خمسة قرون عاشتها عُمان تحت راية حكم دولة بني نبهان العريقة، بدأت بوفاة الإمام أبي جابر موسى بن أبي المعالي موسى بن نجاد عام 549هـ/1154، وانتهت بالقضاء على حكم سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني، الملك والشاعر الشهير، وخلال حكمها عاشت انتصارات، رسخت الكثير من القيم، وساعدت بمساهمات عظيمة في نشر الإسلام، وحاذت شهرة عالمية في مجالات العلوم التقدمية التي سعى الغرب إليها، واعتمد على بعض منها في صنع أسطورة الحداثة الحاليّة، نهاية بالصراعات التي خاضتها بالداخل والخارج، ما أنهى حكمها، وتركت لنا التاريخ والدروس والعبر.
بنو نبهان
عصر النباهنة .. كيف تولى النباهنة حكم عمان؟
حتى نقف على بداية منطقية لمعرفة قصة النباهنة، يجب الإشارة أولاً إلى أن عمان يوجد بها قبيلتان تحملان نفس الاسم، تنحدر الأولى من منطقة طي التابعة لمحافظة جنوب الشرقية، والثانية وهي المعنية بدولة حكم النباهنة المنتسبة إلى “العتيك”، التي حكمت لأكثر من 5 قرون، وهو الحكم الأطول في تاريخ عمان، بالمقارنة بفترات حكم الأسر الأخرى.
من القرن الثاني عشر الميلادي وحتى القرن السابع عشر، أمسكت هذه الأسرة بمقاليد الحكم، التي لا يزال المؤرخون متحيرين بشأن مؤسس الدولة، البعض يفترض أن فلاح بن محسن هو أول ملوك النباهنة، والبعض يؤكد أن بن محسن كان الحاكم الثالث في ترتيب النباهنة المتأخرين، وهذه الروايات المتضاربة سببها، وجود فترتي حكم للنباهنة: الأوائل حكموا منذ النصف الثاني من القرن الخامس الهجري ــ القرن الحادي عشر الميلادي، وحتى 905هـ/1500م، والفترة الثانية يطلق عليها حكم النباهنة المتأخرون، وبدأ من 906هـ/1500م إلى 1034هـ/1624م.
حدث نوع من التحالفات القبلية، بين قيادات القبائل العربية، وتوصلوا إلى تفاهمات لفرض النفوذ على المناطق الجبلية والساحلية والصحراوية والسيطرة على مصادر المياه، ولكن هذه التفاهمات لم تطل كثيرًا
وتعود أصول النباهنة إلى قبائل الأزد العمانية، والأزد هو اسم لقبيلتين عربيتين، ذاعت شهرتهما بعد انهيار سد مأرب، الأولى نزحت من مرتفعات عسير وتعرف بأزد السراة، والثانية أقامت في عمان، وتعرف بأزد عمان، واندمجوا سريعًا مع النظام القبلي العربي الذي شكل ملامح تنظيمهم السياسي، ومنحهم الشغف باستيطان صحراء الجانب الغربي للمرتفعات، وجعلهم يتخلون عن المناطق الجبلية، فيما عدا نهايات السلاسل الجبلية، التي اختار العيش فيها بعض التجمعات القبلية، على طول طرق الهجرات الجنوبية والشمالية، وكانت هذه المناطق، محل طمع من بعض الجماعات من أودية المرتفعات المجاورة، التي سعت بين الحين والآخر لاختراق تلك السلاسل.
حدث نوع من التحالفات القبلية، بين قيادات القبائل العربية، وتوصلوا إلى تفاهمات لفرض النفوذ على المناطق الجبلية والساحلية والصحراوية والسيطرة على مصادر المياه، ولكن هذه التفاهمات لم تطل كثيرًا، بسبب الصراعات على الزعامة القبلية، بين الجلنديين، الذين جعلوا من “صحار” عاصمة لهم، وهي إحدى ولايات محافظة شمال الباطنة حاليًّا، وتقع في الجزء الشمالي من سلطنة عمان، وتبعد عن العاصمة مسقط 234 كيلومترًا شمالاً، أما العتيك فاستقروا في دبا، وهو موقع حصين على ضفاف الشاطئ الغربي لخليج عمان.
هذا التموضع، أدى إلى تنافس شرس، تحول إلى صراع بين المنفذين التجاريين في الجنوب الشرقي للجزيرة العربية، وهما صحار ودبا، لتنجح القبيلتان العربيتان العتيك وأولاد شمس “الجلنديين” حاليًّا، في الاستيلاء على هذه الموانئ، وتمكنتا بذلك من السيطرة على التجارة البحرية في الخليج، التي شكلت مع القبيلة والإمامة، أعمدة شكلت الثقافة والتاريخ في عمان، ولا تزال حتى الآن.
النباهنة والإسلام.. عصر السيطرة الكاملة
هناك روايات مختلفة عن كيفية اعتناق العمانيين الإسلام، أكثرها شيوعًا وتشككًا أيضًا، دخوله عمان عن طريق الملكين العمانيين جيفر وعبد ابنا الجلندي بن المستكبر، وهذه الرواية تؤكد أنهم اعتنقوا الإسلام خلال بعثة عمرو بن العاص، في السنة الثامنة للهجرة عام 630، أو في السنة العاشرة/632، والرواية الأخرى، تؤكد أن الإسلام وصل المنطقة قبل ذلك بسنوات، سبقت حتى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
مكن الترابط الجديد على أسس الفكر والشريعة الإسلامية من بناء وحدة، اقتنصت ميناء دبا، ومكنته من جني ثمار التجارة البحرية في الخليج
مع شيوع الإسلام، وتسيد كلمته على القبائل في الجزيرة العربية، كان فرصة كبرى للجلنديين للتخلص من السيطرة الفارسية، التي كانت تتركز أساسًا في المناطق الساحلية، ومكن الترابط الجديد على أسس الفكر والشريعة الإسلامية من بناء وحدة، اقتنصت ميناء دبا، ومكنته من جني ثمار التجارة البحرية في الخليج، وجعلها ميناءً مهمًا للعمانيين، وأُجبر الفرس على المغادرة من بعض الأراضي التي استوطنوها من قبل، وتوسع الجلندانيون في السيطرة بالمقابل على القبائل العربية.
تتبع تاريخ الملوك والأمراء النبهانيين بدقة، يجعلنا نصل إلى ثلاث أسر لها أنساب مختلفة، رغم انتسابهم جميعًا للنبهاني، وقد استوطنت في ثلاث مناطق رئيسية، الأولى انحدرت من عمر بن ذهل بن نبهان بن عثمان، وسيطرت على نزوى وبهلاء ومناطق الظاهرة، وهؤلاء عادة ما يعرفون بالملوك النبهانيين، أما الثانية فكانت للذين حكموا منطقة سمائل، والثالثة تنتمي إلى يعرب بن عمر، وحكموا الجزء الشمالي من جبل الحجر واستوطنوا الرستاق ونخل، وهذه الأخيرة تفرع منهم من عرفوا فيما بعد باليعاربة، وحكموا عمان في الفترة بين 1624 إلى 1741.
ساهمت هذه التركيبة والتفرع في حكم الأسرة، في تفسخ القيادة، وخلقت وضعًا تنافسيًا وحكومة لا مركزية يتنازع أقطابها بشكل دائم على الزعامة وفق قواعد الولاءات القبلية، وهذا الشكل في القيادة، صعّب على المؤرخين، تحديد من السلطان المركزي الذي يسلم له الولاء الكامل، بعد عهد الإمامة الأولى في عمان، لذا يرى الكثير من الباحثين أن المدخل الرئيسي لفهم نشأة الأسرة النبهانية وسلطتهم في عمان، في فهم النظام القبلي وتغير موازين القوى فيه منذ أن استوطن العرب الجزء الجنوبي الشرقي من الجزيرة العربية.
كان النباهنة بحسب وصف “ابن زريق” ملوك عظام، أشهرهم جودًا وكرمًا الفلاح بن المحسن، بحسب ابن زريق الذي لم ينفرد وحده بالحديث عن هذه المكارم في أخلاق النبهانية، ولكن الرحالة الشهير ابن بطوطة، أشاد بهم
وعلى الرغم من الاختلاف بشأن كيفية دخول الإسلام إلى عمان، وصولاً إلى البحث في لعب النباهنة دور كبير في ترسيخه بالمنطقة، فإن هناك شبه إجماع أنها لعبت دورًا رئيسيًا في حروب الردة التي حدثت بعد وفاة النبي، كما شارك العمانيون في الفتوحات الإسلامية، برًا وبحرًا بالعراق، وكانت الدولة الأبرز في نشر الإسلام من خلال أنشطتها التجارية والملاحة البحرية الواسعة في منطقة البحيرات العظمى الإفريقية والشرق الأقصى، وخاصة خلال القرن التاسع عشر، عندما ساعدوا في نشر الفكر الإسلامي بالمدن السواحلية وسط إفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا والصين.
كان النباهنة بحسب وصف “ابن زريق” ملوك عظام، أشهرهم جودًا وكرمًا الفلاح بن المحسن، بحسب ابن زريق الذي لم ينفرد وحده بالحديث عن هذه المكارم في أخلاق النبهانية، ولكن الرحالة الشهير ابن بطوطة أشاد بهم خلال زيارته لعُمان، وكتب كثيرًا عن تواضعهم، بعدما أتيح له اللقاء بالملك النبهاني أبي محمد، وقال إن أهم عاداته الجلوس خارج باب داره، دون صحبة حاجب أو وزير، ولم يكن يمنع أحدًا من الدخول إليه من غريب أو غيره، بل كان يكرم الضيف على عادة العرب ويعين له الضيافة ويعطيه على مقدار قدره.
ويمكن القول إن أفضل الإنجازات التي ساهم بها النباهنة، الحفاظ على عربية الدولة، من خلال الصراع الطويل مع الفرس، وكان أشده شراسة، الحرب التي اندلعت عام 647هـ/1276م خلال حكم عمر بن نبهان، حيث أغار الفرس على عُمان بقيادة فخر الدين بن الداية، وأخيه شهاب الدين نجلي حاكم شيراز، وعندما نزل الجيش الفارسي مدينة صحار التقى بهم عمر بن نبهان في حي عاصم بمنطقة الباطنة وظل يقاتل حتى استشهد وثلاثمئة من جيشه.
لم يتوقف الصراع بين النباهنة والفرس، إذ تكرر بعد نحو قرنين من الزمان، وتحديدًا عام 866هـ/1462م، حيث أغاروا من جديد على عُمان واتخذوا من بهلا مقرًا لهم
زحف الجيش الفارسي إلى نزوى واستولى عليها ونهب منازلها وسوقها وأحرق المكتبات، وأخرج أهل نزوى من منازلهم، وحل رجاله محلهم، ثم توجه إلى بهلا العاصمة الثانية للنباهنة، وحاصرها إلا أنها استعصت عليهم وخلال فترة الحصار، قتل فخر الدين أحمد بن الداية، وكان لقتله أكبر الأثر على معنويات جنده الذين قرروا الانسحاب من عُمان نهائيًا بعد أن مكثوا فيها أربعة أشهر.
لم يتوقف الصراع بين النباهنة والفرس، إذ تكرر بعد نحو قرنين من الزمان، وتحديدًا عام 866هـ/1462م، حيث أغاروا من جديد على عُمان واتخذوا من بهلا مقرًا لهم، بعدما طردوا الملك النبهاني سليمان بن مظفر، الذي فر إلى الأحساء ولكنه لم يستسلم، إذ اتخذها مكانًا لإعادة ترتيب جنده، ثم عاود هجومه على الفرس وتمكن بالفعل من تحرير عمان وإعادة ملكه والصبغة العربية للبلاد.
أعلام دولة النباهنة .. من البحر لـ”العالمية”
بجانب العلماء العظام الذين عايشوا تلك الحقبة الزمنية، المصري جلال الدين السيوطي والأندلسي أبو الحسن علي بن محمد بن علي القرشي، إلا أن الدولة النبهانية، كان لها بصمتها الخاصة في الحياة العلمية، وكان من أبنائها أحمد ابن ماجد، المولود في 821هـ والمتوفي في 906هـ، وهو معلم بحر عربي، وكان ضليعًا في اللغة العربية، وينطق أكثر من لغة أجنبية، بخاصة لغة الشول على الساحل الشرقي لهضبة الدكن، كما كان جغرافيًا وفلكيًا عبقريًا، وتفوق بسنين ضوئية على جميع أقرانه العرب والعجم.
ظل تراث ابن ماجد، على قمة المجد حتى النصف الثاني من القرن الماضي، وما زالت حتى الآن، أعماله تلقى شهرة واسعة، وخاصة حاوية الاختصار في أصول علم البحار، والسفالية، وكتاب الفوائد
ارتقى ابن ماجد بسرعة من ملاح عادي إلى ربان ماهر، فمعلم، مصنف، واكتسب شهرة عاليمة، وكانت مؤلفاته يتعلم منها ربابنة بحر الهند، ووصل الزخم بالاستحواذ عليها، إلى فاسكودا غاما، أحد أكبر مشاهير مستكشفي البرتغال في عصر الاستكشاف الأوروبي، وهو أول من سافر من أوروبا إلى الهند بحرًا، الذي كان يتعقب السفن العربية ليسطو على حمولتها وعلى مخطوطاتها الملاحية.
كان ربابنة جزر المالديف أيضًا يستعملون نسخًا مترجمة عن ابن ماجد، وتسمى حتى الآن بمؤلفات “ماجد كتابي”، كما ترجمت كتبه إلى لغة الأردو، ولم يخف ثقل ابن ماجد بعد وفاته، لدرجة أن أمير البحر التركي علي ابن الحسين، نقل ما وصل إليه من إرث ابن ماجد إلى اللغة العثمانية عام 1554م، أي بعد مرور نصف قرن على وفاته.
ظل تراث ابن ماجد، على قمة المجد حتى النصف الثاني من القرن الماضي، وما زالت حتى الآن، أعماله تلقى شهرة واسعة، وخاصة حاوية الاختصار في أصول علم البحار، والسفالية، وكتاب الفوائد، وملاحقه الفلكية بنظم “القافية في معرفة المجهولات من النجوم” ونظم “المخمسة” الذي قام بتأليفه عام وفاته وهو ابن الـ81 عامًا.
كأي دولة في العالم، وليست الدول الإسلامية وحدها، كانت النزاعات الداخلية والحروب الأهلية سببًا لإعادة غزوات الفرس من جديد، فزحفوا على مدينة صحار لكن سليمان بن مظفر بن سلطان، تمكن من صد الهجوم خلال هذه الاضطرابات، وسيطر على الجيش والسلطة، واتخذ من مدينة بهلًا مقرًا لحكمه، ولكن عادت الصراعات من جديد، وامتدت إلى منطقة الظاهرة، التي كان يسيطر عليها أبناء الملك النبهاني فلاح بن محسن، ولم تؤثر هذه الخلافات على تشرذم وتصدع أقطاب الأسرة الحاكمة فقط، وانعكاس ذلك على ضعف الدولة، بل أثرت بشدة على العلاقة مع خلفاء الدولة الأموية والعباسية، وتوترت العلاقات بينهم، ما ساهم في زيادة التوتر وتصدع الدولة وعدم استقرارها.
ومن وسط هذه الفوضى، خرج ناصر بن مشرد اليعربي، باختيار أهل الحل والعقد في عُمان، وعقدوا له الإمامة سنة 1034هـ/1624م لتبدأ البلاد مرحلة جديدة من التلاحم، حيث استوعب الإمام الجديد كل تجارب وطنه وعزم النية على أن يبدأ بتوحيد البلاد على اعتبار أن ذلك صمام الأمان لمواجهة الخطر الخارجي المتمثل في الاحتلال البرتغالي، واستهلت عُمان عصرًا جديدًا في عهد دولة اليعاربة.