارجية بالتحديد، إذ صنع عداوات مع كل جيرانه (السودان واليمن والصومال وجيبوتي وبالطبع إثيوبيا)، فإذا أخذنا السودان كمثال نجد أنه تدخّل في الشؤون الداخلية لهذا البلد وتوترت العلاقات بين أسمرة والخرطوم عدة مرات لدرجة أنها وصلت في نهاية تسعينيات القرن الماضي إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما، ثم ما لبثت أن عادت إلى طبيعتها ليس هذا فحسب، بل إن أسياس أفورقي كان أول رئيس دولة في العالم يستقبل الرئيس المخلوع عمر البشير بعد إصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرة توقيف بحقه عام 2009. وهذه واحدة من تناقضاته المتعددة.
توقفت جولات الرئيس الإريتري وزياراته المتتالية إلى أديس أبابا حيث كان دائم التردد على رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد خلال فترة شهر العسل التي لم تزد على أشهر معدودة
استمرّ “شهر العسل” الأخير بين السودان وإريتريا فترة طويلة مقارنة مع الفترات الماضية من التوترات، لكن العلاقة تدهورت مجددًا بعد القفزة التي شهدتها العلاقات السودانية الإثيوبية والتنسيق الكبير الذي حدث بين الخرطوم وأديس أبابا بدءًا من العام 2016، إذ إن أفورقي يتعامل بمنطق “صديق عدوي لا يمكن أن يكون صديقي”، وحتى عندما تم توقيع اتفاق السلام التاريخي مع إثيوبيا العام الماضي، بقيت علاقات أفورقي متوترة مع الخرطوم رغم محاولات التقرب التي بذلها الرئيس المخلوع عمر البشير.
اتفاق السلام مع إثيوبيا يدخل مرحلة البرود
وعلى ذكر اتفاقية السلام مع إثيوبيا التي لم يمضِ عليها إلا عام ويزيد، بدأت العلاقات بين أديس أبابا وأسمرة تدخل مرحلة البرود مجددًا، فقد قامت حكومة أفورقي بإغلاق جميع المنافذ البريّة مع الجارة الجنوبية قبل 5 أشهر، كما توقفت جولات الرئيس الإريتري وزياراته المتتالية إلى أديس أبابا حيث كان دائم التردد على رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد خلال فترة شهر العسل التي لم تزد على أشهر معدودة، كما أن أفورقي انتقد التدخل في الشأن السوداني بعد سقوط غريمه البشير وهو ما يعني عمليًا انتقاد دور الوساطة الإثيوبية التي قادها آبي أحمد.
ولعلّ السؤال الذي يدور في أذهان الكثيرين: ماذا حدث بين أسياس أفورقي وآبي أحمد ليحصل هذا الفتور السريع في العلاقات بعد “البروباجندا” الكبيرة عن اتفاقية السلام الإثيوبية الإريترية، التي روّجت لها بالتحديد وسائل الإعلام السعودية والإماراتية حيث ادعت كلٌّ من الرياض وأبو ظبي أن الفضل يرجع إليها في التوصل للاتفاق؟
أفورقي من العام 2016، ارتمى بشكلٍ كاملٍ في حضن المحور الإماراتي ويُعد وكيل ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في المنطقة
الجواب، كان الرئيس أفورقي يعتبر نفسه مرجعًا لآبي أحمد بحكم فارق السن بينهما، فحاول تمرير إملاءات محددة عليه خاصة فيما يتعلق بإقليم تغراي الإثيوبي المحاذي لدولة إريتريا، والأرجح أن آبي أحمد رفض التجاوب مع مطالب أسياس بالتشدد مع حكام إقليم تغراي الإثيوبي، رغم أن علاقة الأول مع مسؤولي إقليم تغراي ليست على ما يرام وبالأخص مع نائب حاكم الإقليم دبريسيون جبري مكائيل.
الأهم من ذلك، أفورقي من العام 2016، ارتمى بشكلٍ كاملٍ في حضن المحور الإماراتي ويُعد وكيل ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في المنطقة، إذ أنشات أبو ظبي قاعدةً عسكريةً في ميناء عصب الإريتري منذ ذلك العام، ويُقال إن المقاتلات الإماراتية التي تشن غارات على الحوثيين والقوات اليمنية مؤخرًا تنطلق من هذا الميناء، وكذلك يتم تفويج ونقل الجنود المرتزقة الذين يقاتلون لصالح أبو ظبي من ميناء عصب.
حاول أسياس أفورقي جر إثيوبيا لهذا المحور، وبذل ولي عهد أبو ظبي وعودًا برّاقة لإقناع الحكومة الإثيوبية الجديدة من خلال الإغراءات بالاستثمارات، ولكن هذه السياسة فشلت مع آبي أحمد الذي أصرّ على استقلالية القرار الوطني الإثيوبي، وهذا هو السبب الرئيس وراء فتور العلاقة بين الزعيمين، مع العلم أن اتفاق السلام لم يغير من واقع حياة الشعب الإريتري في شيء إذ لم يواكب نظام أفورقي التطورات ولم يقدم أي تنازلات فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحرية التعبير وبقيت السجون ممتلئة عن بكرة أبيها بالمعتقلين السياسيين، وما زال آلاف الإريتريين يتلقون التدريبات العسكرية القاسية في قاعدة ساوا سيئة السمعة دون أدنى أمل بتخفيض مدة التجنيد التي تمتد إلى 10 سنوات في بعض الأحيان.
قدمت المعارضة الإريترية مئات الشهداء من بينهم يوسف محمد علي وحامد تركي وهيلي ولدي تنسئي، علاوةً على الشيخ التسعيني موسى محمد نور الذي رحل في معتقلات النظام مطلع العام الماضي
لعل البعض يتساءل لماذا لم تشهد إريتريا ثورة ضد نظام أسياس أفورقي رغم فداحة ما ارتكبه؟ الجواب أن نضال الشعب الإريتري لم يتوقف في يوم من الأيام رغم الإعدامات والقمع والتنكيل، فالزنازين هناك ملأى بآلاف المعتقلين، وتُعتبر إريتريا أكبر سجنٍ للصحفيين في إفريقيا حسب المنظمات المعنية بالحريات الصحفية في العالم، فتفوقت على كوريا الشمالية في هذا الخصوص العام الحاليّ، وقد اُعتقل أكبر مجموعة من الصحفيين إثر الحملة الانتقامية التي شنتها السلطات في سبتمبر/أيلول من العام 2001.
وقدمت المعارضة الإريترية مئات الشهداء من بينهم يوسف محمد علي وحامد تركي وهيلي ولدي تنسئي، علاوةً على الشيخ التسعيني موسى محمد نور الذي رحل في معتقلات النظام مطلع العام الماضي، والعم نور اعتُقل أواخر أكتوبر/تشرين الأول من العام 2017 على خلفية مناهضته قرار السلطات الإريترية تأميم مدرسة الضياء الأهلية التي يدرس بها نحو 3000 طالب وطالبة المنهج الإسلامي ويتعلمون فيها اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم.
التطورات الأخيرة في المنطقة التي تحدثنا عنها في بداية التقرير لم تكن في صالح نظام أفورقي ورغم حالة العداء التي كان يعيشها الأخير مع المخلوع عمر البشير، فإنه تخّوف من تأثيرات الثورة السودانية وإمكانية تصديرها إلى داخل إريتريا، فالمواطنون الإرتريون تأثروا جدًا بنجاح الثورة السودانية وعبروا عن دعمهم ومساندتهم لها رغم أن الأوضاع في بلادهم أكثر سوءًا من أحوال السودان في عهد البشير، متمنين رحيل نظامهم الديكتاتوري بثورة شعبية على غرار نظام البشير.
تخوُّف من نجاح الثورة السودانية
قلق أسياس أفورقي وتخوفه من نجاح الثورة السودانية تمثّل في غيابه عن حفل توقيع انتقال السلطة إلى المدنيين، فالديكتاتور لا يطيق الاستماع إلى أهازيج الفرح وخطب انتصار ثورة ضد ديكتاتور آخر حتى لو كان عدوه اللدود، وكانت إريتريا هي الدولة الوحيدة والصوت النشاز الذي لم يبارك الوساطة الإثيوبية الإفريقية، ولا الاتفاق بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري المحلول إلا بعد قرابة شهر.
قال المدون والناشط أحمد إبراهيم، الذي اعتبر أن “الإريتريين إذا توحدوا ضمن المشروع الوطنى لقيم الحرية والعدالة الاجتماعية والمواطنة وبناء وتأسيس دولة القانون والدستور سيخرج الشعب بثورة شعبية كاملة داخل إريتريا تتلاحم مع الثورة المسلحة عندها فقط يتم إسقاط العصابة”
وبعد زيارة قام بها مستشار أفورقي، يماني قبراب تم الإعلان عن زيارة مرتقبة للرئيس الإريتري يفترض أن تتم يوم السبت المقبل، وتأتي الزيارة بعد أيام قليلة من اجتماع لأسياس أفورقي مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، ولذلك يرجح أن تكون زيارة أفورقي للسودان بغرض استطلاع الأوضاع بعد الثورة أو قد يكون يحمل رسالة إغراء إماراتية لقادة السودان الجدد (عبد الله حمدوك وحكومته)، مفادها “سندعمكم ونوفر لكم كل ما تريدونه من مال مقابل أن تنضموا لمحورنا”، إذ إن أفورقي أصبح منذ فترة يلعب دور الوكيل لولي عهد أبو ظبي في المنطقة.
وللتعرف على مستقبل الرئيس الإريتري استطلعنا رأي المدون والناشط أحمد إبراهيم الذي اعتبر أن “الإريتريين إذا توحدوا ضمن المشروع الوطنى لقيم الحرية والعدالة الاجتماعية والمواطنة وبناء وتأسيس دولة القانون والدستور سيخرج الشعب بثورة شعبية كاملة داخل إريتريا تتلاحم مع الثورة المسلحة عندها فقط يتم إسقاط العصابة”.
الجيش سيقف مع الثورة الإريترية
يجزم إبراهيم بأن قوة الدفاع الوطني من الجيش الإرتري تقف مع الشعب وتنتظر من يشعل الثورة في الداخل، وعن إمكانية تقديم أفورقي لتنازلات وإصلاحات مقابل البقاء في كرسي الحكم، يقول إبراهيم: “أسياس أفورقي لا يؤمن بالمصالحة والإصلاح يؤمن فقط بالقوة”، ويردف قائلًا: “أكبر احتمال أنه سيتم اغتياله من داخل الجيش حتى يتم التغيير لأن كل محاولات الإصلاح فشلت”.
يُذكّر أحمد إبراهيم بالمبادرة التي دفع بها مجموعة من القيادة التاريخية لحزب الجبهة الشعبية مطلع الألفينات، وكيف أن أسياس أفورقي غدر بهم رغم أن مطالبهم كانت إصلاحية حيث طالبوا بتفعيل الدستور وعقد مؤتمر لحزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة من أجل تقييم الحرب مع إثيوبيا التي أرهقت البلدين.
انتهى حديث المدون والناشط أحمد إبراهيم المهتم بالشأن الإريتري، ونؤكد على حديثه بأن وحدة الشعب الإريتري هي الأساس لطي صفحة الديكتاتور، وأقرب مثال على ذلك أن الثورة السودانية لم تنجح في الإطاحة بعمر البشير إلا بعد أن توحّد السودانيون جميعًا في الشمال والغرب والشرق والوسط والجنوب وأجمعوا أمرهم على رحيل الديكتاتور المخلوع.
ولذلك، يتعين على النُخب الإريترية بالداخل والخارج توحيد الصفوف والتخلي عن إدمان الانشقاقات والانشطارات الجهوية والثقافية لمخاطبة الشعب الإريتري والعالم برسالةٍ موحدةٍ، حينها يمكن أن تقوم الثورة الشعبية التي لا تبقي ولا تذر، فالثورة ليست تفاحة تسقط عندما تنضج، بل عليك إجبارها على السقوط، كما قال تشي جيفارا.