بعد عام من وصوله إلى الشمال السوري مع قوافل المهجرين من الغوطة الشرقية في نيسان/أبريل 2018، استولى عناصر ميليشيا الدفاع الوطني المتنفذين على منزل الشاب بسام قاسم في مدينة حرستا بريف دمشق.
تلقى قاسم الخبر من شقيقه الذي بقي في دمشق واختار الصمت حيال هذا السطو، فالتعبير عن الاعتراض أو تقديم شكوى قد يعرضه للسجن والاعتقال، خصوصاً أن قاسم معروف بانتمائه إلى فصائل المعارضة السورية في تلك الفترة.
يقول قاسم لـ”نون بوست”: “كنت من أوائل من دخلوا العاصمة دمشق مع سقوط النظام، وقبل كل شيء توجهت إلى بيتي المغتصب، كنت أبحث عنه كالمجنون، ولكن المصيبة كانت في وجود عائلة أعرفها في منزلي“.
وعندما منحهم ثلاثة أشهر للخروج من بيته، تفاجأ بأن العائلة قد اشترت منزله من العنصر الذي اختفى بعد دخول إدارة العمليات العسكرية إلى مدينة حلب.
يضيف قاسم: “طلبت منهم الإخلاء بعد ثلاثة أشهر أو العثور على ذلك العنصر الذي باعهم منزلي بمبلغ 23 مليون ليرة سورية خلال فترة تحرير حلب، أي قبل شهرين تقريبًا”، مضيفًا، “مبلغ الشراء زهيد جداً مقارنة بسعره الحقيقي وهو ما كان يجب أن يثير الشكوك لدى العائلة المتواطئة أيضاً، والتي أكدت شراءه بعقد رسمي موثق في السجل العقاري من ذلك العنصر.. لكن النكتة كانت عندما قالوا لي: إذا أردت استرداد منزلك فعليك تعويضنا بقيمة شراء المنزل”.
نهب بالقانون
قصة بسام الذي بات يفكر الآن بالعودة إلى مكان إقامته في عفرين شمال سوريا ريثما تحلّ قضية منزله، هي واحدة من آلاف القصص المشابهة للسوريين المهجرين واللاجئين الذين عادوا إلى مناطقهم بعد سقوط النظام ووجدوا أملاكهم قد بيعت عبر عمليات بيع غير قانونية وبأوراق مزورة.
أما المشكلة الكبرى تكمن في عدم قدرتهم على استرداد تلك الممتلكات، لأن صاحب عقد البيع الأخير استطاع إثبات ملكيته للعقار في المحكمة بعد أن دفع ثمنه. بمعنى آخر، صدقت المحاكم على المعاملات وأصدرت أحكاماً بنقل الملكية إلى “الملاك” الجدد، الذين انتحلوا صفة المالكين الأصليين كما حدث مع بسام.
ومهدت القوانين التي أصدرها النظام البائد الطريق لمؤسساته والمتنفذين الموالين له، مما سهل عليهم التحرك والمناورة لإتمام عمليات السرقة الممنهجة، وأدى ذلك إلى سلب ممتلكات وعقارات السوريين، خصوصاً المهجرين واللاجئين، وجرى ذلك عبر عقود مزورة ودون موافقة المالكين الحقيقيين.
واليوم، يواجه هؤلاء المالكين، إلى جانب رفض أصحاب الشراء الأخير إخلاء الممتلكات، خيارًا تعجيزيًا يتمثل في اشتراط تعويض أصحاب الشراء الأخير بمبلغ الشراء نفسه وبما يعادله بالدولار.
انتعشت ظاهرة التزوير بهدف سلب الممتلكات بشكل واسع في السجل العقاري، وذلك من خلال التواطؤ مع مكاتب عقارية ومحامين وكتّاب عدل وموظفين في الدوائر العقارية.
واستفاد هؤلاء المتواطئون من غياب أصحاب العقارات، أو عدم قدرتهم على الدفاع عن حقوقهم العقارية بسبب وفاتهم أو فقدانهم وثائق الملكية الرسمية المهمة. كما أن استخراج هذه الإثباتات أصبح أمرًا صعبًا، نظرًا لأنها تتطلب موافقات أمنية من جهاز المخابرات.
إضافة إلى ذلك، شهدت العديد من الدوائر الحكومية تدميرًا وحرقًا لسجلاتها وسندات ملكية المواطنين وغيرها من الوثائق القانونية، وشجعت حكومة النظام على انتشار هذه الظاهرة من خلال سن قوانين وُظّفت لتسهيل هذه العمليات.
وكانت صحيفة “الغارديان” البريطانية نشرت تحقيقًا استقصائيًّا في أبريل/ نيسان 2023، جاء فيه أن سوريا شهدت أكبر عملية سرقة عقارية في تاريخها، تستهدف بيوت المهجرين، وينفّذ هذه السرقة مزورون وشبكات مرتبطة بقوات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، وباستخدام المحاكم من أجل شرعنة السرقة، في محاولة لتجريد المنفيين من ممتلكاتهم وسلبهم من أي شيء يمكن أن يعودوا إليه، وقطع الطريق أمام عودتهم نهائيًّا.
عقبة أمام العودة
أصدر نظام الأسد البائد عدة قوانين لنهب ومصادرة بيوت السوريين المعارضين، ومن بين تلك القوانين القانون رقم 10 عام 2018، الذي وصف بأنه أخطر قوانين السيطرة على ملكيات السوريين الذي ألزم فيه مالكي العقار في سوريا بتقديم إثباتات ملكية لعقاراتهم خلال 30 يومًا وإلا فإنهم سيخسرون ملكيتها، ما أدّى إلى خسارة الكثير لممتلكاتهم وانتعاش ظاهرة تزوير الأوراق الرسمية، خاصة أن نسبة كبيرة من عقارات وممتلكات السوريين هي عشوائية.
عدا عن استثمار النظام أملاك الغائبين عبر المزادات العلنية، إذ تحول الاستثمار لأمر روتيني سنوي تمهيدًا للاستيلاء عليها بشكل قانوني، لا سيما أن جزءًا كبيرًا من تلك الأملاك هي أراضٍ أميرية تمَّ توزيعها على الفلاحين بموجب قوانين الإصلاح الزراعي، فعدم استعمالها مدة 5 سنوات يتيح المجال لإمكانية تطبيق المادة 775 من القانون المدني، والتي تنصّ على سقوط حق التصرف بالعقارات الأميرية واستردادها لتعود من أملاك الدولة.
ولم يكن يهدف من القوانين هذه إلا قطع الطريق على عودة السوريين استكمالاً لمنهجية تدمير عقاراتهم عبر الآلة العسكرية، لكن مع سقوط النظام وعلى عكس أصحاب العقارات والأراضي المباعة لأكثر من مرة مع رفض قاطنيها إخلاؤها، وجد العائدون أصحابُ الممتلكات التي استثمرها النظام لصالحه وحوّلها لمؤسسات تتبع له سهولة في استعادتها بعد تقديمهم سندات تثبت ملكيتهم لها.
وكمثال على ذلك استطاع أحد سكان مدينة دمشق من استعادة منزله في شارع بغداد بدمشق بعد أن استولى عليه ضابط واحتكره لنفسه دون أن يدفع ليرة واحدة منذ العام 1999.
في السادس من شباط/ فبراير الجاري، أصدرت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في سوريا تقريراً حمل عنوان “النهب والسلب: الاستيلاء غير القانوني وتدمير ممتلكات اللاجئين والنازحين داخليًا في سوريا”، تناول عمليات نهب وتدمير ممتلكات ممنهجة لمنازل المدنيين والتي تعيق عودة ملايين النازحين السوريين داخليًا واللاجئين في مختلف الدول.
وحثّ التقرير على منع ومعاقبة أعمال النهب وحماية الممتلكات التي تركها النازحون واللاجئون وراءهم من التدمير والاستيلاء غير القانوني من قبل الآخرين.
طريق وعر
غالبية العقارات التي يدور حولها الخلاف الآن تقع في أحياء عشوائية والتي تمثّل 40 في المئة من مجمل المساكن في سوريا، أو ضمن أبنية غير مرخصة أو عقارات مملوكة جماعياً مع وجود نزاعات ميراث قديمة.
كما أن العديد من هذه العقارات غير مدرجة في السجل العقاري الرسمي مما يعني أن المباني المبنية عليها غير مسجلة وغير مقسمة وغير مسجلة بأسماء أصحابها الشرعيين، ومع غياب أصحابها استولى عليها آخرون وتمكنوا من بيعها وخداع المشترين لاعتقادهم بأنهم أصحابها الشرعيون.
عدا عن أن كثيرًا من عمليات بيعٍ تمت بالإجبار والابتزاز، فحسب تقرير سابق نشره “نون بوست”، فإن النظام البائد منح مكتب الأمن الوطني والمخابرات صلاحيات الاستيلاء على أملاك المعارضين بقرارات إدارية وأمنية وحزبية.
بالمقابل أطلق يد الموظفين والمسؤولين والشبيحة في عمليات ابتزاز المعارضين وأهاليهم وإجبارهم على التنازل عن أملاكهم مقابل إطلاق معتقلين أو وقف الملاحقات الأمنية، أو التهديد بالقتل والاغتصاب لمن يقطن في مناطق سيطرته.
وكان الهدف من سلب تلك الممتلكات المتعدد الطرق هو إعادة توزيعها بشكل طائفي أولًا، فيما لم يكن إطلاق اليد في عمليات البيع المتعدد بإشراف ضباط ومتنفذين إلا مكافآت لهم بعد وقوفهم إلى جانب النظام في حربه على السوريين.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى المحامي السوري ومدير تجمع المحامين السوريين، غزوان قرنفل، أن بيع العقار ولمرات عدة يصعّب الأمور كثيرًا، ففي الغالب يكون ثمة مشترٍ حسن النية، وبالتالي هذا المشتري لا يمكن تحميله تبعات المسألة.
مضيفًا، “ربما يتحول حق المالك الأصلي من حق عيني إلى حق شخصي يقتصر على حق المطالبة بالقيمة المقدرة للعقار وكل حالة لها سبيل قانوني مختلف عن الحالة الأخرى، وهذا طبعا إذا تم الوصول إلى الفاعل وإثبات بطلان التصرف الذي قام به، ما يعني أن هناك تعقيدات وتفصيلات قانونية وطريقاً طويلًا وشائكًا سيتعين على المالك سلوكه ريثما يحصل على حقه”.
الحكومة الجديدة تتدخل
في 21 يناير/كانون الثاني، أصدرت المديرية العامة للشؤون العقارية التعميم رقم (1)، الذي وجهت من خلاله مديرياتها على مستوى المحافظات بالامتناع عن توثيق العقود التي تؤدي إلى إنشاء أو نقل أو تعديل أي حقوق عقارية على السجل العقاري، ما يعني إيقاف جميع المعاملات المتعلقة بملكية العقارات.
واقتصر عملها على خدمات: بيان قيد عقاري، وبيان مساحي، وسند تمليك، وجميع الخدمات العقارية، باستثناء توثيق عقد نقل الملكية، أو العقود التي تنشأ حق عيني عقاري في الصحيفة العقارية بما فيها إشارات الدعاوى التي تمس بأصل الحق العيني (تثبيت بيع أو شراء أو هبة أو مبادلة…).
وحسب موقع The Syria Report (المختص بالقضايا الاقتصادية والعقارية السورية)، فإن المديرية العامة ووزارة العدل لم تقدم مبررًا صريحًا لتعليق المعاملات العقارية، ومن الممكن أن يكون أحد الأهداف هو منع الأفراد الذين استحوذوا على ممتلكات بطريقة احتيالية في ظل النظام السابق من بيعها أو نقل ملكيتها، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من تعقيد عملية إعادة هذه الممتلكات إلى أصحابها الشرعيين، الذين نزح العديد منهم خارج سوريا.
وقد يكون الإجراء أيضاً يهدف إلى منع المتورطين في جرائم في ظل النظام السابق من التصرف في أصولهم للتهرب من المصادرة المحتملة، أما إذا كان الغرض من التعليق هو حماية أصحاب الممتلكات الشرعيين، فيمكن اعتباره إجراءً احترازيًا. ومع ذلك، إذا استمر سريانه لفترة طويلة، فقد يؤدي في النهاية إلى الإضرار بالمالكين الشرعيين.
يؤكد المحامي قرنفل، أنه خلال سنوات الحرب حصلت الكثير من حالات وأوجه الاعتداء على الممتلكات، والكثير منها تمّ سلبه بأساليب احتيالية وعمليات تزوير، وبعضها كان بوضع اليد والاشغال غير المشروع.
ويتابع القرنفل، إن نوع الاستجابة القانونية مرتبط بنوع حالة الاعتداء على الملكية، فالملكية المسجلة بالسجلات العقارية محمية أكثر بكثير من مجرد ملكية بعقد بيع غير موثق مثلًا أو إذا كان العقار ضمن العشوائيات، وبالتالي هذا الاختلاف في توصيف نوع المشكلة هو الذي يحدد السبيل القانوني الذي يجب اتباعه لاسترداد العقار، مع التنويه على أن كل السبل القانونية تمتد معالجاتها لسنوات ولا يمكن الفصل بتلك المنازعات بالاستناد إلى مجرد أقوال الأطراف ومزاعمهم.
وباعتبار أن عملية استرداد العقارات والممتلكات المنهوبة شائكة ومعقدة، لا بدائل عن سلوك هذه الطرق الوعرة، عدا عن الحاجة الماسة لإقرار قوانين رد الحقوق وتعويض الملاك الغائبين النازحين والمستثمرين الحاليين عند إعادة الأراضي إلى أصحابها الشرعيين، وإلغاء كل القوانين والمراسيم التي أصدرها نظام الأسد البائد وهو ما يقع حالياً على عاتق الحكومة الجديدة، التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار تآكل ثقة السوريين في المؤسسات الحكومية والقضائية لا سيما إن بقيت تتمتع بالنفوذ.
يختم القرنفل حديثه بالإشارة إلى أن الحكومة الجديدة لا يمكنها أن تفعل شيئًا سوى في العقارات الثابتة الملكية بالسجلات التي تمّ غصبها أو وضع اليد عليها وإشغالها، إذ يمكنها حينذاك أن ترفع الغصب أو تنزع اليد وتسلم العقار لمالكه، أما غير ذلك فليس لديها إلا الضغط باتجاه التعامل القضائي السريع نسبيًا مع الملفات المطروحة بحيث لا تطول سنوات عديدة وهذا يستلزم وجود كادر قضائي كبير.
ختامًا.. لا يمكن تجاهل أن قضية العقارات والملكيات سواء تلك المدمرة أو المنهوبة تشكل الحاجز الأكبر أمام عودة السوريين باعتبارها أهم عامل تشجعهم على العودة، فهذه القضية ليست مجرد قضية قانونية، بل هي قضية إنسانية تمس حياة ملايين السوريين الحالمين بالعودة، وبدون حل هذه المشكلة والتفاعل معها قانونياً بأسرع وقت ستبقى عودة السوريين بعيدة المنال وغير مجدية، وبالتأكيد سيكون أثرها سلبيًا جدًا على السلم الأهلي ويشعل نزاعات من الصعب إطفاؤها.