ساعات تفصل التونسيين عن اختيار رئيسهم في ثاني انتخابات رئاسية حرة بتاريخ البلاد، في وقت تُهيمن الأسئلة حول عودة الحرس القديم إلى سدة الحكم عن طريق مرشح فلول النظام وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، وفي ظل انقسام واضح في صفوف “حراس الثورة” بشأن تقديم شخصية جامعة تُحافظ على المد الثوري ومنجزات 14 يناير.
دُعي إلى اختيار رئيس تونس هذا الأحد أكثر من 7 ملايين ناخب، وتجري التحضيرات على قدم وساق لوضع آخر اللمسات لهذا الاستحقاق المهم، ومن المتوقع أن تقدم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات النتائج الأولية يوم 17 من سبتمبر/أيلول الحالي.
وانطلقت أمس الجمعة عمليات التصويت الخاصة بالانتخابات الرئاسية في دول المهجر، حيث ستتواصل لثلاثة أيام، وسخرت لها السلطات التونسية 392 مكتب اقتراع لاستقبال نحو 400 ألف ناخب مسجل.
وبعد عشرة أيام من انطلاق الحملة الانتخابية في الـ2 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، تصاعدت دعوات اعتماد آلية التصويت المفيد خوفًا من تشتت الأصوات خاصة أن الأسماء المرشحة تنتمي إلى أقطاب مختلفة ومن عائلات سياسية متنوعة (إسلاميين علمانيين شعبويين)، وعودة فلول النظام القديم.
يرى مراقبون أن انسحاب مرزوق لفائدة الزبيدي لا معنى قانوني له، لكن سيكون له أثره النفسي المعزز لمركز الزبيدي في أوساط الناخبين
انسحاب تكتيكي
في هذا السياق، أعلن المرشح للانتخابات السابقة لأوانها محسن مرزوق (مشروع تونس) إيقاف حملته الرئاسية والدعوة إلى التصويت لفائدة عبد الكريم الزبيدي، قائلاً: “هذه الخطوة تقدم المصلحة العامة أمام المصلحة الخاصة وتهدف إلى عدم تشتت الأصوات خصوصًا في ظل صعود قوى متطرفة وشعبوية تهدد سلامة ووحدة الدولة ومكاسبها العصرية”.
والتحق بدوره السياسي ورجل الأعمال سليم الرياحي الملاحق قضائيًا والموجود خارج البلاد بركب القافزين إلى سفينة الزبيدي وأعلن انسحابه من السباق الرئاسي بهدف دعم وزير الدفاع، وقال الرياحي الذي غادر تونس منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعد رفع القضاء حظر السفر عنه: “بكل ثقة في النفس أقرر الانسحاب من سباق الانتخابات الرئاسية لصالح السيد عبد الكريم الزبيدي”، مضيفًا في فيديو نشره على صفحته الرسمية بموقع فيسبوك “أعتبره انسحابًا لمصلحة وطنية لأن الإحصاءات التي لدي جيدة لكنها لا توصلني إلى الرئاسة وخياري مبني على وطنية الشخص بحكم معرفتي به”.
يرى مراقبون أن انسحاب مرزوق لفائدة الزبيدي لا معنى قانوني له، لكن سيكون له أثره النفسي المعزز لمركز الزبيدي في أوساط الناخبين، وأن قرار رئيس حركة مشروع تونس بالانسحاب آخر لحظة كان متوقعًا، وترشحه كان ضرورة سياسية فرضها وجوب إعداد جاهزية ماكينته الانتخابية للمعركة التشريعية، فيما اعتبر الصحافي التونسي نبيل الريحاني، انسحاب اللومي ومرزوق لفائدة الزبيدي “تفليم” انتخابي، هربًا من نتائج مخزية، وحجزًا مبكرًا لمقاعد في حافلة المغانم الانتخابية.
الزبيدي والقوى الخارجية
صعود الزبيدي إلى الواجهة السياسية بشكل مفاجئ بعد حملة دعم ومناشدة واسعة اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي توحي بما لا يدع مجالاً للشك أن وراء الرجل طاقمًا إعلاميًا وقوى نفوذ سياسي كانت مستعدة لتصعيده بسرعة قياسية.
بدوره، قال الصحافي كريم البوعلي على صفحته بموقع فيسبوك: “منتظر أن يتكتل بعضهم مع بعض، ضد البعض الآخر ولو كانوا معهم في بعض الأشياء، محسن مرزوق يقرر الانسحاب من السباق لفائدة عبد الكريم الزبيدي، حزب محسن مرزوق مع حكومة الشاهد والنهضة والآن ينسحب لفائدة منافسهما اللدود عبد الكريم الزبيدي، دويلة الإمارات تمر للسرعة القصوى، وعلى جميع أذرعها الطاعة والولاء، قد يراهن أكثر بأصوات مرزوق على الدور ثاني وستعلن حينها عبير “للعبور” موسى مساندته – باعتبارها أحد أذرع الدويلة اللقيطة – هذا إن لم تعلن عن ذلك بعد سويعات”.
وفي ذات السياق قال الناشط وأستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك، إن وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي “أبو دبابة” هو فقط الوجه الآخر الأقل خجلاً من عبير موسي، أغلب من “سيسوط” له سيأكلهم سياط الخجل في النهاية. تشتتوا حتى تحكمكم مماليك الإمارات.. وذيولهم في الداخل”.
وعلى الضفة المقابلة، دعا مناصرو الثورة الناخبين إلى ضرورة البحث عن الجدوى الانتخابية وعن الفاعلية القصوى لأصواتهم في حال تعذر على مرشحهم الأصلي الوصول إلى النتيجة المرجوة، بما يضمن عدم صعود أي مرشح من المنظومة القديمة.
وقال سامي عمار على صفحته بموقع فيسبوك: “التصويت المفيد (vote utile) هو الحل السحري لمن يريد الحفاظ على مكتسبات الثورة ويقطع مع إمكانية العودة لمنظومة الاستبداد والفساد وذلك بإعطاء صوت الناخب للمرشح الذي سيحمي التعايش المجتمعي والثقافي والسياسي وسيجمع التونسيين”.
النهضة والشق الثوري
وفي ذات السياق، طالب رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي كلاً من المرشحين الرئاسيين حمادي الجبالي والمنصف المرزوقي وسيف الدين مخلوف إلى الانسحاب من السباق الرئاسي لصالح المرشح عبد الفتاح مورو، مضيفًا “هنالك مشاورات مع المرشح المرزوقي لسحب ترشحه لإنقاذ توجه الثورة”، متابعًا “فليتذكر المرزوقي دعم النهضة له في الانتخابات الرئاسية لسنة 2014”.
وكان القيادي في حركة النهضة ومدير حملة مرشحها سمير ديلو قد رد على دعوة الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي للتصويت له بالقول: “الصديق الدكتور المنصف المرزوقي ملاحظتان ردًا على دعوتك قواعد النهضة للتصويت “المفيد” لك، اختارت حركة النهضة في انتخابات 2014 عدم تقديم مرشح والتزام الحياد، فصوت لك أغلب أنصارها ومن الوهم تصور تحول الاستثناء العارض إلى قاعدة تتيح لك التعويل على ذات الأنصار رغم أنه قد أصبح لهم مرشح رسمي جدي وذو حظوظ وافرة، منطق التصويت المفيد يفرض دعم المرشح الأوفر حظًا في بلوغ الدور الثاني حتى لا تضيع الأصوات هدرًا، من أجل كل المبادئ التي تتقاسمها مع الأستاذ مورو، وعملاً بالتصويت المفيد الذي دعوت له :لم لا تعلن دعمك للأستاذ مورو ودعوتك للتصويت له!؟”.
وتستند حركة النهضة (القوة السياسية الأكثر تنظيمًا في البلاد) في دعوتها للتصويت المفيد لمرشحها إلى قراءة نتائج سبر الآراء التي تظهر أن عبد الفتاح مورو الأوفر حظًا، وأن مرشحي الثورة الآخرين لا يمكن إلا أن يساهموا في إفراغ خزانها الانتخابي وينقصوا من الأصوات المساندة لها، خاصة أن بعض الأسماء على غرار سيف الدين مخلوف (ائتلاف الكرامة) وقيس سعيد يفتقدان للسند الحزبي.
دعوة الغنوشي بعض المرشحين التنازل لمورو بحجة تشتيت الأصوات، هو مجرد تحضير نفسي لقواعد الحركة وحتى لخصومها لسيناريو “فشل” مورو في الدور الأول بعد حملة انتخابية باهتة جدًا
مخاوف من “السيستام”
في تصريح لـ”نون بوست” قال المستشار السابق لمحمد المنصف المرزوقي، عدنان منصر، “موضوع التصويت المفيد يطرح عادة في الدور الأول عندما يحصل تشتت وتعدد في الترشحات، وهذا ما يحصل حاليًّا حيث نجد أن نفس العائلة السياسية تقدم للانتخابات الرئاسية مرشحين عديدين”، مضيفًا القول: “أعتقد ان الدور الأول لن يحسمه أي تصويت مفيد بسبب عدم تنازل أي مرشح قبل يوم الاقتراع، وهذا طبيعي بالنظر للرزنامة الانتخابية التي تجعل من الحملة الرئاسية نوعًا من الدعاية أيضًا للحملة التشريعية، ودعوة الغنوشي بعض المترشحين للانسحاب لصالح مورو هي دعوة مرتبك شبه متأكد من أن مرشحه لن يتجاوز الدور الأول، وهذا خطير جدًا على النهضة في التشريعية، ثم لاحقًا في بناء التحالفات للحكم، ونفس الحرج يعيشه الشاهد والزبيدي طبعًا”.
متابعًا “في الدور الثاني، سيكون التصويت مفيدًا بالضرورة، وسيكون متأثرًا بنتائج الانتخابات التشريعية التي تتم بين دوري الانتخابات الرئاسية، لا شيء في هذه الانتخابات يشبه انتخابات 2014، وسنجد في نهايتها رئيس جمهورية دون تجربة كبيرة في العمل السياسي، وربما دون إسناد برلماني، بما يعد بتواصل عدم الاستقرار، وربما لاحقًا بانتخابات سابقة لأوانها”.
خوض حركة النهضة السباق الانتخابي الرئاسي بمرشحها مورو في مواجهة أسماء أخرى بارزة محسوبة على المنظومة القديمة مثل رئيس الحكومة يوسف الشاهد ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي ورئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة، إضافة إلى رجل الأعمال ومالك قناة “نسمة” الفضائية نبيل القروي، جعلها تدرك حركة أن تعدد المرشحين المحسوبين على “السيستام” للاستحقاق الرئاسي المقبل سيكون مختلفًا ويتطلب وضع خطة (ب) لمواجهة المنعرجات الحاسمة، وسيكون على الحزب أن يعبئ أنصاره لأنه إذا كانت نتيجة مورو سيئة فإن ذلك قد يؤدي إلى خسارة الانتخابات التشريعية.
إلى ذلك، اعتبر الصحافي التونسي نبيل الشاهد في تدوينة على فيسبوك أن “دعوة الغنوشي بعض المرشحين التنازل لمورو بحجة تشتيت الأصوات، هو مجرد تحضير نفسي لقواعد الحركة وحتى لخصومها لسيناريو “فشل” مورو في الدور الأول بعد حملة انتخابية باهتة جدًا (يا لها من صدفة أن يسمي ثلاثيًا محددًا وقبل يوم فقط من الانتخابات)، أعيد ما قلته مرات عديدة: مرشح النهضة الحقيقي ليس عبد الفتاح مورو، والغنوشي يُخفي ورقة في الدرج سيرميها في وجه الجميع”.
أخيرًا، فإن لجوء القواعد الانتخابية لبعض المرشحين إلى “التصويت المفيد” يظل واردًا وقائمًا في ظل عجز بعض الأسماء عن تجميع شق من التونسيين حولها، وفي الآن نفسه، يظل تنسيق العملية أمرًا معقدًا ومحدود الفاعلية في الدور الأول، في حين سيكون أشد فاعلية وحسمًا في الدور الثاني لتقلص خيارات الناخبين وانحصارها في مرشحَين، وسيكون الصراع على كرسي قصر قرطاج بين أنصار الثورة وحراس النظام القديم.