تشهد الضفة الغربية تصعيدًا عسكريًا إسرائيليًا مكثفًا، عقب إعلان قوات الاحتلال بدء عملية “السور الحديدي” فجر 21 يناير/كانون الثاني، مستهدفةً مخيم جنين، قبل أن تمتد العمليات إلى طولكرم وبقية قرى ومخيمات شمال الضفة الغربية، بما في ذلك طوباس، وبلدة طمون، ومخيم الفارعة، حيث اصطدمت قوات الاحتلال بمقاومة مسلحة عُرفت بنشاطها المتواصل ضد الاحتلال.
وسجلت القرى الفلسطينية مؤخرًا انخراطًا متزايدًا في العمل المقاوم، حيث تصدرت قرية طمون المشهد من خلال كتائبها المختلفة، فقد شهدت البلدة في 20 يناير/كانون الثاني عملية نوعية، تمثلت في تفجير عبوة ناسفة برتل عسكري إسرائيلي اقتحم القرية، ما أسفر عن مقتل جندي إسرائيلي برتبة رقيب أول، وإصابة اثنين آخرين بجروح.
ولا تختلف المقاومة في قرى الضفة الغربية عنها في المخيمات من حيث دوافع العمل المقاوم، إذ تعيش كل من القرى والمخيمات تحت وطأة سياسات الاحتلال التنكيلية، التي تهدف إلى ضم الضفة الغربية ضمن المشروع التوسعي لـ”إسرائيل”، وذلك على حساب السكان والأراضي.
أسهمت هذه السياسات في بروز المقاومة في مخيمات وقرى شمال الضفة الغربية كحالة اجتماعية متجذرة، نابعة من التهميش السياسي والاقتصادي، ومن ممارسات الاحتلال الاستيطانية التي تستهدف الأرض والإنسان معًا، فكيف تمكنت المقاومة من ترسيخ وجودها وتطوير أدواتها رغم وطأة الاحتلال في الضفة الغربية؟
مسعى قديم ومتكرر
برزت سياسة الاحتلال العدوانية ضد مخيمات وقرى الضفة الغربية منذ احتلالها عام 1967، حيث استهدفت تفكيك المخيمات والتوسع الاستيطاني في القرى، باعتبارها مساحات جغرافية تركز فيها الفلسطينيون اللاجئون من نكبة عام 1948، ولأنهم يشكلون أغلبية صامدة لم تغادر أرضها.
ومنذ بداية الاحتلال، عملت “إسرائيل” على قضم أراضي الفلسطينيين وضمها، حيث صادرت قوات الاحتلال نحو 93 ألف دونم من أراضي قرية طمون وحدها، وهجّرت سكانها منها بعد تحويلها إلى مناطق عسكرية ومستوطنات زراعية.
لم يتوقف التوسع عند ذلك، إذ استولت “إسرائيل” على نحو 70% من مساحة الضفة الغربية، محولةً إياها إلى مستوطنات وبؤر عسكرية في إطار مشروع استيطاني ممنهج يستهدف الأرض والوجود الفلسطيني.
كما مارست قوات الاحتلال سياستها العدوانية تجاه المخيمات الفلسطينية من خلال استهداف سكانها وإحاطتهم بظروف معيشية قاسية، في سياق هدفها الأوسع الرامي إلى تكريس أسباب التهجير ودفع الفلسطينيين قسرًا إلى مغادرة أرضهم.
سعت قوات الاحتلال أيضًا إلى تهميش المناطق التي تضم الفلسطينيين وإفقارها، عبر فرض سياسات استعمارية ممنهجة شملت تقسيم الجغرافيا، وإحكام الرقابة على حركة السكان، واستهداف الشخصيات البارزة والمؤثرة في صفوفهم، ما شكل حافزًا لبناء العمل المقاوم، الذي ظهر جليًا منذ اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987.
على مدار عقود، كثفت قوات الاحتلال استهدافها للمخيمات، نظرًا لدورها كمراكز حاضنة للعمل المقاوم، بفضل بنيتها الجغرافية التي تتميز بالأبنية المتلاصقة والأزقة الضيقة، والتي أتاحت للمقاومين حرية الحركة والمناورة، ولذلك سعت سلطات الاحتلال إلى تفكيك هذه المخيمات وإعادة هندستها ضمن مخطط يتكامل مع الهندسة الاستعمارية للمدن الفلسطينية في الضفة الغربية، بهدف تسهيل عمليات الاقتحام والسيطرة عليها متى شاءت.
ورغم الواقع الذي فرضته “إسرائيل” في الضفة الغربية، إلا أنها أخفقت في إدراك أن سياساتها التهميشية، وما أفرزته من ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية قاسية، كانت المحرك الأساسي لنشوء تشكيلات المقاومة وتناميها.
ما الذي أشعل الفتيل؟
شكلت حالة المقاومة في الضفة الغربية ظاهرة ممتدة لم تعرف حدودًا تعيقها أو تحد من انتشارها، ورغم تمركز النشاط المقاوم في المخيمات، مثل مخيم جنين وطولكرم والفارعة، التي وفرت بيئة أكثر أمانًا بعيدًا عن أعين الاحتلال مقارنةً بمدن الضفة الكبرى، إلا أن القرى بدورها شهدت نشاطًا مقاومًا فاعلًا لا يقل تأثيرًا في التصدي لقوات الاحتلال.
برزت الممارسات الاستيطانية، وما صاحبها من اعتداءات متكررة على السكان، كأحد المحفزات الرئيسية التي دفعت إلى تنامي تشكيلات المقاومة في القرى، أما في مخيمات اللجوء، فقد كانت الحاضنة الشعبية، إلى جانب مساعي الاحتلال المستمرة لتفكيك هذه المخيمات وطمس هويتها النضالية، الدافع الأبرز لنشوء المقاومة وتطورها.
ونتيجة لتصاعد ممارسات الاحتلال التي استهدفت الفلسطينيين في القرى والمخيمات، شهدت المقاومة حالة من التوسع الملحوظ، يمكن وصفها بأنها تزامنية، إذ انطلقت في آنٍ واحد من المدن والأرياف والمخيمات.
يتجلى هذا بوضوح في تجربة كتائب طوباس، التي نفذت نشاطًا مقاومًا مكثفًا خلال عام 2023، حيث تشكّلت كتائب المقاومة بشكل متزامن في المدينة وريفها ومخيمها، وتحديدًا في مدينة طوباس، وبلدة طمون، ومخيم الفارعة، كذلك الأمر مع كتيبة طولكرم، التي ظهرت كقوة مقاومة انطلقت من مدينة طولكرم ومخيم نور شمس.
تعود هذه الحالة التزامنية في العمل المقاوم إلى ما تعرض له الفلسطينيون من قمع وتهجير وتشريد، وهي سياسات شكلت أحد أبرز المحركات التي دفعت نحو اتساع رقعة المقاومة في الضفة الغربية، في ظل غياب أي رادع دولي عملي يوقف الاحتلال الإسرائيلي عند حدوده، ويضع حدًا لتوسعه الاستيطاني واعتداءاته المستمرة.
لم تكن السلطة الفلسطينية أقل فاعلية من “إسرائيل” في تهميش الفلسطينيين وقمعهم في قرى ومخيمات الضفة الغربية، فقد شكّلت اتفاقية أوسلو مع الاحتلال الإسرائيلي بدايةً لتاريخ طويل من التعاون الأمني، الذي وضع حماية أمن الاحتلال فوق حقوق الفلسطينيين، ما أسهم في خلق ظروف معيشية قاسية دفعت الفلسطينيين إلى تبنّي مختلف أشكال المقاومة، بما في ذلك المقاومة المسلحة، كخيار ضروري في مواجهة الاحتلال الذي واصل سياساته الاستيطانية التوسعية.
في أواخر أغسطس/آب 2024، شهدت الضفة الغربية واحدة من أكبر العمليات العسكرية، التي جاءت بتواطؤ بين السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي، بهدف مكافحة نشاط المقاومة في شمال الضفة الغربية، حيث كشف موقع عبري تفاصيل صفقة أمنية بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية، استهدفت السكان الذين يشكلون الحاضنة الشعبية للعمل المقاوم.
انعكس هذا التعاون على الأرض بممارسات قمعية طالت القرى والمدن الفلسطينية، حيث نفذت السلطة الفلسطينية حملات اقتحام واعتقالات، ما أدى إلى وقوع إصابات وسقوط شهداء في صفوف الفلسطينيين، لتصبح هذه الممارسات امتدادًا للعدوان المستمر على الشعب الفلسطيني، سواء بأيدي الاحتلال أو من خلال أدوات السلطة الأمنية.
ويشكل العدوان الإسرائيلي الأخير على شمال الضفة الغربية، ممارسة واضحة للعبث بالهيكل الجغرافي للمخيمات بتهجير سكانها، بالقوة وتدمير بنيتها التحتية بحجة اقتلاع جذور المقاومة من خلال اقتلاع حاضنتها الشعبية، فضلا عن الممارسات الاستيطانية التي تستهدف الهجوم على السكان في القرى لغاية الاستيلاء على المزيد من الأراضي.
في هذا السياق، صرّح رئيس غرفة تجارة جنين، عمار أبو بكر، بأن ضباط الإدارة المدنية الإسرائيلية أكدوا نيتهم البقاء في المدينة والمخيم، ضمن مخطط طويل الأمد للسيطرة على المنطقة، وأسفرت العملية العسكرية عن تهجير نحو 14 ألف نسمة من سكان المخيم، بالتزامن مع تنفيذ عمليات تجريف واسعة للبيوت وشق طرق جديدة داخل المخيم، في محاولة لإعادة تشكيله جغرافيًا بما يخدم الأهداف الاستيطانية ويسهّل عمليات الاقتحام مستقبلاً.
يُبرز هذا العدوان الإسرائيلي على المخيمات هدفًا أعمق من الهجوم العسكري المباشر، إذ يسعى الاحتلال إلى تذويب البنية الجغرافية والاجتماعية للمخيمات، وإبقاءها تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، في إطار مخطط لإعادة هندسة المكان بما يخدم مشاريع الضم والاستيطان، وطمس الهوية النضالية التي تمثلها المخيمات الفلسطينية.
صفيح ساخن
لا يمكن اعتبار الممارسات العدوانية التي ينفذها الاحتلال حاليًا في شمال الضفة الغربية ممارسات جديدة من نوعها، إذ شهدت الضفة الغربية عامًا مليئًا بالاشتباكات مع قوات الاحتلال، كما ظلت المنطقة على صفيح ساخن منذ ما قبل اندلاع عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بعامين على الأقل.
في تلك الفترة، ظهرت مجموعات مقاومة صغيرة، تنشط بشكل كبير في شمال الضفة الغربية، مع انتشار محدود نسبيًا في وسطها وجنوبها، كرد مباشر على استهداف الاحتلال لقيادات ميدانية بارزة في صفوف الفلسطينيين.
وعلى الرغم من أن الاحتلال كثف ممارساته العدوانية ضد المقاومة وقياداتها وحاضنتها الشعبية، فإن هذه السياسات لم تؤدِ إلى تذويب العمل المقاوم، بل أسهمت في اتساعه وتطور أساليبه القتالية، ورغم أن الخلايا المقاومة التي نشأت ارتبطت بدايةً بفصائل فلسطينية معروفة، مثل فتح وحماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، إلا أنها لاحقًا اتخذت طابعًا أكثر استقلالية، متجاوزةً الأطر التنظيمية التقليدية.
ومنذ بروزها، تجنبت كتائب المقاومة اعتماد البنية الهرمية التقليدية، التي كانت ستمنح الاحتلال مسارًا سهلاً للقضاء عليها عبر استهداف رأس الهرم ثم تفكيك القاعدة من خلال تصفية القيادات الميدانية، وبدلاً من ذلك، اعتمدت على بنية شبكية مرنة، سهّلت عملية ملء الفراغ في حال الاغتيالات والاستهدافات، وهو ما يفسر عدم نجاح قوات الاحتلال في القضاء على المقاومة، رغم استهدافها المتكرر لقادتها.
تهجير قسري، عسكرة للمدن وتوسيع للمستوطنات.. ما هو الواقع الذي يحاول الاحتلال الإسرائيلي فرضه في #الضفة_الغربية؟ pic.twitter.com/ToRwx1ise2
— نون بوست (@NoonPost) February 14, 2025
وتعددت تكتيكات المقاومة، وكان من أبرزها ما عُرف باستراتيجية “الذئاب المنفردة”، التي شكلت نموذجًا ملهِمًا لفاعلية المقاومة رغم تمدد الاستيطان، إذ تعتمد هذه الاستراتيجية على عنصري المباغتة والمبادرة، مع اشتباك من مسافة صفر.
عقب السابع من أكتوبر، تنوعت أساليب المقاومة في الضفة الغربية، حيث شملت تنفيذ الكمائن باستخدام العبوات الناسفة، سواء التقليدية منها أو البرميلية الكبيرة المعدة للتفجير عن بُعد، إلى جانب عمليات إطلاق النار المباشر، والسيارات المفخخة، والعمليات الاستشهادية.
كما شهدت كتائب المقاومة اتساعًا ملحوظًا، حيث استقطبت المزيد من الشباب الفلسطيني لمواجهة الاحتلال، مع توجه العمل المسلح إلى السرية في العديد من الحالات، سواء من خلال تنفيذ عمليات فردية أو عبر العمل ضمن التشكيلات المسلحة المعروفة.
ختامًا، يتضح من متابعة تطور المقاومة في الضفة الغربية أنها استفادت من الخبرات التراكمية في العمل المقاوم، حيث طورت أساليبها واستراتيجياتها لتصبح أكثر مرونة وفاعلية، كما يظهر أن تجذر المقاومة واستمراريتها يعود إلى مشروعيتها المستمدة من حاضنتها الشعبية المؤيدة لها، فضلًا عن ما تولده الظروف المأساوية التي يعيشها الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال من دافع مستمر للمقاومة والصمود.