لا تزال معاناة العراقيين مستمرة مع أزمة الكهرباء، حيث تشهد البلاد انقطاعات طويلة تصل إلى 12 ساعة يوميًا بسبب نقص الغاز اللازم لتشغيل محطات التوليد، إلى جانب تراجع إمدادات الغاز الإيراني المستورد، وسط تفاقم المخاوف مع اقتراب دخول الأمر التنفيذي الصادر عن دونالد ترامب حيز التنفيذ مطلع مارس/آذار المقبل، والذي يحظر على بغداد استيراد الغاز والكهرباء من إيران.
ورغم تعهدات الحكومات المتعاقبة منذ الغزو الأمريكي قبل 23 عامًا بحل أزمة الكهرباء، إلا أن المشكلة لا تزال قائمة، في ظل اتساع الفجوة بين الإنتاج الفعلي والطلب المتزايد سنويًا نتيجة النمو السكاني والتوسع العمراني.
هدر بالمليارات
منذ تولي أول رئيس وزراء للعراق بعد الغزو الأمريكي، أنفقت البلاد ما لا يقل عن 100 مليار دولار على قطاع الكهرباء دون تحقيق تحسن ملموس، ووفقًا لمصدر في وزارة الكهرباء العراقية تحدث لـ”نون بوست”، جرى استثمار ما لا يقل عن 48 مليار دولار بشكل مباشر في قطاع الكهرباء خلال العقد الأول بعد 2003، عبر عقود لإنشاء محطات توليد جديدة وتوسيع وتطوير شبكات التوزيع.
وأشار المصدر إلى أن وزارة الكهرباء تعاني، كغيرها من الوزارات العراقية، من آثار المحاصصة السياسية والحزبية، إضافة إلى الفساد والإتاوات وتمويل الأحزاب الذي يعتمد بشكل أساسي على العقود والمشاريع، ما يعرقل أي جهود حقيقية لحل أزمة الكهرباء.
تقدر وزارة الكهرباء احتياج العراق بنحو 48 ألف ميغاواط، بينما لا يتجاوز الإنتاج الفعلي في أفضل الأحوال 27 ألف ميغاواط، يتم توليدها محليًا باستخدام الغاز المحلي والمستورد، إلى جانب استيراد الكهرباء من إيران وتركيا والأردن مؤخرًا.
ولا تعد الأرقام الضخمة التي أُنفقت على قطاع الكهرباء مجرد تقديرات، بل تؤكدها مصادر رسمية ومسؤولون رفيعو المستوى في الحكومة، إذ يشير المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي، مظهر محمد صالح، إلى أن العراق أنفق نحو 100 مليار دولار على قطاع الكهرباء خلال العقدين الماضيين، دون أن ينجح في إنهاء أزمة انقطاع التيار الكهربائي.
وبين أن هذه الأموال الطائلة التي أُنفقت كاستثمارات في قطاع إنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية كان يفترض بها أن تجعل من العراق دولة مصدرة للكهرباء ضمن إستراتيجيات (الربط الخماسي) مع دول الجوار التي ذاع صيتها في تبادل فوائض الطاقة الكهربائية المنتجة منذ أمد بعيد، بحسب قوله.
وكان جميع رؤساء وزراء البلاد منذ الغزو الأميركي قد وعدوا بحل مشكلة الكهرباء خلال فترة توليهم مناصبهم دون أن يكون لذلك أي مصداقية على أرض الواقع، الأمر الذي لا يزال يتسبب بخسائر تقدر بمليارات الدولارات سنويا.
غياب الحلول
تُعد أزمة قطاع الكهرباء في العراق معقدة ومتشابكة، إذ تمتد مشكلاتها عبر مراحل التوليد والنقل والتوزيع، وكل منها يعاني من عيوب كبيرة تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين، ونتيجة لهذا القصور، يتحمل العراقيون أعباء مالية باهظة، سواء من خلال شراء الكهرباء من المولدات الأهلية أو اللجوء إلى بدائل مكلفة أخرى في ظل استمرار العجز الحكومي عن إيجاد حلول جذرية.
على الرغم من تعاقب الحكومات العراقية منذ 2003، إلا أنها فشلت في تحقيق أي تطور ملموس في قطاع الكهرباء، حتى في حدوده الدنيا، ففي ظل الحصار الدولي المشدد قبل الغزو، تمكن العراق من توليد نحو 5 آلاف ميغاواط، رغم القيود الصارمة التي شملت قطاع الصناعة والتجارة والصيانة.
أما بعد 2003، ورغم إنفاق أكثر من 100 مليار دولار، لم تستطع الحكومات رفع قدرة التوليد المحلية إلى 20 ألف ميغاواط بشكل مستقل عن واردات الطاقة من الدول الأخرى، مما يعكس عمق الفشل الإداري والفساد المستشري في هذا القطاع الحيوي.
وفي حديثه لـ “نون بوست” يؤكد عبدالله أنه وفقًا للواقع العراقي الراهن، فإنه من المستبعد جدا أن تتمكن أي حكومة قادمة من حل مشكلة الكهرباء في المدى المتوسط، إذ أن التدخلات السياسية وعدم تولي الكفاءات للوزارة ومفاصلها، إضافة للفساد المستشري والبطالة المقنعة داخل هيكل الوزارة الإداري وعدم وجود خطة سنوية وخمسية وعشرية، وعدم وجود أي جهود منطقية لتحديث شبكات النقل والتوزيع، كل ذلك يجعل الوعود التي تعلن سنويا “هواء في شبك”، بحسب وصفه.
تكاليف باهظة
وتُقدَّر النفقات السنوية للعراقيين على شراء الكهرباء من المولدات الأهلية بنحو 0.75 مليار دولار، وهي ظاهرة بدأت بالانتشار منذ عام 1997 خلال فترة الحصار الدولي على البلاد، واستمرت حتى اليوم بسبب العجز المستمر في تلبية احتياجات المواطنين من الكهرباء الوطنية.
ووفق مسح أجراه الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط العراقية، فإنه ولغاية الأول من مارس/ آذار 2023 تنتشر في مختلف المحافظات العراقية قرابة 48.5 ألف مولدة كهربائية تعمل بوقود الديزل، ويعمد العراقيون لشراء عدد معين من الأمبيرات (وحدة قياس التيار الكهربائي) لا يتجاوز 10 أمبيرات على أقصى تقدير بسعر لا يقل عن 10 دولارات شهريًا للأمبير الواحد في أفضل الأحوال، وهو ما لا يكفي إلا لتشغيل الأجهزة المنزلية الرئيسية دون أجهزة التبريد والتكييف.
ولا تقتصر الخسائر على الجوانب المالية فقط، إذ تشير البيانات إلى أن هناك نحو 48 ألف مولدة ديزل تعمل على توليد الكهرباء في العراق، وتساهم بشكل كبير في تلوث الهواء من خلال انبعاثات عشرات الآلاف من الأطنان من الغازات السامة.
هذا التلوث البيئي يضاعف من معاناة السكان، حيث يساهم في تفشي الأمراض التنفسية وغيرها من المشاكل الصحية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المولدات تُسهم في التلوث السمعي والبصري على الطرقات العامة، حيث تعتمد المنازل والمحال التجارية على هذه المولدات بشكل شبه كامل خلال فترات انقطاع التيار الكهربائي الحكومي.
ويبدو أن أزمة نقص الطاقة الكهربائية في العراق ستظل مستمرة لفترة طويلة، بفعل التدخلات السياسية والاقتصادية التي تعيق إيجاد حلول فعالة. إذ يحقق أصحاب المولدات الأهلية أرباحاً ضخمة في ظل استمرار أزمة الكهرباء، حيث يمتلك الآلاف من هذه المولدات شخصيات نافذة في الحكومة، مما يعزز التواطؤ بين القطاعين الحكومي والخاص.
وفي الوقت ذاته، تحقق إيران أرباحاً كبيرة من خلال تصدير الكهرباء إلى العراق، مما يعمق تبعية البلاد لمصادر الطاقة الخارجية ويزيد من تعقيد الأزمة الداخلية.
توقعات أزمة الكهرباء في العراق في الصيف القادم تبدو واقعية جدًا في ظل تطورات الأوضاع السياسية والاقتصادية، فالعقوبات الأمريكية على إيران قد تُصعِّب على بغداد إمكانية استيراد الغاز والكهرباء الإيراني، وهو ما يزيد من الضغط على القطاع الكهربائي الذي يعاني أصلًا من نقص حاد في القدرة الإنتاجية.
في الوقت نفسه، التحديات التي تواجهها الحكومة العراقية في إيجاد بدائل فعّالة، مثل استيراد الغاز القطري، تشير إلى أن الحلول الجذرية لن تكون سريعة أو سهلة، إضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد على الغاز المحلي المصاحب لاستخراج النفط، والذي لن يكون متاحًا بالشكل الكافي قبل عام 2028، يعني أن العراق سيظل يعتمد على الحلول المؤقتة التي تؤدي إلى زيادة التوترات الاجتماعية. هذا الوضع قد يؤدي إلى تصاعد المظاهرات والاحتجاجات الشعبية، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة في الصيف، مما يفاقم معاناة المواطنين.