“مفاوضات سد النهضة وصلت لطريق مسدود”، هكذا توّجت القاهرة المسار التفاوضي للأزمة الأكثر حضورًا على الساحة المصرية منذ 2011 وحتى اليوم، ليحبس المصريون أنفاسهم بشأن مستقبل أمنهم المائي الذي يزداد غموضًا يومًا تلو الآخر، في الوقت الذي تواصل فيه أديس أبابا تأكيداتها قرب دخول السد حيز التنفيذ.
ما يزيد على 20 جولة مفاوضات مكوكية، عقدها الأطراف الثلاث لمناقشة الأزمة، ما بين القاهرة وأديس أبابا مرورًا بالخرطوم، باءت جميعها بالفشل، وذلك بعدما حمّل كل طرف الآخر مسؤولية الوصول إلى هذا النفق المظلم، لتبقى كل الخيارات مفتوحة أمام الجميع.
وتبقى اتفاقية المبادئ التي وقعها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الخرطوم 2015 بمشاركة ممثلي السودان وإثيوبيا، الضوء الأخضر الذي أعطى الإثيوبيين الشرعية الدولية لبناء السد، في الوقت الذي تعوّل فيه القاهرة على المجتمع الدولي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل التورط في خيارات ربما تأتي بنتائج عكسية على مختلف الأطراف.
يبدو أن النهر الذي أُنشئت على جانبيه واحدة من أعرق الحضارات ما عاد يحقق الأمان الكافي للحيلولة دون الوقوع في مأزق العجز المائي، فالأمر تجاوز فكرة العمق الحضاري إلى واقع أكثر بؤسًا، حين تجد الشعوب المتناثرة على مجاري هذا النهر نفسها أسيرة مستقبل غامض، يهدد حياتها ويدفع بها إلى آتون حرب حتمية للبقاء لا أكثر.
تعاني معظم الدول العربية من ندرة المياه، إذ تعتمد بنسبة 54% على الأقل على الموارد المائية السطحية من خارج حدودها، هذا في الوقت الذي تزداد فيه الدول العربية التي تقع تحت خط الفقر المائي. من أهم هذه الموارد حوض نهر النيل وحوض نهري دجلة والفرات، فالكويت على سبيل المثال تعتمد اعتمادًا كليًا (100%) على مصادر المياه من خارج حدودها، كما أن نسبة اعتماد مصر وموريتانيا وسوريا والبحرين على المياه الخارجية يبلغ نحو 97%، وفق دراسة نشرت عام 2014.
ليس نهر النيل، أحد أكبر أنهار العالم، بمعزل عن هذا التهديد، إذ تقبع مصر والسودان، كونهما البلدين الأكثر اعتمادًا على مياه النهر، في حالة تهديد مستمر لأمنهما المائي، في ظل حزمة من التهديدات تضفي الغموض والقلق على مستقبلهما المائي، في الوقت الذي تحذّر فيه الدراسات والأبحاث من تزايد احتمالات نشوب حروب مياه خلال السنوات القادمة.
المصدر الرئيسي للمياه
يعدّ نهر النيل المصدر الأساسي للمياه في مصر والسودان، إذ تعتمد الزراعة في كلا البلدين على الريّ عبر المياه القادمة من النهر، ما يجعل مستقبلها مرتبطًا بصورة كبيرة بهذا الشريان كما سيرد ذكره لاحقًا.
تبلغ حصة مصر من مياه النهر نحو 55.5 مليار متر مكعب سنويًا، وهي تمثل أكثر من 90% من الموارد المائية في الدولة، تليها المياه الجوفية في المرتبة الثانية، حيث الخزانات الثلاث الرئيسية للمياه الجوفية في مصر وهي خزّان الدلتا والوادي، والخزان الرملي النوبي في الصحراء الشرقية والغربية، والخزان الصخري الجيري المنتشر بصورة مبعثرة في مصر.
يذكر أن خزان حوض النيل هو الأكبر بين تلك الخزانات، إذ لديه قدرة كبيرة على تخزين المياه، ويستخدم نحو 4 مليارات متر مكعب من إجمالي 7.5 مليار متر مكعب من خزان المياه الجوفية لإمداد المدن والقرى بالمياه الصالحة للشرب، فيما تأتي الأمطار الفعلية ومياه السيول كمصدر ثالث للمياه في مصر، وتقدّر كمية مياه السيول بنحو 1.5 مليار متر مكعب سنويًا.
علاوة على هذا هناك مصادر أخرى غير تقليدية للمياه، على رأسها، إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، حيث يعاد استخدام نحو 4.5 مليار متر مكعب سنويًا لأغراض الريّ وهناك إمكانية لإعادة استخدام 5 مليارات متر مكعب سنويًا من هذه المياه لأغراض الري من إجمالي 12 مليار متر مكعب من المياه التي تصرف في البحر سنويًا بهدف الحفاظ على الميزان الملحي في الأراضي والمياه الجوفية كما يتم إعادة استخدام نحو 1.5 مليار متر مكعب سنويًا من مياه الصرف الصحي المعالجة لنفس الغرض.
مصر لا تقرّر مصير النيل
قطعت مصر سباقًا طويلًا في توقيع الاتفاقيات بشأن حصتها من المياه. كانت البداية عام 1929، حين وقّعت الدولة البريطانية المستعمرة حينها، بالنيابة عن مجموعة الدول الاستوائية، اتفاقية مع الحكومة المصرية، حيث تم إقرار حق مصر في مياه النيل بصورة كاملة، مرورًا باتفاقيات أعوام (1959، 1993، 1999، 2011) وصولًا إلى اتفاقية مارس 2011 التي كانت بداية تجريد الدولة المصرية من العديد من امتيازاتها في مياه النهر وأهمها حق الفيتو في منع إقامة أي مشروع على النهر خارج أراضيه.
ورغم كل هذه الاتفاقيات بدأ نصيب المواطن المصري في المياه يتراجع عامًا تلو الآخر، في ظل تخاذل واضح من الأنظمة والحكومات عن أداء دورها في الدفاع عن حقوق الشعب في المياه، فضلًا عما يمكن أن يترتب عليه من زيادة في الأعباء الأخرى من تراجع في موارده الزراعية والآثار الصحية المدمرة.
انخفض متوسط نصيب الفرد في مصر من الموارد المائية من 2526 مترًا مكعبًا عام 1947 (وفرة مائية) إلى 1672 مترًا مكعبًا عام 1970 (كفـاية مائية) بنسبة انخفاض 33.8% وإلى 643 مترًا مكعبًا عام 2013 (فقر مائي) بنسبة 60.3% ومن المتوقع بلوغه 475 مترًا مكعبًا عام 2025
وفي دراسة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تحت عنوان “الموارد المائية وترشيد استخدامها في مصر”، أشار فيها إلى ارتفاع الاستخدامات من الموارد المائية المتاحة من 66.6 مليار متر مكعب إلى 74.5 مليار متر مكعب بنسبة زيادة 23.7% خلال الفترة 2002/ 2003-2011، وذلك في ظل ثبات حصة مصر من مياه النيل عند 55.5 مليار متر مكعب طبقًا للاتفاقيات الدولية الموقعة في هذا الشأن.
وأوضحت الدراسة انخفاض متوسط نصيب الفرد من الموارد المائية من 2526 مترًا مكعبًا عام 1947 (وفرة مائية) إلى 1672 مترًا مكعبًا عام 1970 (كفـاية مائية) بنسبة انخفاض 33.8% وإلى 643 مترًا مكعبًا عام 2013 (فقر مائي) بنسبة 60.3% ومن المتوقع بلوغه 475 مترًا مكعبًا عام 2025.
مصر.. تحديات المستقبل المائي
تواجه مصر العديد من التحديات التي تهدد أمنها المائي وتضيف المزيد من الغموض بشأن مستقبل مواردها وحصتها المائية، يتزامن هذا مع زيادة الاضطرابات الإقليمية والدولية التي تحتل المياه مرتبة متقدمة في العديد من ملفاتها.
أولاً: التحديات البيئية.. التحدي الأول يتمثل في التغيرات المناخية التي من المحتمل أن يكون لها تأثير قوي في فقدان النيل لجزء كبير من حصته المائية، وهو ما أكده الدكتور أحمد عبد القوي أستاذ الجيولوجيا بالمركز القومي للبحوث (حكومي) الذي أشار إلى أن قلة ترسيب فيضان النيل بفعل احتجاز خزان السد العالي أدى إلى تكوين دلتا تحت مياهه، علاوة على النشاط الزلزالي في المنطقة بفعل وزن السد والمياه الموجودة خلفه وضغطها على طبقات الأرض.
الباحث أشار في حديثه لـ”نون بوست” إلى دراسة أجراها الأستاذ الجيولوجي بجامعة أسيوط أحمد سيف النصر عام 2014، كشف من خلالها أن ارتفاع أغلب أراضي الدلتا عن سطح البحر لا تتعدى المتر الواحد وذلك يعني أن ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار نصف متر سيؤدي إلى تقليص مساحة الدلتا بنسبة 19%.
وأوضحت الدراسة أن انحسار مياه النيل وإن كانت لن تؤدي إلى فقدان الدلتا بشكل كامل، إلا أنها ستعمل على ارتفاع مستوى سطح البحر، ما يعني زيادة نسبة المياه المالحة مقارنة بالمياه العذبة، وهو أمر وصفه بـ”الخطير” لا سيما في بلد يصل فيه نصيب الفرد من المياه 660 مترًا مكعبًا فقط، هذا في الوقت الذي يبلغ المتوسط العالمي 1000 متر مكعب.
التهديدات المحتمل وقوعها في منطقة الدلتا ربما تكون سببًا خلال السنوات القادمة في هجرة الملايين من سكان تلك المنطقة، بحثًا عن مكان آخر، وهو تحد آخر ربما يعيد رسم الخريطة الديموغرافية لدولة ظلت لعقود طويلة صامدة في مواجهة أي تغيرات من هذا النوع.
ثانيًا: التحديات الجيوسياسية.. رغم ما تمثله التحديات البيئية من مخاطر حقيقية فإن نظيرتها الجيوسياسية ربما تحتل النصيب الأكبر من حجم المخاوف التي تسيطر على المصريين، إذ تصاعد القلق على مستقبل البلاد المائي مع بداية الحديث عن إنشاء سد النهضة الإثيوبي الذي كان صدمة للملايين من الشعب المصري.
الدكتور صفوت عبد الدايم، مستشار المجلس العربي للمياه، كشف في تصريحات له أن السد الإثيوبي سيكون له تأثيرات سلبية على الأمن المائي المصري، لافتًا إلى أن المياه القادمة إلى مصر تأتي من النيل الأزرق، وستقل طبقًا للأبحاث بكميات تتراوح بين 5 و10 مليارات متر مكعب سنويًا، وأضاف أن ذلك سيؤثر أيضًا على مخزون السد العالي من المياه، وستنخفض حصة مصر المائية التي يتم سحبها من السد العالي، البالغة 55.5 مليار متر مكعب، مؤكدًا أن انخفاض حصة بلاده المائية سيكون له نتائج كارثية على الإنتاج الزراعي، سواء الاستهلاك أم التصدير.
فقدت مصر خلال العقود الثلاث الأخيرة ما يقرب من 20 مليار متر مكعب في سيناء فقط، تمكنت “إسرائيل” من سرقتها عبر السحب الجائر من خزان المياه الجوفية بسيناء
الرأي ذاته اتفق معه الدكتور خالد أبو زيد، رئيس مركز البيئة والتنمية للإقليم العربي وأوروبا الذي يرى أن فواقد البخر والتصرّف من بحيرة سد النهضة والتخزين الميّت سيؤثر على المخزون في بحيرة السد العالي وعلى التصرّف الطبيعي للنيل الأزرق، وأن أي فواقد ستنقص من المتوقع من التخزين في بحيرة السد، كما أن أي انتقاص من التصرّف في النيل الأزرق قد يؤثر على ما تستطيع مصر والسودان استخدامه من حصتهما.
ونوه بأن التأثير التراكمي لا يظهر في فترة التشغيل الأولى، فبعد عدة سنوات من بدء تشغيل السد سينتقص حجم المياه المخزّنة في بحيرة السد العالي، الذي تلجأ إليه مصر والسودان للاستخدام، خصوصًا خلال السنوات ذات الفيضان المنخفض، التي يتم الاعتماد خلالها على بحيرة السد العالي.
وزير الري الأسبق، محمد نصر علام، أشار إلى أن مصر في تلك الحالة ستفقد مخزونها من المياه لتكملة حصتها المائية، مضيفًا “هنقعد سنوات جفاف نعاني كما كان قبل بناء السد العالي”، موضحًا في تصريحات له أن سد النهضة سيحتاج كذلك لملء خزانه عقب توليد الكهرباء وينتج عن ذلك مضاعفة “سنوات الجفاف” لمصر التي من المحتمل أن تصل لـ10 سنوات.
علام انتقد أكثر من مرة إستراتيجية القاهرة في التعامل مع مسار المفاوضات بشأن مستقبل السد مع أديس أبابا والخرطوم على حد سواء، فهو الذي وصف تعامل المجلس العسكري في 2013/2014 مع هذا الملف بأنه “تهريج”، مضيفًا أن وزيرا الري والخارجية ارتكبا جريمة بإقناع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالتوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في 2015، تلك الاتفاقية التي تعد موافقة رسمية من مصر على بناء السد دون تحديد لحجم الضرر الواقع عليها وهو ما يجعلنا مكتوفي الأيدي في حال وقوع ضرر بالغ على مصر وهو أمر لا مفر منه”، بحد تعبيره.
“إسرائيل”.. علامة استفهام
كات دولة الاحتلال الإسرائيلي حاضرة بقوة في المراتب المتقدمة للتحديات التي تواجه مستقبل مصر المائي، حيث فقدت مصر خلال العقود الثلاث الأخيرة ما يقرب من 20 مليار متر مكعب في سيناء فقط، تمكنت “إسرائيل” من سرقتها عبر السحب الجائر من خزان المياه الجوفية بسيناء، منهم ما يقرب من 30 مليون متر مكعب من مياه السيول على مدار الـ5 سنوات الماضية، بسبب عدم وجود خزانات معدة لتخزين مياه السيول، وحفرت “إسرائيل” 80 بئرًا بعمق 800 متر بصحراء النقب لاستغلال المياه الجوفية المصرية، وفقًا لما كشفه الدكتور محمد إبراهيم جاد، أستاذ المياه ورئيس وحدة النماذج الرياضية بمركز بحوث الصحراء (حكومي).
ووفقًا لتقرير صادر عن المركز، تسبب هذا السحب في إحداث تغيرات في خواص المياه المتبقية لا سيما شمال سيناء مما جعلها غير صالحة للزراعة أو الاستخدام الآدمي، لتفقد مصر موردًا جديدًا من موارد الحياة في سيناء بعدما فقدت الثروات المعدنية في السابق نتيجة تجاهل الحكومات المتعاقبة لهذه القطعة البارزة من أرض مصر منذ حرب 1967 وحتى الآن.
وفي تقرير آخر صادر عن مركز الأرض لحقوق الإنسان (مستقل) تحت عنوان “المياه في مصر بين واقع أليم ومستقبل خطير” كشف النقاب عن حزمة من المشروعات التي أنشأتها تل أبيب للتأثير على مياه النيل منها: مشروع (استغلال الآبار الجوفية) حيث حفرت آبار جوفية بالقرب من الحدود المصرية، ومشروع (اليشع كالي) ويقضي بنقل مياه النيل إلى “إسرائيل”، وتنقل هـذه المياه عن طريــق سحــارة أسفل قناة السويس، ومشروع (يؤر) لنقل مياه النيل إلى الأراضي المحتلة عبر شق ست قنوات تحت مياه قناة السويس وبإمكان هذا المشروع نقل مليار متر مكعب، لري صحراء النقب منها 150 مليون متر مكعب، لقطاع غزة مما سيؤثر على موارد مصر المائية.
معظم المستنقعات المائية تقع جنوب السودان وبذلك فقد السودان نسبة كبيرة من المخزون المائي الذي كان من الممكن الاستعانه به في أي مشروع تنموي بالمستقبل
السودان.. الأمن المائي في خطر
في دراسة للدكتور عمر يحيى الأستاذ بكلية العلوم السياسية والدراسات الإستراتيجية، جامعة الزعيم الأزهري بالخرطوم، استعرض عددًا من التحديات التي تواجه الأمن المائي السوداني، إذ تناول قرابة 10 مهددات متنوعة، تباينت في خطورتها وتأثيرها من فترة زمنية لأخرى.
التحدي الأول وفق ما ذهب إليه كان ديمغرافيًا في المقام الأول، حيث القفزة في أعداد السكان بنسب تقترب من 350% خلال 60 عامًا، هذه القفزة ساعدت في ارتفاع نسبة الهجرة من الريف إلى المدن بشكل عام، بما يشكل ضغطًا متزايدًا على مصادر المياه المحددة في تلك المناطق في ظل بنية تحتية مترهلة.
ورغم ما يتمتع به السودان من وفرة في الموارد المائية، فإنه يعاني من ندرة في ظل زيادة الطلب، وهو ما تم الإشارة إليه في موضع سابق، إذ إنه وخلال العقدين القادمين فإن نسبة الحاجة إلى المياه ستفوق المياه المتاحة بأكثر من 60%، فيما تقدر كمية الموارد المائية المتاحة حاليًّا بـ5 .30 مليار متر مكعب تقدر حاجة السودان المائية في الفترة من عام 2012 ـ 2027 بنحو 52.6 مليار متر مكعب.
وبعيدًا عن غياب العدالة في اتفاقية المياه الموقعة في 1959 بين السودان ومصر، التي بمقتضاها يكون نصيب مصر من المياه ما يعادل 55.5 مليار متر مكعب، فيما جاء نصيب السودان 18.5 مليار متر مكعب، فإن أحد أبرز المهددات للأمن المائي السوداني يتمثل في انفصال جنوب السودان.
ويرجع هذا التأثير وفق ما ذهب الأستاذ بجامعة الزعيم الأزهري إلى أن معظم المستنقعات المائية تقع في جنوب السودان وبذلك فقد السودان نسبة كبيرة من المخزون المائي الذي كان من الممكن الاستعانة به في أي مشروع تنموي في المستقبل، فمع بروز جنوب السودان كدولةٍ مستقلة في الـ9 من يوليو عام 2011 ارتفع عدد دول حوض النيل إلى 11 دولة تتقاسم فيما بينها مياه النيل مجتمعة.
الدراسات تشير إلى أن نحو 20% من حوض النيل يقع في جنوب السودان، لتحتل بذلك المرتبة الثانية من حيث المساحة في دول الحوض بعد السودان الذي يقع فيه ما يقارب 45% من الحوض، علاوة على أن نحو 90% من جنوب السودان يقع داخل حوض النيل، وتقع المدن الرئيسية الثلاثة في البلاد – جوبا وملكال وواو – على النيل الأبيض أو أحد روافده.
كما تمثل الحروب والصراعات الداخلية مهددًا مهمًا، إذ لا يزال السودان يعاني من صراعات عديدة مثل دارفور والشرق وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وهو ما قد يؤدي إلى إهدار الموارد المائية فضلاً عن تلوثها من جانب آخر، هذا بخلاف صعوبة إنشاء مشروعات مائية في المناطق التي تشهد حالة من النزاع.
التغيرات المناخية كانت حاضرة بقوة في قائمة التحديات التي تعترض مستقبل مياه السودان، فالتقلبات البيئية من جفاف وتصحر وتغيرات مناخية باتت آثارها واضحة مما يؤدي إلى تقليل هطول الأمطار وتزايد الصراع على الموارد المائية، ومن المعروف وعلى حسب الخبراء في مجال المياه أن الحرب القادمة سوف تكون على المياه والتدهور البيئي.
من المتوقع أن تكون هناك عواقب وخيمة لتلك التحديات على الجانب الاقتصادي، بداية من بوار الأراضي الزراعية مرورًا بانقطاع التيار الكهربائي، وصولاً بإحداث حالة من الشلل للاستثمارات الخارجية والداخلية في البلاد
البعض ذهب إلى أن تأثير سد النهضة سينحصر على الجانب المصري فحسب، غير أن الدراسات المختلفة تشير إلى أن التأثير سيمتد بصورة أو بأخرى إلى الضلع السوداني، إذ من المقرر أن يحرم السد البلاد من مياه الفيضانات التي تغذي المياه الجوفية وتخصب التربة، وهي التي تحقق مخزونًا إستراتيجيًا يمكن استغلاله في أوقات الجفاف.
الدراسة ذهبت إلى أن السد سينجم عنه زيادة العجز المائي بعد ارتفاع السعة التخزينية إلى 150 مليار متر مكعب، مما سيؤثر سلبًا على البيئة والأسماك والحياة المائية بشكل عام، ويبدو أن ملء الخزانات إلى مستوى التشغيل سيؤدي إلى خفض الإيراد المائي الشهري للنيل الأزرق طيلة فترة ملء الخزان.
وأخيرًا.. تأتي الأطماع الخارجية لتكمل قائمة التحديات المائية السودانية، إذ تتعرض الدول الإفريقية عمومًا التي تعاني من صراعات داخلية متشعبة والسودان على وجه التحديد إلى تآمر دولي باستمرار، فبجانب الجيران ودول القارة، هناك ضغوط أخرى يأتي على رأسها الكيان الصهيوني الذي يستخدم نهر النيل للضغط على السودان ومصر في آن واحد.
الأكاديمي السوادني يشير إلى أن تل أبيب تلعب كما كانت في السابق دورًا سلبيًا في جنوب السودان، حيث حرضت الجنوبيين ضدّ السودان وسلحتهم ودربتهم، وليس من المستبعد أنها ستستعملهم في المستقبل خاصة إذا انفصلوا وأقاموا دولة مستقلة.
ندرة الموارد المائية تهدد أمن السودان المائي
لم يكن السودان بالأفضل حالاً، إذ تشير الدراسات إلى أنه وخلال العقدين القادمين فإن نسبة الحاجة إلى المياه ستفوق المياه المتاحة بأكثر من 60%، فيما تقدر كمية الموارد المائية المتاحة حاليًّا بـ5.30 مليار متر مكعب، وتقدر حاجة البلاد المائية في الفترة من عام 2012 ـ2027 بنحو 52.6 مليار متر مكعب، مما يعكس حجم العجز الواضح الذي ترتب عليه تراجع ملحوظ في حصة المواطن السوداني من المياه لا سيما بعد الزيادة السكانية الهائلة، حيث زاد عدد السكان من 12 مليونًا في عام 1956، إلى نحو 40 مليونًا حسب التعداد السكاني الأخير.
مستقبل الزراعة.. إلى أين؟
بعيدًا عن البُعد السياسي والأمني، فمن المتوقع أن تكون هناك عواقب وخيمة لتلك التحديات على الجانب الاقتصادي، بداية من بوار الأراضي الزراعية مرورًا بانقطاع التيار الكهربائي، وصولاً بإحداث حالة من الشلل للاستثمارات الخارجية والداخلية في البلاد على حد سواء وفق ما أشار خبراء.
الدكتور نادر نور الدين، خبير الموارد المائية المصري يرى أن مصر بات من الضروري أن تغير سياستها الزراعية، للتعامل مع شُح مواردها المائية، بالاستغناء عن زراعات الأرز، وهو ما بدأته فعليًّا بتقليص مساحات زراعته، وشرّعت قانونًا أقره البرلمان بحبس المخالفين وتوقيع غرامة مالية كبيرة عليهم.
وأضاف في مقال له أن ذلك سيؤدي ذلك إلى استيراد مصر لنصف احتياجاتها من الأرز بعد تخفيض مساحات زراعته، التي تقدر بنحو مليونَي طن سنويًّا من إجمالي 4 ملايين طن إجمالي استهلاكها الحاليّ من الأرز، وبالتالي ستنفق مصر سنويًّا نحو مليار دولار لاستيراد الأرز فقط.
هذا بخلاف وجوب تحويل زراعات قصب السكر في صعيد مصر إلى زراعة البنجر في الشمال، بما سيزيد من معاناة أهالي الصعيد الفقيرة التي تعاني من هجرة أبنائها إلى الشمال بسبب نقص فرص العمل، إذ إن زراعة قصب السكر في الصعيد توفر نحو 27 صناعة مكملة في مصانع إنتاج العسل الأسود والميثانول والمولاس وكوز السكر والسكر النبات والخل والمقشات وغيرها.
الآثار المتوقعة بشأن توقف مياه الفيضان عن المنطقة الشرقية، بعد سد النهضة، التي كانت أراضيها تُغمر بالمياه أربعة أشهر كل عام، يمكن أن يؤدي إلى تدهور أراضي ولايتي النيل الأزرق وكسلا
كذلك حتمية تخفيض زراعات بعض المحاصيل المستنزِفة للمياه إلى النصف على الأقل على رأسها الموز، وربما يصل الأمر إلى تخفيض مساحات الحاصلات الورقية العريضة مثل القلقاس والكرنب ومعها البرسيم والأعلاف، وربما يؤدي الأمر إلى تخفيض زراعات الموسم الصيفي الحار إلى النصف بسبب استهلاكها الكبير للمياه بسبب الحرارة.
وفقًا للخبير المائي فإنه من المتوقع زيادة الفجوة الغذائية لتزيد الصادرات الغذائية المصرية – التي تكلف مصر حاليًّا نحو 12 مليار دولار سنويًّا – لتصبح من 15 إلى 17 مليار دولار سنويًّا، منوهًا إلى أنه لمحاولة سد تلك الفجوة ستدخل مصر في معترك تحلية مياه البحر، وهي تقنيات مكلفة لا تناسب الدول النامية والفقيرة، مما سيضغط كثيرًا على مواردها المالية ويرفع أسعار المياه، بالإضافة إلى قلة إنتاج هذه التقنيات للمياه.
مستشار المجلس العربي للمياه كان قد أشار إلى أن بعض الدراسات ذهبت إلى أنه إذا حدث انخفاض في الحصة المائية لمصر بمقدار 5 مليارات متر مكعب، فإن القطاع الزراعي سيخسر نحو 75 مليار جنيه، وإذا بلغ الانخفاض مقدار 10 مليارات متر مكعب سنويًا فإن خسائر القطاع الزراعي ستصل إلى 150 مليارًا في السنة.
هذا الكلام أكدته شهادات عدة لعشرات الفلاحين والمزراعين الذي أشاروا إلى أنهم تلقوا تعليمات واضحة من جهات رسمية بعدم زراعة محصول الأرز العام الماضي وقبل الماضي، هذا بخلاف تعرض بعضهم لغرامات حال مخالفته لتلك التعليمات، هذا في الوقت الذي اضطر الكثير منهم إلى حرث أرضه بعد زراعتها أكثر من مرة لندرة المياه، وهو ما يعني بالنسبة لهم “موت وخراب ديار” على حد وصفهم.
سودانيًا.. فإن الآثار المتوقعة بشأن توقف مياه الفيضان عن المنطقة الشرقية، بعد سد النهضة، التي كانت أراضيها تُغمر بالمياه أربعة أشهر كل عام، يمكن أن يؤدي إلى تدهور أراضي ولايتي النيل الأزرق وكسلا، بسبب غياب غسيل أراضيها دوريًّا، بالإضافة إلى حتمية تحوُّل السودان إلى الزراعة المروية في هذه المنطقة، وتغيير نمط الزراعة الحاليّة، وذلك وفق ما أشار إليه نور الدين.
وعليه بات من الضروري على الجانب السوداني التغيير إلى الزراعة المروية لنحو مليون هكتار في الولايات الشرقية، وإقامة شبكة مكلفة من الترع والمصارف، التي تتطلب تدبير مليارات الدولارات، قد لا يتحملها الاقتصاد السوداني في الوقت الحاليّ، إلا أنه إذا استطاعت البلاد – بدعم إثيوبي أو بغيره – إنشاء شبكة الري والصرف في أراضي ولايتي النيل الأزرق وكسلا، فقد يكون باستطاعتها زراعة الحاصلات الصيفية الإستراتيجية.
التحول إلى الزراعة المروية يعني من جهة أخرى التحول إلى استخدام الأسمدة الكيميائية والمبيدات المضرة، وهو ما قد ينجم عنه آثار كارثية أخرى، صحيًا وبيئيًا، ما يجعل من إعداد الدراسات والتقارير المتعلقة بكيفية إدارة المرحلة المقبلة أمر في غاية الأهمية والخطورة.
وفي المجمل يبدو أن السنوات القادمة ستحمل الكثير من التحديات التي ربما ستضع مستقبل الأمن المائي لكلا الشعبين المصري والسوداني على المحك، وإن كان هذا يتوقف على قدرة السلطات في البلدين على مواجهة تلك التحديات والتعاطي معها بصورة أو بأخرى.