جلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العلن أحد المواضيع التي لم تكن حاضرة بشكل واضح على أجندة متابعي السياسة التركية وهو موضوع المشروع النووي التركي، حيث قال قبل أيام في كلمة ألقاها بمنتدى في مدينة سيواس التركية: “بعض الدول المتقدمة تمتلك العديد من الرؤوس النووية”، مشيرًا إلى أنه “التقى أحد الرؤساء وأخبره بأن بلاده تمتلك 7500 رأس نووي”، مؤكدًا أن الولايات المتحدة وروسيا تمتلكان عشرات الآلاف من الصواريخ النووية، متسائلاً: “لماذا لا نمتلكها؟”.
ليس معلومًا بعد هل يندرج ما تحدث به أردوغان في إطار اعتراضي على النظام العالمي الذي يسمح لدول بامتلاك السلاح النووي ولا يسمح بالمقابل للدول الأخرى أم يأتي في سياق إرادة تركية لامتلاك القدرة النووية؟ وهل قامت بالفعل بعمل شيء ما في هذا الإطار؟
في هذا السياق ذكر برهان الدين ضوران رئيس مركز سيتا في مقاله بصحيفة صباح بأن كلام أردوغان يأتي قبل حديثه في اجتماع الأمم المتحدة القادم هذا الشهر، وبالتالي يجب تقييمه على المعنى الرمزي في إطار حديثه الدائم أن العالم أكبر من 5 والنظام الحاليّ يحمل الكثير من القواعد الظالمة في التعامل مع عدد من الدول.
من المعلوم أن فتح هذا الموضوع يثير غضب المجتمع الدولي ويعد تحديًا له خاصة في ظل توقيع تركيا على معاهدة الحد من الانتشار النووي منذ عام 1980
أما الدكتور أحمد أويصال رئيس مركز أورسام فقد قال في حديث له مع سبوتنيك الروسية، إن حديث الرئيس التركي يحمل الطابع السياسي، وتركيا لا تسعى لتنفيذ مثل هذه الخطوة، مضيفًا “أردوغان أشار إلى مسألة توازن القوى، خاصة في ظل امتلاك بعض الدول للأسلحة النووية في المنطقة”. موضحا أنه في حال حاجة تركيا إلى الأسلحة النووية يمكن أن تشتريها، لكنها لا تسعى لتصنيعها، بينما يمكن أن تتجه إلى إنتاج الطاقة النووية خلال السنوات المقبلة.
من المعلوم أن فتح هذا الموضوع يثير غضب المجتمع الدولي ويعد تحديًا له خاصة في ظل توقيع تركيا على معاهدة الحد من الانتشار النووي منذ عام 1980، لكن هذا التصريح يأتي منسجمًا مع التطورات الإقليمية والدولية أيضًا خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران وفي ظل امتلاك “إسرائيل” الغامض للأسلحة النووية واستعداد دول مثل السعودية والإمارات لامتلاك مشاريعها الخاصة، وقد أشار أردوغان صراحة إلى هذا الأمر بقوله: “إسرائيل القريبة من حدودنا، لديها صواريخ نووية، نعم وهي تثير الخوف بها”، مضيفًا “الآن، نحن نواصل العمل”، “إسرائيل على مقربة منا وكأننا جيران، إنها تخيف (الدول الأخرى) بامتلاكها لهذه الأسلحة. لا يمكن لأحد أن يمسها”.
في الماضي استفادت تركيا من المظلة الغربية النووية، ففي فترة الحرب الباردة وتحديدًا في أكتوبر عام 1962 اندلعت أزمة الصواريخ الكوبية، حيث تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إلى مستوى غير مسبوق بسبب نشر الاتحاد السوفيتي صواريخ إستراتيجية في كوبا بعد نشر الولايات المتحدة 15 صاروخًا نوويًا في تركيا وغيرها في إيطاليا، وهو ما أشعل أزمة كادت أن تؤدي لحرب نووية بين القطبين.
وبعد أن وصل التوتر إلى ذروته ونتيجة مفاوضات سرية توصل القطبان لاتفاق لنزع فتيل الأزمة تمثل في سحب الاتحاد السوفيتي صواريخه الإستراتيجية من كوبا مقابل أن تسحب الولايات المتحدة الأمريكية الصواريخ الإستراتيجية التي نشرتها في الأراضي التركية.
هناك تنافس كبير على التسلح في الشرق الأوسط وتبدو إيران عازمة على امتلاك صواريخ نووية، وفي ظل التنافس الهادئ بين تركيا وإيران فإنه من المنطقي ألا تبقى تركيا صامتة
تعلم الأتراك من أزمة الصواريخ الكوبية تحديدًا درسًا مهمًا وهو أن الأمريكان مستعدون للتخلي عن تركيا، حيث تم سحب صواريخ جوبيتر النووية الأمريكية من تركيا بشكل سري ودون إبلاغ أو استشارة الجانب التركي مما عرض الموقف التركي للانكشاف، وبعد ذلك تم تعديل الاتفاق ليكون القرار بشأن الصواريخ النووية الموجودة في تركيا قرارًا مشتركًا بين الجانبين مع أن الوحدات المشرفة عليه مباشرة هي وحدات أمريكية.
بعد ذلك استفادت تركيا أيضًا من وجود 90 رأسًا نوويًا من طراز “بي 61” تم نشرها في تركيا ضمن قوة الحلف الأطلسي، ولكن حتى مع بقاء هذه الصواريخ في قاعدة أنجرليك التركية فإن العلاقة مع الحلف في مهب الريح، فقد سحبت دول الناتو في وقت من الأوقات المنظومة الدفاعية من تركيا في أغسطس 2015 أي قبل شهر من التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، وهو مما وضع الكثير من علامات الاستفهام عن العلاقة، ولعل هذا كان دافعًا من الدوافع الأساسية لبحث تركيا عن منظومتها الدفاعية سواء من الصين أم من روسيا بعد رفض الولايات المتحدة بيعها منظومة باتريوت.
هناك تنافس كبير على التسلح في الشرق الأوسط وتبدو إيران عازمة على امتلاك صواريخ نووية، وفي ظل التنافس الهادئ بين تركيا وإيران، فإنه من المنطقي ألا تبقى تركيا صامتة، ومع وجود دول مستعدة لبيع الرؤوس النووية مثل روسيا والصين فإن تركيا لديها محفزات أولية على الخوض في هذا الأمر، وقد أبدى أردوغان تحفظًا على منع بعض الدول النووية وضغطها على تركيا من أجل ألا تمتلك الأخيرة سلاحًا نوويًا، حيث أشار أردوغان أن هذا أمر غير مقبول.
يبدو الحديث عن مشروع نووي تركي أمرًا غير متحقق في المدى القريب ولكن هي رسائل يوجهها أردوغان على الأغلب للولايات المتحدة والمنظومة الغربية مفادها لا تدفعوا بنا نحو هذا المسار
إن هذا الحديث يخدم شعبية الرئيس أردوغان ويظهره دائمًا – كما أراد – بطلاً قوميًا يحرص على مزيد من القوة لتركيا، مما سيفيده أيضًا على مستوى التنافس الداخلي، لكن الأمر فيما يبدو أكبر من موضوع الشعبية على أهميته، كما أن الفترة التي ذكر فيها أردوغان هذا التصريح لم تكن فترة انتخابات إلا إذا اعتبر هذا الأمر مؤشرًا على انتخابات مبكرة، ولكن على كل الأحوال ما زالت لا تلوح في الأفق مع أن كل الاحتمالات واردة مع التغير الذي تعيشه تركيا على المستوى الداخلي والخارجي.
ولكن هل من المنطقي أن تركيا التي تتعرض لعقوبات بسبب منظومة إس 400 ستكون آمنة من عقوبات مع مشروع نووي أو الحصول على سلاح نووي في ظل شهادتها ومعايشتها لما تعيشه إيران من تدهور اقتصادي بسبب الضغط عليها في سياق إنهاء المشروع النووي الإيراني.
في الحقيقة يبدو الحديث عن مشروع نووي تركي أمرًا غير متحقق في المدى القريب ولكن هي رسائل يوجهها أردوغان على الأغلب للولايات المتحدة والمنظومة الغربية مفادها لا تدفعوا بنا نحو هذا المسار من خلال إخراج تركيا من برنامج إف 35 بعد أن قدمت الدفعات المالية المطلوبة منها وساهمت في تطوير أجزاء من الطائرة ومن خلال تطبيق عقوبات جاستا الذي تلوح به واشنطن ضد تركيا ومن خلال الخلاف المستمر بشأن مستقبل مناطق شرق الفرات وملفات أخرى.
ولكن إرسال هذه الرسالة لا يعني العكس، فتركيا لديها طموحات أن تكون القوة الإقليمية المهيمنة وهي تعمل على مراكمة قوتها الخاصة سواء البرية أم البحرية أم حتى الجوية، والمتابع لقطاع التصنيع العسكري يشاهد هذا التطور بعد الاعتماد على القوة الناعمة لقرابة عقد كامل، وفي هذا السياق فإن وجود أي دولة في المنطقة لديها سلاح نووي أو خطوات في هذا المجال سيجعل الدول الأخرى تقوم بخطوات كرد فعل لتحقيق التوازن معها في سياق نظرية توازن القوى الشهيرة في حقل العلاقات الدولية.