رغم مرور أكثر من شهرين على سقوط نظام الأسد، لا تزال عمليات تجارة الكبتاغون مستمرة في سوريا، فقد تمكنت وزارة الداخلية في الحكومة السورية المؤقتة من ضبط عشرات المصانع والمستودعات في مختلف المحافظات خلال الأسابيع الأخيرة، كما أحبطت شحنات كانت موجهة للتهريب إلى دول عربية وأجنبية.
وتواصل الوزارة جهودها لتفكيك شبكة تجارة وتصنيع المواد المخدرة التي كانت تمثل أحد مصادر التمويل الرئيسية لميليشيات النظام السابق، كانت تجارة الكبتاغون أحد وسائل النظام للبقاء في السلطة، من خلال استغلال معاناة الشعب السوري ودفع المجتمع العربي والدولي لفك عزلته السياسية.
تكشف هذه الجهود عن مدى تغلغل صناعة المخدرات في سوريا، حيث تدير شبكات مقربة من عائلة الأسد عمليات التصنيع على امتداد الجغرافيا السورية. ورغم أن هذه الشبكات كانت جزءًا من تمويل النظام السابق، فإن هذه الأزمة تمثل فرصة أمام الإدارة السورية الجديدة لإثبات جديتها في معالجة هذا الملف الشائك الذي شكل تهديدًا مستمرًا لسوريا وجيرانها.
تركة الكبتاغون
قبل الثورة السورية كانت تجارة المواد المخدرة قائمة على نشاطات فردية تجارية بحتة؛ لكن بعد عام 2011 ازداد نشاطها في سوريا، لتصبح إحدى وسائل النظام في ضرب الحاضنة الشعبية للثورة من خلال توفير الغطاء المناسب لتجارة وتعاطي المخدرات في المناطق التي تشهد احتجاجات مناهضة لنظامه.
ومع التصعيد العسكري ضد مناطق المعارضة نشطت عمليات ترويج ممنهجة تمتهنها شبكات مقربة من الأجهزة الأمنية، تهدف إلى تفكيك المجتمعات وزيادة أعمال العنف والجرائم في المناطق الخارجة عن سيطرته، في محاولة منه لتصدير روايته الإعلامية التي كان يتبناها.
إلا أن تهاوي القطاع الاقتصادي وتدمير البنى التحتية الصناعية والتجارية، والعقوبات الأمريكية والأجنبية المفروضة عليه جعلته عاجزًا عن تمويل آلته الإجرامية ضد السوريين، ما دفعه إلى اتخاذ أساليب جديدة توفر مدخولات مالية للميليشيات الإيرانية وميليشيا حزب الله اللبناني، والميليشيات المحلية عبر منحهم غطاءً أمنيًا للعمل في صناعة وتجارة المواد المخدرة، لتكون إحدى أبرز مصادر التمويل.
وشكلت الفرقة الرابعة التابعة لجيش النظام السابق، المقربة من إيران، ويترأسها ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع، بشار الأسد، إحدى أبرز الجهات التي عملت على تصنيع وتجارة المواد المخدرة في سوريا.
وأخذت عمليات تصنيع وتجارة المواد المخدرة بين عامي 2018 و2019 طابعًا سياسيًا واضحًا ضمن منظومة متكاملة تزامنًا مع هدوء المعارك العسكرية وسط وجنوب سوريا بعد عمليات تسوية رعتها روسية بين النظام السابق وفصائل من المعارضة السورية.
وتنوعت عمليات تهريب المواد المخدرة التي كان يصدرها النظام السابق ضمن الخضروات والفواكه، وألعاب الأطفال، والمواد الغذائية، وأثاث المنازل، ومعجون الطماطم، وحبوب الزيتون، والمواد المصنعة من البلاستيك، الأنابيب، والرخام.
وتعد الأردن الذي تربطه حدود برية مع سوريا بمسافة 375 كيلومترًا إحدى أبرز الدول المتضررة من عمليات تهريب الكبتاغون التي تمر ترانزيت عبر أراضيه إلى الدول الخليجية، أبرزها المملكة العربية السعودية التي أحبطت عددًا من عمليات التهريب.
تمثل الحدود السورية اللبنانية خطًا موازيًا لعمليات التهريب، حيث تمتد الحدود البرية بين البلدين على مسافة 375 كيلومترًا، وتُعزز هذه العمليات علاقات مشتركة بين حزب الله اللبناني والنظام السوري السابق. كما أن العراق، الذي تربطه بسوريا حدود برية تمتد على 599 كيلومترًا، لم يكن بمعزل عن كونه بلدًا مستوردًا ومستهلكًا للمواد المخدرة القادمة من سوريا وإيران على حد سواء.
وذكرت بيانات الحكومة البريطانية، أن سوريا كانت تنتج قرابة 80% من الإنتاج العالمي من حبوب الكبتاغون، بينما اعتبر البنك الدولي، أن سوريا أصبحت موطنًا منتجًا مصدرًا رئيسيًا للكبتاغون حول العالم وتصنف كمركز إقليمي لهذه الصناعة التي تصل قيمتها السوقية إلى حوالي 5.6 مليار دولار سنويًا، فيما تستفيد الجهات المقربة من النظام السابق 1.8 مليار دولارًا سنويًا.
كما كشفت مديرة مشروع تجارة الكبتاغون في معهد نيولاينز للأبحاث، كارولين روز، أن قيمة التجارة العالمية للكبتاغون تقدر بنحو 10 مليارت دولار أمريكي، بينما كانت تصل الأرباح السنوية لقيادة النظام السابق في سوريا نحو 2.4 مليار دولارًا أمريكيًا.
تفكيك الكبتاغون
رغم هدوء وتيرة عمليات تهريب المواد المخدرة عبر الحدود خلال الأسابيع الأولى التي أعقبت سقوط النظام السابق، إلا أنها عادت مجددًا مطلع عام 2025 حيث نشطت عمليات تهريب جديدة بعدما أعلنت السلطات الأردنية إحباط محاولتي تهريب للمواد المخدرة بعد اشتباكات مسلحة بين قوات حرس الحدود الأردني، ما أدى إلى مقتل مهربين وإصابة أخر من الجيش الأردني.
تتبع موقع “نون بوست” نشاط وزارة الداخلية في حكومة تصريف الأعمال السورية في مكافحة المخدرات، بالاعتماد على المصادر المفتوحة والمعرفات الرسمية، إذ أظهرت عمليات المكافحة تنوع واضح في الاستجابة لعمليات التجارة والترويج الداخلي وضبط مراكز التصنيع والتخزين والتغليف وصولًا إلى إحباط عمليات التهريب عبر الحدود منذ مطلع عام 2025.
وداهم جهاز الأمن العام التابع لوزارة الداخلية، مخازن تحتوي على كميات ضخمة من حبوب الكبتاغون ومصانع لإنتاج المواد المخدرة والحبوب في محافظات سورية متفرقة، تعتمد عمليات التهريب على تعبئتها في ألعاب الأطفال، والقطع الإلكترونية، والأبواب والفاكهة، وأثاث المنازل، والأراجيل، وحجر الرخام.
وضبط جهاز الأمن العام 7 عمليات ترويج وتجارة للمواد المخدرة داخليًا في محافظات سورية متفرقة، بينما ضبطت أكثر من 8 مراكز مخصصة لتصنيع وتخزين وتغليف المواد المخدرة في اللاذقية، طرطوس، درعا، دمشق، ريف دمشق، حمص.
وأحبطت عملية تهريب 100 مليون حبة كبتاغون إضافة إلى مادة البودرة المخدرة المعبأة داخل ألعاب أطفال كانت مجهزة للتهريب عبر مرفأ اللاذقية إلى دول عربية وأجنبية، حيث وجدت ضمن مستودعات قرب المرفأ تعود ملكيتها لشقيق الرئيس المخلوع، ماهر الأسد، حسب وزارة الداخلية.
كما أحبطت شحنة مخدرات كانت متجهة إلى الأردن في 27 يناير/كانون الثاني الماضي، كانت معدة للتهريب عبر معبر نصيب – جابر الحدودي بين سوريا والأردن، مغلفة في علب بسكويت ومواد غذائية، كما ضبطت شحنة مخدرات كانت مجهزة للتهريب في العاصمة دمشق.
وأكد مدير المركز السوري لمحاربة المخدرات، حسن جنيد، أن سقوط النظام، لا يعني انتهاء عمليات تصنيع وتهريب المواد المخدرة من سوريا، لأن النظام رسخ منظومة متكاملة لهذه التجارة داخل وخارج مناطق سيطرته، مثل مناطق شمال غربي سوريا، وشمال شرقي سوريا، ما يثبت أن شبكات النظام تجاوزت الحدود في تهريب وتجارة المخدرات لتشمل مناطق واسعة من البلاد.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: إن “المعامل والمستودعات التي ضبطتها السلطات السورية لا تشكل سوى جزء بسيط من شبكات النظام السابق وشركائه مما يستوجب استمرار العمل على كشف جميع الجهات المتورطة واتخاذ الاجراءات اللازمة بحقها”.
وأضاف، أن تفكيك منظومة الكبتاغون تتطلب تكاتفًا محليًا ودوليًا، لملاحقة الشبكات المسؤولة عن التجارة المدمرة والعمل المستمر على ملاحقة الشبكات المسؤولة عن هذه التجارة.
أهمية مكافحة المخدرات سوريًا
تشكل الجهود التي تبذلها الإدارة السورية الجديدة في تفكيك منظومة الكبتاغون واحدة من الخطوات التي لا تقل أهمية عن أي جهود تسهم في الاستقرار الأمني على الجغرافيا السورية بعدما تحولت صناعة وتجارة المخدرات في عهد النظام البائد إلى أداة لتمويل الميليشيات، وحاليًا تعد أساسًا لتمويل الفلول الهاربة لشن هجمات ضد الدولة السورية.
كما تزداد أهمية عمليات مكافحة المخدرات في منع وصولها إلى مختلف الفئات العمرية ما يساهم في تقليل معدلات الجريمة، ويقلل فرص انهيار البنية الاجتماعية، ويسهم في إحلال السلم الأهلي، وعدم زعزعة الأمن والاستقرار ومنع تفكك النسيج الاجتماعي.
ويرى جنيد، أن المخدرات أداة لتمزيق المجتمع وإضعاف قدرته على النهوض من جديد، كونه يؤدي إلى تدمير الطاقات الشابة التي من المفترض أن تكون عماد إعادة الإعمار وبناء مستقبل سوريا، إضافةً إلى دوره في زيادة معدلات العنف والجرائم المنظمة ما يهدد محاولات إرساء الاستقرار.
ويضيف، أن مكافحة المخدرات تساهم في تحقيق السلم الأهلي، وتمنع خلق بيئة فوضوية قائمة على الجرائم والعنف الاجتماعي، وتخفض نسبة الجرائم مما يعزز الاستقرار في البلاد وتزيد قدرة المجتمعات على المشاركة في بناء دولة القانون والمؤسسات.
واعتبر جنيد أن محاربة المخدرات ستؤدي إلى تحسن ملموس في الوضع الاجتماعي والصحي والاقتصادي، مما يحد من الفوضى، ويخفف من الضغوطات النفسية التي يعاني منها أفراد المجتمع.
أهمية مكافحة المخدرات إقليميًا
لم تكن صناعة وتجارة المخدرات موردًا اقتصاديًا فقط لدى النظام السابق، بل كانت أداة مهمة في الضغط على البلدان العربية بهدف فك العزلة عن نظامه بعد قطيعة استمرت لسنوات نتيجة ارتكابه فظائع بحق السوريين، ما أدى خلال عامي 2023 و2024 إلى تطبيع العلاقات العربية مقابل تفكيك منظومة الكبتاغون، إلا أن النظام لم يبد أي جدية في التعاطي مع الملف.
ويرى الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أسامة الشيخ علي، أن النظام السابق لم يكن لديه القدرة أو الإرادة في مكافحة المخدرات، وبالتالي أصبحت تجارة وتصنيع الكبتاغون سببًا في تطبيع علاقات البلدان العربية مع النظام السابق بهدف مكافحتها إلا أن استجابته لمكافحة الملف الشائك كانت ضعيفة للغاية، لذلك تعد مسؤولية تفكيك تركة المخدرات على عاتق الحكومة السورية الجديدة خطوة مهمة في استعادة مكانتها العربية والإقليمية.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: إن “الإدارة السورية تمتلك الإرادة الحقيقية لمكافحة المخدرات، بهدف حماية الشعب السوري أولًا، ومنع أن تكون سوريا مركزًا لتصنيع وتجارة المخدرات في الشرق الأوسط ثانيًا، مما ينعكس بشكل إيجابي على العلاقات السورية مع البلدان العربية والأجنبية”.
وأضاف، أن جدية الإدارة السورية في مكافحة المخدرات تساهم في عودة سوريا إلى مقعدها ضمن المنظمات العربية والإقليمية والمنظمات الدولية لتشارك في الاستقرار الاقليمي باعتباره أحد أبرز المطالب الدولية في الفترة الراهنة.
ويتفق الباحث في مركز الحوار السوري، أحمد القربي، مع الشيخ علي، في قوله: “إن معالجة الإدارة السورية لملف الكبتاغون يساهم في تشريع وجودها على المستوى الإقليمي والدولي، كما أنه محاولة لتكون جزء من المنظومة الأمنية الإقليمية بغية تحقيق الاستقرار في المنطقة”.
وأوضح، أن الأهداف الأساسية للإدارة السورية الجديدة لشرعنة وجودها خارجيًا تنطلق من الملف الأمني، الذي ينقسم إلى شقين، الأول أن تكون سوريا غير مصدرة للإرهاب والتطرف، والثاني، أن تكون غير مصدرة للكبتاغون والمواد المخدرة، بمعنى أن تكون سوريا غير مهددة لدول الجوار.
ختامًا.. تعتبر تركة الكبتاغون من أبرز التحديات التي تواجه الإدارة السورية على المستوى الداخلي والخارجي، بعدما انتشرت بشكل واسع بين المجتمع السوري حتى باتت مسألة تفكيكها معقدة للغاية لذلك لا بد من جعلها مسؤولية جماعية تتطلب تضافر جهود الجهات الفاعلة من مؤسسات رسمية، للعمل على تجفيف منابع التهريب والتصنيع والترويج ومنظمات مجتمع المدني، لتعزيز حملات التوعية، وتوفير برامج العلاج والتأهيل للمدمنين.