“التسريب” هو مصطلح شاع استخدامه في المجالين السياسي والاجتماعي المصري مؤخرًا، بعد نجاح عدد من المنصات الإعلامية المعارضة في الحصول على مواد تحمل مضامين أخلاقية وقانونية خطيرة على المنظومة السياسية والأمنية المسيطرة على مصر منذ انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013.
وبعد توقف ماكينة التسريبات عن العمل لفترة طويلة، ورفض بعض المنصات نشرَ عدد من الموادّ الواردة إليها لاحتوائها على أسرار شخصية (فضائح أخلاقية) من باب الحفاظ على حد أدنى من المهنية وعدم السقوط في وحل القنوات الإعلامية التابعة للنظام؛ أطلّ علينا المقاوِل المصريّ ورجل الأعمال الشابّ “محمد علي” بعدد من مقاطع الفيديو التي توثق تفاصيل خطيرة عن اقتصاد الجيش، وطريقة إدارة البلاد، وحجم الفساد في المنظومة السياسية الحاكمة.
المقاول المصريّ الغاضب ليس رجلًا عاديًا مغمورًا أو حتى رائد أعمال ناشئ يشق طريقه، وإنما ينحدر من أسرة معروفة في كثير من الدوائر المحلية، بسبب نجاحها الكبير في عدد المجالات الاقتصادية والرياضية.
ومع أن مسؤولي النظام وقياداته المذكور أسماؤها قد عزفت عن الاشتباك مع مضامين مقاطع الفيديو المنشورة؛ إلا أن الإشارات الصادرة عن النظام حيال هذه القضية تكشف عن صدمة كبيرة، وانزعاج واسع المدى، ورغبة حقيقية جادة في وقف تداول هذه المقاطع.. فلمَ هذا الانزعاج الشديد الذي بلغ حدّ إجبار أقارب المقاول من الدرجة الأولى (الأب والأخ) على التبرؤ منه على الهواء مباشرة؟
حقائق موثقة
المقاول المصريّ الغاضب ليس رجلًا عاديًا مغمورًا أو حتى رائد أعمال ناشئ يشق طريقه، وإنما ينحدر من أسرة معروفة في كثير من الدوائر المحلية، بسبب نجاحها الكبير في عدد المجالات الاقتصادية والرياضية.
فوالده، علي عبد الخالق، كان بطلًا عالميًا في رياضة “كمال الأجسام”، في الفترة من نهاية الستينيات حتى مطلع الثمانينيات، ثم مسؤولًا عن إدارة المنتخبات في الاتحاد المصري لكمال الأجسام. وبالتزامن مع هذا التفوق الرياضي، نجح في تأسيس استثمار متوسط الحجم في مجال تجارة الذهب بمنطقة العجوزة على أطراف القاهرة، وذلك قبل أن ينتهي به الحال إلى العمل في مجال المقاولات والتشييد.
أما محمد، ابنه وبطل القصة، فهو – على طريق أبيه – بدأ حياته بطلًا محليًا في رياضات كمال الأجسام ورمي القُرص، ثم تفرّغ للعمل الحر في مجال المقاولات، من خلال شركة “أملاك” للاستثمار العقاري؛ بعد ما وجد أن شغفه الشخصي بعيد عن مجال تجارة الذهب.
في مقاطع الفيديو التي قام بنشرها، لا يتحدث “محمد” عن قضايا الفساد بشكل عام ومُرسَل كما يقوم معظم المواطنين بشكل يومي، وإنما يتحدث عن وقائع محددة
وتعدّ شركة “أملاك”، التي يرأس “محمد” مجلس إدارتها، واحدة من أكبر عشر شركات مصرية عاملة في مجال التشييد والبناء، ونتيجة لذلك، فإنها تشارك القوات المسلحة المصرية العملَ في مشروعاتها المدنية منذ ما يقارب 15 عامًا، ويعمل تحت إدارتها مئات المصريين من “الصنايعية”، والموردين والمهندسين والاستشاريين والمحاسبين.
وفي مقاطع الفيديو التي قام بنشرها، لا يتحدث “محمد” عن قضايا الفساد بشكل عام ومُرسَل كما يقوم معظم المواطنين بشكل يومي، وإنما يتحدث عن وقائع محددة، ويوجه أصابع الاتهام إلى أشخاص معينين ذوي حيثية مهنية وإعلامية في معسكر السلطة، باعتبار أنه كان جزءًا من هذه المعادلة لمدة طويلة؛ ولكنه تضرر في رأسماله بشكل مباشر، نتيجة طريقة إدارة هذا الفساد، وتغوّل سلطة القيادات العسكرية. وعندما حاول المطالبة بحقه، قوبل بالتجاهل والتهديد بالسجن.
ومن أبرز الأسماء التي اتهمها محمد بالفساد العام وسرقة أمواله: اللواء كامل الوزير الرئيس السابق للهيئة الهندسية للقوات المسلحة ووزير النقل الحالي، واللواء عصام الخولي مدير إدارة المشروعات بالهيئة الهندسية، واللواء شريف صلاح من المخابرات الحربية وصديق مقرب من السيسي، والعميد ياسر حمزة، والمقدم محمد طلعت.
وفي عمل انتقاميّ ردًا على ما تعرض له من ظلم وإهدار للحق كما يسميه، يذكر رجل المقاولات الشاب – بشكل واضح – طبيعةَ المشروعات التي أسندتها القوات المسلحة إلى شركته بغرض القيام بأعمال إنشائية أو تجهيزية، ثمّ شابَتها شبهات فساد ومجاملات وإهدار لأموال الدولة من كبار رجال الجيش.
ليس ذلك وحسب، بل ويحدد بشكل دقيق حجم هذه المشروعات، وموقعها الجغرافي، وكلفتها التقريبية، وعدد العاملين بها، وملابسات الشروع في طرحها من قبل القوات المسلحة، ويطالب المواطنين القريبين من محيطها بالاطلاع عليها وتصويرها.
هذا الأسلوب منح حديثَه مصداقيةً إضافية لدى الجمهور العادي، ومثّل – في نفس الوقت – إحراجًا مضاعفًا للقيادات العسكرية المذكورة، ومن خلفهم أنصار الدولة واللجان الإلكترونية، التي لجأت إلى الشخصنة واتهامه بالتهم التقليدية المعروفة كخيانة الوطن والتآمر على الجيش؛ بعد أن وجدت نفسها عاجزة عن الرد التفصيلي على اتهامات رجل الأعمال المنشقّ.
نقد المشروعات القومية
يتعرض الجيش المصري منذ عام 2014 إلى تشكيكات كبيرة في العوائد الاقتصاديّة والجدوى المتوقعة من مشروعاته التي تتكلف مليارات الدولارات من خزينة الدولة وأموال المواطنين، وسط تساؤلاتٍ عما يعرف اقتصاديًا بـ”تكلفة الفرصة البديلة”، ومطالبات بعرض هذه المشروعات على لجان اقتصادية محايدة لتقييمها موضوعيًا، بعيدًا عن “بروباجاندا” الدولة والرئيس.
وقد كان شروع الجيش في الانسياق وراء دعوة الرئيس إلى حفر قناة جديدة موازية لقناة السويس القديمة بطول 35 كم، حجر الزاوية في تشكل قناعاتٍ راسخة لدى شريحةٍ كبيرة من المتخصصين وغير المتخصصين في مصر بعدم جدوى المشاريع القومية العملاقة التي تتبناها الدولة وينفذها الجيش.
وأحد أهم الأسباب في تشكّل هذه القناعات عند المصريين، كان إعلان الرئيس المصريّ عبد الفتاح السيسي في عدة مناسبات أن المشروع الذي تطلب إتمامه سحب 8 مليار دولار (64 مليار جنيه) من مدخرات المصريين عام 2014، كان الدافع الرئيس للعمل عليه هدفًا نفسيًا اجتماعيًا وليس هدفًا اقتصاديًا، وهو:”رفع الروح المعنوية لدى المصريين”.
يحاجج رجل الأعمال الذي تولت شركته مهمة تجهيز حفل افتتاح القناة الجديدة، من خلال موقعه التقنيّ، كمدير لشركةٍ عملاقة في قطاع الإنشاءات المصريّ ومستثمر قادته كفاءته إلى مشاركة الحكومة الإسبانية في العمل على أضخم مشروع ثقافي في البلاد (برشلونة) بتكلفة وصلت إلى 7 مليار يورو، عن الموقف النقديّ المتبني لوجهة النظر القائلة بعدم جدوى هذه المشروعات متسائلًا: كيف لقناة السويس الجديدة أن تكون مشروعًا ناجحًا في حين أنني إلى الآن، وبعد مرور أربعة أعوام كاملة على افتتاح المشروع، لم أتسلم بقية مستحقاتي عن تجهيز حفل الافتتاح الذي تخطت كلفته 60 مليون جنيه مصري؟
المخاوف من إهمال دراسات الجدوى، وسياسة التركيز على الكمّ ومعدلات الإنجاز مقابل الكيف، كرّست إليها تصورات رئيس الجمهورية الاقتصادية
وبالفعل، تشير التقارير الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى أن القناة لم تحقق أي طفرات نوعية في دخلها منذ افتتاحها عام 2015، بل على العكس من ذلك، شهدت عوائد القناة انخفاضا حادا بنسبة 10٪ على أساس شهري خلال يونيو الماضي، ونسبة 1.4٪ على أساس نصف سنوي، مقارنة بعائداتها خلال نفس المدة من العام الماضي، كما انخفضت في نفس الوقت قيمة أرباح شهادات استثمار قناة السويس – التي يفترض أن يستلمها المكتتبون خلال سبتمبر الحالي – بعد قرار تعويم الجنيه، الذي أدى إلى خسارته أكثر من 100٪ من قيمته أمام الدولار الأمريكي عام 2016.
المخاوف من إهمال دراسات الجدوى، وسياسة التركيز على الكمّ ومعدلات الإنجاز مقابل الكيف، كرّست إليها تصورات رئيس الجمهورية الاقتصادية، والتي طالب أعضاء حكومته ومساعديه بالالتزام بها في أكثر من مناسبة، كان آخرها حينما سأل محافظَ الإسكندرية عن إزالة أحد الأسواق الشعبية الكبيرة بمدينة الحضرة لاستكمال أحد مشروعات الطرق، فأخبره المحافظ بحاجته إلى بعض الوقت لدراسة الأمر؛ فسأله الرئيس مستنكرًا: “أنت لسه هتدرس؟!”.
ويؤكد “علي” أن كثيرًا من المشروعات العقارية التي تم إسنادها إلى مجموعة “أملاك”، لم تكن لتتم أبدًا لو أنها خضعت إلى دراسة جدوى حقيقية، وعلى رأسها مشروع إنشاء فندق ضخم في منطقة الشويفات بالتجمع الخامس (فندق تريامف).
الفندق بحسب محمد، هو فندق 7 نجوم، تكلف إنشاؤه 2 مليار جنيه مصري، في منطقة غير سياحية بالأساس، سبق وأن شهدت محاولات فاشلة للاستثمار في الفنادق الفارهة، فلم يرتدها بعد إنشائها إلا عدد قليل رجال الأعمال، لتعمل طوال العام “قاعات أفراح”، كما أن موقعه لا يمتلك أي ميزة تنافسية توفر له الحد الأدنى من مقومات النجاح؛ باستثناء كونه هديةً من الرئيس المصريّ إلى صديق رحلته المهنية، اللواء شريف صلاح من المخابرات الحربية، والذي يمتلك “فيلا” خلف الفندق مباشرة.
من المعروف منذ وقت طويل أن الجيش المصري يحتفظ لنفسه بقطاع أعمال ضخم واقتصاد مواز، اعتبره مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية عام 2012 “عَرَق الجيش”
وبحسب رجل الأعمال المنشقّ، فقد نشأت الأزمة بينه وبين المؤسسة العسكرية أساسًا، بعد تصريحه لبعض القيادات في إحدى الجلسات الخاصة بأن كثيرًا من المشروعات الضخمة التي تعمل عليها القوات المسلحة في الوقت الحالي لن يكون لها عائد (Income) من منظور اقتصادي بحت؛ فغضب الضباط بعد هذا التصريح الذي اعتبرونه تجاوزًا “سياسيًا” يستحق أن يعاقب عليه بالإحالة للمحاكمة العسكرية بتهم فساد ماليّ، شَرْعنت، بعد ذلك، عمليةَ التهرب من سداد أمواله التي ضخها في مشروعات تابعةٍ للجيش.
لماذا المقاولات تحديدًا؟
من المعروف منذ وقت طويل أن الجيش المصري يحتفظ لنفسه بقطاع أعمال ضخم واقتصاد مواز، اعتبره مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية عام 2012 “عَرَق الجيش” الذي لن يسمح للمدنيين بإدارته والاستحواذ عليه، بحجة أنه يدرّ عوائد مالية ضرورية توفر للجيش حاجاته المدنية والعسكرية، دون الضغط على ميزانية الدولة المنهكة؛ بل وتدعم هذه العوائد الموازنةَ العامة في وقت الأزمات، مثلما قام الجيش بضخّ مليار دولار في البنك المركزي المصري بعد ثورة يناير 2011.
وبالرغم من التعايش مع هذه الحقيقة باعتبارها نتاجًا للسياق المصري الذي يمنح الجيش خصوصيةً تاريخية، فلم يصل حجم هذا الاقتصاد الموازي طيلة فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارَك، التي امتدت 30 عامًا من عام 1981 إلى عام 2011، إلى هذا المستوى غير المسبوق الذي وصل إليه خلال فترة حكم السيسي، والتي لا يعلم أحد إلى متى سوف تستمر.
ووفقاً لأحدث التصريحات الرسمية الصادرة عن المؤسسة العسكرية المصرية، فقد بلغ عدد المشاريع التي يديرها الجيش 2300 مشروع، تُشغل 5 مليون مصري، وتتركز في قطاع البنية التحتية “المقاولات” بشكل رئيس. هذا الرقم الضخم من العمال يعادل 20٪ من حجم قوة العمل الفعلية في السوق المصري، والتي تبلغ 23 مليون عامل، بحسب تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
ويكشف صاحب شركة “أملاك” في أحد المقاطع بشكل واضح أسباب تركز “بيزنس” الجيش في قطاع المقاولات، ويردها في المجمل إلى بنية الفساد المتجذرة في هذا القطاع الذي يضمن تدوير رأس المال الفاسد بشكل سريع وآمن، وتحقيق عوائد مرتفعة نسبيًا، عبر بوابة العمل مع الجيش في المشروعات الوطنية العملاقة.
يؤكد “علي” من واقع عمله مع الجيش، أن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، المنوط بها التعاقد مع شركات المقاولات المدنية لإنجاز المشروعات من الباطن، ينبثق عنها عدد من المؤسسات الفرعية التي تتداخل في عملها مع القطاعات المدنية الرسمية بشكل واضح
وبحسب محمد، فإن هناك ثلاث مراحل – لا تخلو جميعها من الفساد – تمرّ بها مشروعات المقاولات بدءًا من مرحلة الإعلان عن المشروع وصولًا إلى تنفيذه وخروجه إلى النور.
المرحلة الأولى، هي مرحلة اختيار الشركات المنفذة للمشروع، والتي تتم عبر “الإسناد المباشر”، دون اللجوء إلى الطريق القانونية المعروفة، وهي طرح مناقصة علنية، تتقدم إليها عدد من الشركات المهتمة بالمشروع، ويتم الاختيار من بينها وفقًا لمعايير تقييم موضوعية تتعلق بتاريخ الشركة، وجودة تصميماتها، وأسعارها التنافسية. وبينما تخلق المناقصات العلنية مناخا صحيا من التنافسية والشفافية، وتوفر ضمانات عالية لجودة المشروعات، وتقلص من فرص الفساد؛ يفضل الجيش طريق الإسناد المباشر؛ نظرا لأنه يتناسب مع رغبته الدائمة في التنفيذ الفوري للمشروعات دون دراسة حقيقية، وتركه هامش حرية واسع لاختيار شركات مقربة من الجيش وقاداته.
المرحلة الثانية، هي مرحلة التمويل الفوري لبدء تنفيذ المشروع. والتي تتمّ عبر واحدة من طريقتين أو كلتاهما معًا: الطريقة الأولى، أن تضخّ الشركة المنفذة بنفسها جزءًا من الأموال من خلال “مندوب مالي” تختاره لصرف وحساب ما تقوم بإنفاقه في المشروع بالتنسيق مع الجيش، أو أن تحصل الشركة على “سُلفة” من الجيش لحين إعداد العقود الرسمية للمشروع، والتي ستتيح للشركة عند توقيعها الحصول على “قرض” من إحدى المؤسسات التمويلية التي تنظر إلى القوات المسلحة باعتبارها ضامنا مثاليا نظرا لخياراتها الواسعة في الدفع والسداد. وخلال هذه المرحلة، تزداد فرص الفساد إذا استطاعت الشركة تنفيذ المشروع باستخدام خامات أقلّ سعرًا وحجمًا “هوالِك” من تلك المتفق عليها في بنود المشروع، أو عبر “الكراسات” التي تشتريها الشركة بالاتفاق مع الجهات العسكرية المشرفة على المشروع.
المرحلة الأخيرة وتكون بعد انتهاء المشروع، وتحصل خلالها الشركة على إجمالي المستحقات التي أنفقتها في المشروع، والتي تم توثيقها من قبل “المناديب” بالاتفاق مع الجيش، بالإضافة إلى هامش ربح يتراوح بين 5 إلى 7٪. ثم تقوم الشركة بردّ القروض والفوائد إلى البنك، ويقوم الجيش في المقابل بـ”تستيف” التفاصيل المالية والقانونية للمشروع بعد انتهائه، وتقليص تكلفته الإجمالية، بغرض الحصول على هذه الفوارق لصالحه، أو للتهرب من رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، الجهة المنوط بها مراقبة مشروعات الجيش. إحدى الفيلات التي قامت مجموعة “أملاك” بإنشائها لصالح رئاسة الجمهورية، “فيلا المنتزه” تم تخفيض سعرها الحقيقي في الأوراق النهائية للمشروع من 250 مليون جنيه إلى 120 مليون جنيه.
لا يقف الأمر عند التداخل مع الجهات المدنية، بل من الوارد أن تتنازع هذه الأفرع المذكورة في مهماتها أيضا مع جهاز أخر ينتمي إلى القوات المسلحة ويعمل في مجال المشروعات المدنية، وهو جهاز مشروعات الخدمة الوطنية
ويؤكد “علي” من واقع عمله مع الجيش، أن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، المنوط بها التعاقد مع شركات المقاولات المدنية لإنجاز المشروعات من الباطن، ينبثق عنها عدد من المؤسسات الفرعية التي تتداخل في عملها مع القطاعات المدنية الرسمية بشكل واضح، بل وتحاول الضغط عليها من خلال التحالف مع الأذرع القانونية، لكشف ملفات الفساد، التي تجعل المؤسسات المدنية مضطرة إلى اللجوء للجيش بدلا من إدارة مشروعاتها بنفسها.
ومن هذه المؤسسات على سبيل المثال: إدارة الأشغال العسكرية والتي تقوم فعليًا بإنشاء فنادق فارهة من طراز سبعة نجوم، إدارة المهندسين والتي تنفذ مشروعات الطرق التابعة لوزارة النقل، إدارة المساحة والتي تقوم بحساب مساحة الأراضي وتحديد أسعارها ومدى ملاءمتها الجيولوجية للمشروع، وإدارتيْ المياة والمشروعات الكبرى.
ولا يقف الأمر عند التداخل مع الجهات المدنية، بل من الوارد أن تتنازع هذه الأفرع المذكورة في مهماتها أيضًا مع جهاز آخر ينتمي إلى القوات المسلحة ويعمل في مجال المشروعات المدنية، وهو جهاز مشروعات الخدمة الوطنية. وقد يصل النزاع في بعض الأحيان إلى “صراع أجنحة” مع المخابرات الحربية، في حال كان المشروع مملوكًا للمخابرات، كما حدث في فندق “تريامف” الذي خلّف نزاعًا بين رئيس الهيئة الهندسية (المسؤول عن تنفيذ المشروع) من جهة، والمخابرات الحربية ممثلةً في اللواء شريف صلاح من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى تأجيل افتتاح المشروع لمدة عام كامل، بعد أن كان من المقرر افتتاحه خلال 3 شهور من بدء العمل بالمشروع.
وبشكل عام، إذا كان المشروع مطلوبًا من إحدى المؤسسات الحكومية الرسمية، فإن المناقصة التي يقدمها الجيش تحظى بالقبول الفوري، على حساب المؤسسات المدنية الخاصة المتقدمة للمشروع، وذلك نظرًا لمكانة الجيش وسطوته على الحياة المدنية، وهو ما يقوّض المنافسة في سوق المقاولات ويدعّم الاحتكار، خاصة أن الجيش يحظى بميزات نوعية أبرزها الإعفاء من الضرائب والقدرة على التهرب من الرقابة المالية؛ كما يقول “علي”.
السيسي الذي لا نعرفه
حرص السيسي حرصًا شديدًا، منذ تولّيه حقيبة الدفاع، على تقديم نفسه للشعب المصري رجلًا نزيهًا، شريفًا، متجردًا، منحازًا للوطن وحده. وعندما سُئل في أحد اللقاءات الرسمية عن سبب ذلك الحرص الدائم على الإشارة إلى تمسكه بهذه القيم، أشار إلى أن القائد، من وجهة نظره، لا يمثل نفسه فقط، وإنما يمثل المؤسسة التي ينتمي إليها أيضًا، وأن أعضاء هذه المؤسسة في حالة تفاعل مستمر مع القيادة، يجعلهم في حاجة ماسّة إلى التأكد من تحرّي قيادتهم لهذه القيم؛ لأنه أمر ينبني عليه أمور أخرى مهمة، على رأسها الصورة الذهنية للمؤسسة، ومدى شعور الأعضاء بالانتماء لها والولاء لقيادتها.
يقول هشام عوف رئيس الحزب العلماني المصري، إن شرعية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بشكل شخصي، على مستوى الخطاب الرسمي، قد تأثرت إيجابًا بخطاب الأربع ثورات الأهم في تاريخ مصر الحديث
وعندما وصل السيسي إلى سدة الحكم، استخدم الأسلوب الأبويّ في التواصل مع الشعب، كآلية دفاعية في وجه الشكوك والانتقادات التي كان يتعرض لها، رفقة الجيش، بخصوص خياراته وانحيازاته في الملفات الاقتصادية، والتي استشعر عامة الناس أنها ربما لا تجعلهم أولويةً:”ما تسمعوش كلام حد غيري أنا”. فنزاهة الرئيس لا تكون موضعًا للتساؤل أو التشكيك لأنه الرئيس فحسب، بل لأنه “السيسي” أيضا. وأبناؤه الذين يعملون في المخابرات والرقابة الإداريّة حصلوا على أماكنهم في هذه المؤسسات المرموقة، لأنهم أكْفاء بالطبع، لا لكونهم أبناء السيسي. بل وعلى الأرجح يستعين بهم في السيطرة على فساد هذه المؤسسات؛ لأنهم، على غرار أبيهم، الذي تبرع بنصف ثروته إلى صندوق “تحيا مصر”، يعلمون أن المصريين “فقرا أوي”.
يقول هشام عوف رئيس الحزب العلماني المصري، إن شرعية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بشكل شخصي، على مستوى الخطاب الرسمي، قد تأثرت إيجابًا بخطاب الأربع ثورات الأهم في تاريخ مصر الحديث، وبالأخص ثورة يوليو 1952 التي تبنت بشكل صريح قيمًا مضادة لترف الملكية وفساد الحاشية، وثورة 25 يناير التي طالبت بمحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ولكنّ التفاصيل التي كشف عنها “محمد علي”، الذي تولّت شركته مهمة بناء عدد من الاستراحات للسيسي وقت أن كان وزيرا للدفاع عام 2012، ثم عدد من القصور الرئاسية بعد أن أمسى الوزير رئيسًا، أظهرت السيسي بوجه مختلف عن ذلك الوجه الذي حاول تصديره للمصريين، وصدّقه بعض المثقفين والنخب فعلا. فلا السيسي يكابد شظف العيش ليشاطر المصريين عناءهم، ولا هو بحريص على عزل الجيش بعيدا عن نزواته كما ادّعى أمام الإعلام.
وبحسب ما ذكره “علي”، فقد طلب السيسي، فور تولّيه منصب وزير الدفاع، هدم الاستراحة التاريخية التي تناوب على استخدامها وزراء الدفاع المصريون منذ عبد الحكيم عامر، وزير الدفاع في عهد الرئيس عبد الناصر، وإعادة بنائها من جديد، حيث تكلّفت هذه العملية 60 مليون جنيه، بعد أن كان المبلغ المرصود لذلك 25 مليون جنيه فقط.
وعندما أصبح رئيساً، أمر السيسي بهدم “فيلا المنتزه” التي كان يستخدمها الرئيس الأسبق حسني مبارك “مصيفًا”، وطلب إعادة بنائها لقضاء إجازة العيد مع أسرته، فوصلت القيمة الإجمالية إلى 250 مليون جنيه، بعد التعويم.
وفي وقتٍ لاحق، طلب الرئيس المصريّ بناء 5 فيلّات فارهة وقصر منيف في منطقة الهايكستب العسكرية بالقاهرة، ليستخدمها كاستراحات إقامة ومواقع قيادة محصّنة بأنفاقٍ داخلية، رفقة قادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة. وقد رصدت صفحة “الموقف المصري” عملية تطور بناء هذه القصور والمنشآت بالفعل، عبر استخدام إحدى تقنيات برنامج “جوجل” للأقمار الصناعية.
المثير في الأمر أن هذه المباني المُشار إليها، إذا تغاضينا عن وقائع الفساد التي تشوبها، فإنه لن يتمّ استغلالها من طرف السيسي أو من طرف قادة القوات المسلحة فعليًا؛ نظرًا لأن مقر قيادة وزارة الدفاع قد تم نقله خارج القاهرة إلى إمبراطورية هندسية تسمى “الأوكتاغون“، ستصبح مقرًا دائما للجيش، مع باقي الوزارات الحكومية التي ستنتقل إلى العاصمة الإداريّة الجديدة عام 2020. وحتى “فيلا المنتزه” التي تكلّف إنشاؤها ربع مليار جنيه، لم يعد لها قيمة في حسابات الرئيس، بعد بناء قصر رئاسيّ ضخم في مدينة العلمين الجديدة، والتي تخطط الحكومة لجعلها عاصمة ثانية للبلاد، بدلًا من الإسكندرية، حيث تقع “فيلا المنتزه”.
فساد السيسي واستهانته بقيمة المال العام خلافًا للسردية التي قام باختلاقها وترويجها، وصل إلى إنفاقه 2.3 مليون جنيه لبناء “تشريفة” عسكرية بالقرب من مقابر القوات المسلحة التي احتضنت جثمان والدته، بعد أن ظلّت حبيسة “ثلاجة الموتى” نحو أسبوعين، نتيجة تزامن وفاتها مع موعد افتتاح قناة السويس الجديدة. ولم تتسلّم شركة “أملاك” التي وكلتها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ببناء التشريفة إلا نصف المبلغ تقريبًا؛ بحسب ما ذكره “علي”. وقد قام نشطاء بتصوير التشريفة، فظهرت كما وصفها رجل الأعمال بالفعل.
تفاصيل خطيرة
في معرض حديثه عن كواليس بناء استراحة “الحلمية” الجديدة التي طلبها عبد الفتاح السيسي وقت أن كان وزيرا للدفاع، حكى محمد مفارقةً استرعت انتباهه بشدة، دون أن يجد لها تفسيرًا.
فعلى حد قوله، في أحد الأيام عام 2012 طلبت القيادات العسكرية حضوره إلى موقع الاستراحة لشرح التطورات الإنشائية التي تجري في الموقع مباشرةً لوزير الدفاع، فتعجب من هذا الطلب بشدة، لأن البلاد كانت تشهد في هذا الوقت أحداث عنف خطيرة، عند قصر الاتحادية الرئاسي، بين أنصار جماعة الإخوان وبين القوى المدنية، ويتساءل في اندهاش: كيف لوزير الدفاع أن يكون بهذا الهدوء الذي يجعل أكبر همومه تفقد بناء استراحته الجديدة بينما تشتعل الأمور بين أبناء الوطن عند قصر الرئاسة؟
ولكن ربما يزول هذا الاندهاش، عندما نعلم أن ليلة الاتحادية الرئيسية (اشتباكات الاتحادية استمرت عدة أيام متتالية) قد أريد لها أن تكونَ ليلة الانقلاب العسكري، بالتزامن مع مرور ستة أشهر على حكم الرئيس، فقد اجتمعت آنذاك القوى المدنية المعارضة للإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس الأسبق محمد مرسي نوفمبر 2012، في مقر حزب الوفد، بالسفيرة الأمريكية بالقاهرة آن باترسون، فأخبرتهم الأخيرة أن تحرك الجيش ضد الرئيس مرهون بقدرتهم على حشد 100 ألف متظاهر على الأقل.
ذكر محمد علي أكثر من مرة أن ضباطًا من الجيش قد أخبروه بعدم رضاهم على طريقة السيسي في إدارة البلاد، وزجّه بالجيش في معترك السياسة وآتون الاقتصاد
كلّ التطورات الميدانية التي حدثت خلال هذه الليلة تشير إلى أن الانقلاب العسكري كان قوب قوسين أو أدنى، فقد استجابت وزارة الداخلية إلى حشد المعارضة بإخلاء مواقعها أمام قصر الاتحادية، وإبلاغ عدد من قيادات المعارضة – التي اتخذت من بعض الفيلات المحيطة بالقصر مواقع للاختباء – بموعد خروج موكب الرئيس وخطوط سيره، فيما نجح عدد من المعتصمين في اقتحام القصر وتجاوز الحرس الجمهوري، الذي اتهمه العميد طارق الجوهري، أحد أفراد قوة تأمين الرئيس، بالتواطؤ مع المتظاهرين ضد الرئيس؛ ولكن حشود الإخوان التي دفعتها الجماعة إلى محيط قصر الرئاسة، بعد استشعارها الخطر على الرئيس، قد أفشلت الخطة فيما يبدو.
وقد أنتجت شبكة الجزيرة الإعلامية بعد انقلاب الثالث من يوليو، فيلمين وثائقيين أظهرا بشكل واضح حضورا مكثفًا لعدد من المدنيين المعروفين بتعاملهم مع أجهزة الأمن (المواطنين الشرفاء) في موقع الاشتباكات عند الاتحادية، حيث يرجح تورطهم في أعمال العنف التي أسفرت عن مقتل 8 من أعضاء جماعة الإخوان، بالإضافة إلى صحفي مقرب من المعارضة (الحسيني أبو ضيف) – والتي تحوّلت لاحقا إلى مادّة القضية الأولى التي حوكم فيها الرئيس الأسبق بعد ظهوره عقب الانقلاب: “قضية قتل المتظاهرين”.
ومن جهةٍ أخرى، فقد ذكر محمد علي أكثر من مرة أن ضباطًا من الجيش قد أخبروه بعدم رضاهم على طريقة السيسي في إدارة البلاد، وزجّه بالجيش في معترك السياسة وآتون الاقتصاد، خلافًا لما ادّعاه سابقًا عن تفهّمه لخطورة ابتعاد الجيش عن مهمته الرئيسة:” الجيش لو نزل الشارع، اتكلم على مصر كمان 10 أو 15 سنة”.
وبالفعل، يؤكد استقراء تطور دور الجيش في المشهد المصري أن السيسي قد حوّله إلى منفذٍ لسياساته الشخصية ورأس حربه في معركته مع الإخوان والمعارضة، بدلًا من دوره الأصلي في حماية الوطن، أو دوره التقني في الموازنة بين ولائه للحاكم وولائه للشعب.
بحسب الناشط الحقوقي هيثم أبو خليل، فإن غضب بعض الضباط على سياسة السيسي في الحكم، يُقابَل بطريقتين: الإحالة إلى التقاعد، أو الإحالة إلى القضاء العسكري، ثم السجن
أبرز الأمثلة على ذلك هو استعانته بالجيش في محاربة التطرف المسلح، بعد أن كانت هذه المهمة في ذروة تضخمها، خلال فترة الثمانينيات، موكلة إلى جهاز الشرطة، وجعله الجيشَ جزءًا من مشهد فض الاعتصامات، بالقناصة والمروحيات، رغم عدم الحاجة إلى ذلك. بل واستخدامه في قمع عسكريين آخرين حاولوا الاعتراض على طريقته ومنافسته على كرسي الرئاسة، مثل الفريق سامي عنان، والعقيد أحمد قنصوة، الذين وُضعوا في السجن بتهم واهية.
وبحسب الناشط الحقوقي هيثم أبو خليل، فإن غضب بعض الضباط على سياسة السيسي في الحكم، يُقابَل بطريقتين: الإحالة إلى التقاعد، كما تم مع بعض الضباط الذين اعترضوا على تدخل الجيش في فض رابعة، أو الإحالة إلى القضاء العسكري، ثم السجن، كما حدث في قضية 3 عسكرية لعام 2015 والتي يُحاكم فيها 26 ضابطًا من الرتب المتوسطة. وتحت هذا الضغط، يتحول بعض الضباط المحافظين إلى المعسكر الموازي، كما فعل الضابط هشام عشماوي.
زوجة السيسي
لطالما مثّل الدور الذي تلعبه زوجة الرئيس ملفًا شائكًا في المعادلة المصرية، وذلك نظرًا لارتباطه بعدة أسئلة مهمة، من ضمنها طموحها الشخصي في الظهور بجانب الرئيس من عدمه، ومدى تقبّل الرأي العام لفكرة إقحامها في المشهد السياسي أو الاجتماعي باعتبار أن ذلك لم يكن ليحدث لولا ارتباطها بشخص الرئيس، ومردود ظهورها على أداء الرئيس وصورته الذهنية أمام الجمهور سلبًا أو إيجابًا.
وقد كان الحضور العام للسيدة جيهان، زوجة الرئيس الراحل أنور السادات، علامة مهمة في المشهد السياسي المصري، نظرا لارتباط هذا الحضور بمشاهد إنسانية وطنية، مثل زيارات تفقد المصابين ورعاية أسر الشهداء بعد حرب أكتوبر 1973، بالإضافة إلى دورها التاريخي في توثيق ما أمكن نشره من أسرار الحرب، وكواليس منزل الرئيس ليلة العبور، وصولًا إلى مشهد اغتيال زوجها على منصة العرض العسكري في ذكرى ليلة الانتصار عام 1980.
السيدة انتصار، زوجة الرئيس السيسي، تمتلك بالفعل طموحا شخصيا للظهور في المجال العام، ولكن مؤهلاتها الشخصية تحول دون ذلك
وبطبيعة الحال، ارتبط ظهور زوجة الرئيس المصريّ الأسبق حسني مبارك في المجال العام بالأسئلة المناسبة لسياق دولة ما بعد الحرب “دولة السلام”، حيث كان هذا الحضور مرتبطا بتقديمها الدعم الرمزي لبعض المشروعات الثقافية والاجتماعية المهمة، بالإضافة إلى تبنّيها بعض القضايا التنويرية، كمناهضة ختان المرأة. ولكنها، في نفس الوقت، ارتبطت في أذهان المصريين بالاستبداد السياسي، نتيجة لما أشيع عن دعمها لمشروع الابن (جمال) في وراثة الحكم من أبيه.
في حين لم يكن لزوجة الرئيس الأسبق مرسي أي حضور حيويّ في المجال العام خلال عام الرئاسة اليتيم، وعلى الأرجح، لم تكن هي أيضا تطمح إلى هذا الدور. ولكن ذلك لم يجعلها في مأمن من تشويه النظام الذي اتهمها بتبديد المال العام من خلال بناء “حمام سباحة” جديد في قصر الاتحادية. وفي الأخير، تحوّلت إلى أيقونة في الصمود والنضال، بعد وفاة زوجها وابنها الأصغر في مقاومة الانقلاب العسكري.
وخلافًا لهذه النماذج السابقة، فإن السيدة انتصار، زوجة الرئيس السيسي، تمتلك بالفعل طموحا شخصيا للظهور في المجال العام، ولكن مؤهلاتها الشخصية (Soft Skills) تحول دون ذلك، فيجري إشراكها في بعض من المناسبات الهامشية، إشباعًا لهذا الطموح، دون مخاطرة.
هذا ما كنا نعلمه يقينا عن زوجة السيسي من خلال التقارير المسربة واستقراء سياقات ظهورها في المشهد العام، ولكنّ “محمد علي” أضاف بعدًا جديدًا لهذه الصورة، عندما أكد حرصها على معايَنة الفيلات والقصور التي قام بإنشائها لحساب الرئيس، بل وإضافة ملاحظات ذوقية فارهة، كلّفت في “فيلا المنتزه” وحدها أكثر من 25 مليون جنيه.
الاستبداد وممارسة القهر السياسي ضد المعارضين هي ظواهر لا تتجسّد اجتماعيا دون خطاب يعيد تعريف الذات والعالَم والآخر
ما ذكره “علي” عن زوجة السيسي كما أثار حفيظة روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين دشنوا وسمًا تفاعليا بعنوان:”انتصار تحكم”، عبّروا خلاله عن استيائهم من “سرقة” أموال المصريين، وخوفهم من نهاية هذا المسار الذي قد يقود البلاد إلى كارثة اجتماعية؛ يبدو أنه أثار حفيظة النظام أيضًا، الذي حرص على إملاء اعتذارات لـ”بيت الرئيس” و”عرض الرئيس”، على لسان عائلة المقاوِل.
الخطاب والسلطة
الاستبداد وممارسة القهر السياسي ضد المعارضين هي ظواهر لا تتجسّد اجتماعيا دون خطاب يعيد تعريف الذات والعالَم والآخر، بما يتلاءم مع مصلحة السلطة وقيمها وموقعها من التاريخ.
على ضوء هذه الحقيقة، قام علماء الاجتماع السياسي والحفريات الثقافية بصكّ مصطلح “سلطة الخطاب”، لتسليط الضوء على الدلالات السلطوية الكامنة في المقولات التي تتبناها السلطة، والتي قد يجعلنا تكرارها اليومي على لسان أدواتها الناعمة معتادين عليها، معتقدين أنها تمثلنا حقا، ولا تمثل السلطة.
وفي هذا السياق، اجترح الرئيس المصريّ مصطلح “أهل الشر” للإشارة الضمنية إلى معارضيه المنبوذين من جماعة الإخوان المسلمين، وممارَسة “سلطة خطابية” إقصائية ضد خصومه السياسيين. وحاجج عن هذا الرأي من خلال تكرار سردية تمخُّض كل جماعات العنف الإسلامي عن رحم الإخوان، معتبرًا ما حدث في مشهد الانقلاب انحيازٌ من الجيش لإرادة الشعب، الذي رفض محاولات تغيير هويته، من قِبَل أقلية دينية مدعومة إقليميًا.
بصفته معارضا للسلطة حاليًا، حاولت اللجان الإلكترونية ممارسة سلطة خطابية مماثلة ضد “محمد علي”، واتهامه بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، على أساس أن ذلك مبرر كافٍ – في السياق الحالي – لنقض كلّ ما يدعيه دون الحاجة إلى تفنيده
وقد خضعتْ المعارضة المدنية في مصر، بقصد أو غير قصد، إلى منطِق الدولة في الخطاب، من خلال الحرص الدائم على إعلان التبرّؤ من الإخوان، والتغاضي عما يمارَس في حقهم من جرائم، والإقرار بشرعية النظام، قبل رفض أي سياسة تتبناها الدولة مهما كانت بسيطة.
ظهر هذا الخضوع بوضوح في بيان “الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي”، بعد اعتقال السلطة عدد من أعضائه فيما يُعرف إعلاميًا باسم “خلية الأمل” 25 يونيو/ حزيران الماضي؛ حيث استنكر الحزب، في بيان استجدائي للدولة، التضييق عليه، رغم أنه داعمٌ ومُرحبٌ بقمع “الإرهابية” (الاسم الاصطلاحي الذي تطلقه الدولة على الإخوان منذ الانقلاب) المارقة عن الدولة والشعب، والموالية للجماعات المتطرفة”.
وبصفته معارضا للسلطة حاليًا، حاولت اللجان الإلكترونية ممارسة سلطة خطابية مماثلة ضد “محمد علي”، واتهامه بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، على أساس أن ذلك مبرر كافٍ – في السياق الحالي – لنقض كلّ ما يدعيه دون الحاجة إلى تفنيده؛ على الرغم من كل الشواهد التي تقطع بأن رجل الأعمال، الذي تربى في كنف الدولة، أبعد ما يكون عن الإخوان أو غيرهم، مثل أن العمل مع مؤسسات بحجم الجيش، ومؤسسة الرئاسة، والمخابرات، يتطلب تحريات أمنية غاية في التعقيد للتأكد من خلوّ المتعامِل من أي شبهة جنائية أو سياسية.
ومع ذلك، وبغض النظر عن الأسباب، لم يخضع محمد إلى هذه السلطة الخطابية. بل على العكس من ذلك، أعاد الدولة والمعارضة إلى مربع عام 2011، وقدّم خطابا عقلانيًا مضادا لهيستريا الدولة، التي انساقت إليها المعارضة، في إقصاء الإخوان، ومكرّسًا للحدّ الأدنى من قيم التعايش اللازمة لضمان الأمن الاجتماعي.
قيمة هذا الخطاب الذي يقدمه محمد، أنه يعود بالمصريين إلى نقطة البدء، حينما كانت الأهداف جامعةً واضحةً، والخصم معروف
فبحسب محمد، كانت اشتباكات الاتحادية، بين الإخوان والقوى المدنية “خلاف بين إخوات”، ولم تكن بين أعداء لا يمكن التعايش بينهم، كما حاول الطرف الثالث الإيهام بذلك. ويستشهد في ذلك بأن نزوله ضد الإخوان لم يكن الغرض منه إقصاؤهم عن الحياة، وإنما مجرد الاعتراض الصحّي على فصيل سياسي من الوطن. في حين أن اعتراضه على الجيش الآن، ومن خارج البلاد، عبر الإنترنت، يكلّفه سمعته، ويهدد مستقبل عائلته، وقد يودي بحياته.
وببساطة ملفتة، يوجه “علي” نقدا رشيدا إلى فلسفة الحكم القَبَلي والأبوي الكامنة في خطابات رئيس الدولة، ويحاجج بخطاب تقدمي رصين: لماذا يصرّ الرئيس على قول أنه “يحكم” المصريين، في حين أن مهمته المفترضة هي “إدارة” الدولة؟ ولمَ يشعرنا أن هناك خطرًا داهمًا يتهددنا على الدوام، ولا يستطيع أحد غيره دفعَه؟
قيمة هذا الخطاب الذي يقدمه محمد، أنه يعود بالمصريين إلى نقطة البدء، حينما كانت الأهداف جامعةً واضحةً، والخصم معروف. ويفرض، في نفس الوقت، سطوته المنطقية على فضاء “السوشال ميديا” بخطابٍ مواز يتبنى طموحات المصريين وأسئلتهم، بعد أن فرض النظام أجندته وأسئلته منذ الانقلاب العسكري، وعلى رأسها الحرب على الإرهاب.
امتحان المعارضة
في التاريخ هناك أحداث فاصلة، تكون غير متوقعة في حينها، ولكنها تقلب الطاولة على السائد، وتغير توازنات القوة، وتؤسس لأوضاع وخطابات وقيم جديدة مختلفة عمّا قبلها، كما حدث في 25 يناير 2011 والثالث من يوليو 2013. هذه الأحداث ليست معزولة عن سياقاتها التي أنتجتها، ولكنها تمثل ذروة الشعور والفعل الجمعي الدافع نحو التغيير.
تقول تقارير إن عدد نتائج البحث التي استُخدمت خلالها كلمات مِفتاحية تنتمي إلى “محمد علي” وصلت إلى مليار نتيجة بحث
وقد أسست هذه “التسريبات”، التي تختلف عن نظيرتها القديمة كمًا ونوعًا، فيما يبدو، إلى واقع جديد نسبيًا، لم تعد خلاله سرديات النظام التقليدية التي استطاع التحرّك على ضوء مصداقيتها وشيوعها، داخليًا وخارجيًا، صالحةً للاستخدام مجددًا.
تقول تقارير إن عدد نتائج البحث التي استُخدمت خلالها كلمات مِفتاحية تنتمي إلى “محمد علي” وصلت إلى مليار نتيجة بحث. ويشير مراقبون إلى أن استقراء أسباب سقوط الأنظمة الاستبدادية تاريخيا، يؤكد أن تراكم فضائح أخلاقية وقانونية من هذا النوع قد ساعد في كسر هيبتها لدى العامة، وإضعافها داخليًا، ومهّد إلى عملية تغييرها. وفي وقت قريب، نوّهت السفيرة الأمريكية التي ساهمت في الإطاحة بمرسي، آن باترسون، إلى أنه من الوارد أن نرى تحركًا تصحيحيًا من الجيش ضد الجنرال السيسي.
إيذاء هذا المشهد، كان متوقعًا رؤية مزيد من الالتفاف السياسيّ حول المقاول المنشقّ، الذي يصيغ، ببساطة، خطابًا جامعًا، زادت وجاهته بعد أن دفع النظام باتجاه التخلّص من الرئيس الأسبق محمد مرسي، والذي كانت عودته من عدمها تمثل أولى القضايا الإشكالية التي تعيق الحوار بين أنصار جماعة الإخوان والمعارَضة.
ظاهرة “المقاول المنشقّ” التي تعد نتاجا بحتًا لسياق ما بعد الثالث من يوليو، قد قوبلت على عكس المتوقع من بعض النشطاء المحسوبين على ثورة يناير، بمقاوَمة وتشويه وتسفيه، بدلا من الالتفاف وتقديم الدعم النفسي والتقني
لم يقل أحد، ولا المقاول نفسه، إنه بطل شعبي، أو غير متورط في الفساد. ولكن ما قيل أن الفساد في مصر متجذر بما يعيق إمكانية العمل والنموّ بمعزل كامل عن الاختلاط به، وأن “الغفران” مطلوب، لأسبابٍ أخلاقية بحتة، أهمها أن الجميع مُعرّض للخطأ، ولأسبابٍ براجماتية أهمها أن فساده لم يعد سؤالًا مطروحًا بعد هروبه خارج البلاد، ومن الأوّلى التماهي مع الحالة الجديدة، بما يحقق المصلحة العامة: كشف الفساد، والضغط في طريق إصلاح السلطة.
ولكنّ ظاهرة “المقاول المنشقّ” التي تعد نتاجًا بحتًا لسياق ما بعد الثالث من يوليو، قد قوبلت على عكس المتوقع من بعض النشطاء المحسوبين على ثورة يناير، بمقاوَمة وتشويه وتسفيه، بدلًا من الالتفاف وتقديم الدعم النفسي والتقني، وهي القيم الأكثر حضورًا عند تيار اليسار الليبرالي.
هذه الظاهرة الجديدة تكشف على الأرجح عن خيال سياسي محبوس في ظلال تجربة يناير بكل براءتها وسذاجتها، والتي بذل النظام (على حد قوله) كل ما بوسعه لمنع تكرارها والاستفادة من دروسها، وتكشف، في نفس الوقت، خوفًا مبطنًا من تجاوز الرمزية التاريخية للنشطاء كفاعلين في المشهد السياسي، وسخطًا على “المقاول” الذي التفت حول مقاطعه التي قال إنه سيحوّلها إلى “حلقات” احترافية، شرائح واسعة من الجمهور المصري والعربي.
الناشط الليبرالي المعروف، وائل غنيم، والذي يعتبر أحد أهم رموز ثورة يناير، خرج، بالتزامن مع “تريند” التسريبات، في مقطع صادم على الجمهور، لأول مرة منذ دعمه انقلاب الثالث من يوليو، يتحدث عن “الخير الكامن” في السيسي، ويتبنّى خطاب النظام في تحريم المعارضة من الخارج، واعتبارها “تكسيرًا” في الوطن، مطالبًا “محمد علي” بالإصلاح بدلًا من الهدم. فيما بدأ بعض النشطاء يتساءلون باستنكار واستعلاء: لماذا انفض الناس عن مقالاتنا الأكاديمية، ونسوا فضلنا في تفجير الثورة، وتفاعلوا مع فاسد منشق؟
هذا المشهد الذي أخذ يتشكل في الأيام الأخيرة كرد فعل على “التسريبات”، لن يستفيد منه إلا النظام، الذي يستثمر في تخويف المصريين من المجهول، ويتعلل في وجوده بالحفاظ على استقرار البلاد، خاصة أنه، وبعد فشل كل أساليبه الناعمة والخشنة في إثناء المقاول عن مشروعه الجديد، قد شرع في الدعوة إلى مؤتمر شبابي طارئ، يسعى من خلاله إلى التظاهر بعدم التأثر بما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، والتأكيد على سطوته وهيبته، وحشد أنصاره وأجهزته لتجديد الدعم والبيعة لشرعيته المجروحة دائما.