“من خبر إلى أثر” إنها المقولة التي تصف معرفتنا بالتاريخ الإسلامي في الصين. نكاد نسمع عنه، نعرف بدايته، وما يُروى لنا مجرد حكايات أقرب إلى حكايات الجدات، وتلك هي المشكلة، مشكلة فقد هذا الجزء من تاريخنا في وسط أضخم وأغرب محيط عرفه التاريخ.
عندما نتحدث عن الصين، ما الذي يأتي إلى أذهاننا؟ إنها تلك الحضارة الأسطورية التي تبدو أقرب إلى الخيال، غير حقيقية أو ملموسة، موجودة وصامدة منذ الأزل، لكن ما تغافلنا عنه، ما لم نعرفه حقًا هو حقيقة وصول الإسلام إلى هناك، واختراقه لتلك الحضارة وبناء حضارة إسلامية تتآلف مع الحضارة الصينية.
من لديه معرفة بدول جنوب شرق آسيا والصين على وجه التحديد سيعلم مدى انغلاق تلك الحضارات، عدم ترحيبها بالغرباء، فعندما يبتسم في وجهك رجل صيني فهو لا يبتسم لك لأنه يتصرف بذوق، أو لأنه يرحب بك بشكل ما.. إن تلك الابتسامة جزء من شخصية الرجل الصيني الذي لن تستطيع سبر أغواره، وهذا بالطبع جزء من سحر الصين، وكما يقول الباحث الألماني الكونت كيسرلنج: “الرجل الصيني هو أعمق رجل في العالم”.
لقد شكلت التجارة جزءًا كبيرًا من علاقة العرب بالصين، وكانت المفتاح لذلك الاختراق، فما الذي فعله العرب بالضبط؟
ماذا نقل العرب إلى الصين؟
الأعشاب الطبية واللبان والصندل الأحمر، إنها بعض البضائع التي انتقلت من مصر والدول العربية الأخرى عن طريق التجار العرب المسلمين إلى الصين، في المقابل نقلت الصين إلينا الخزف الذي وصل إلى مصر في عهد أحمد بن طولون، كذلك الشاي والحرير وصناعة الورق والبارود وغيرها. لكن العلاقات بين العرب والصين تعود إلى أقدم من ذلك، ربما إلى المراسلات بين إمبراطور الصين والخليفة عثمان بن عفان.
هل نقل العرب إلى الصين البضائع فقط؟
مع نقل البضائع نقل العرب أيضًا علوم الطب والفلك والرياضيات، وقد أثر ذلك على اللغة الصينية التي بدأت استخدام الأعشاب الطبية الواردة من بلاد العرب بأسمائها.
أيضًا في عهد أسرة سونغ لمع اسم ابن سيناء، وتُرجمت كُتبه إلى الصينية، فدخلت معها العديد من الألفاظ الطبية العربية، ومضى الطب في الصين على نهج ابن سيناء، وراحوا يستوردون الأدوية التي يصفها ويطورونها.
لذلك لم يكن غريبًا أن تحتفي الصين عام 1952 بذكرى مرور ألف سنة على ميلاد ابن سيناء، تناولت فيه عددًا من الأبحاث التي تتحدث عن سيرته ومسيرته، وكان على رأسها بحث بعنوان “ابن سيناء والطب الصيني”.
الممالك الإسلامية ..أسرة يوان والإسلام (1271- 1368)
كان من الغريب أن تنهض إمبراطورية كبيرة مثل الصين بهذه السرعة بعد تلك الحروب الطاحنة التي سبقت اعتلاء قوبلاي خان عرشها.
لقد استولى عليها جنكيز خان، وكان من قبلها قد سيطر على منغوليا، ثم انطلق نحو الصين لينتشر في الصين والصين الهندية وكوريا وبعض الدول المجاورة، وبعد ذلك الدمار الذي ألحقه جنكيز خان بإمبراطورية الصين جاء من بعده حفيده قوبلاي خان الذي نشأ بالصين وأحبها، وتشرب ثقافتها ليطيح بأسرة سونغ ويصبح حاكمها، وقد بلغت في عهده إمبراطورية المغول أقصى اتساعها.
في تلك الفترة كان الأتراك قد دخلوا في الإسلام حديثًا، لذلك فتح أبواب الصين أمامهم – وهم المقاتلون الأشداء – قد يحقق هدف مساندة الحكم المغولي
وضع الدين في ذلك الوقت في الصين لم يكن جيدًا، فالمغول مثلاً لم يكن لديهم دينًا حقيقيًا، كانوا يعبدون الشمس، ويسمونها النجم السعيد، ولا يهتمون بالتعددية في الديانة على عكس الأسر التي حكمت قبل ذلك، التي دانت بالبوذية رافعة شعار “لا دين غريب في الصين”، لكن مع وجود المغول واتساع علاقة العرب والصينيين التجارية لم يهتم المغول بأمر الديانات كثيرًا، فقط أرادوا إحداث أكبر قدر من التوازن بداخل الإمبراطورية عن طريق وجود قوى أخرى دخيلة مثلهم تعزز من وجودهم في الصين، وتثبت أقدامهم هناك.
في تلك الفترة كان الأتراك قد دخلوا في الإسلام حديثًا، لذلك فتح أبواب الصين أمامهم – وهم المقاتلون الأشداء – قد يحقق هدف مساندة الحكم المغولي.
على كل حال هذا التغيير الذي شهدته الصين في عهد أسرة يوان فتح أبواب الصين أمام المسلمين والإسلام، كذلك استمرار الغزو المغولي للعالم العربي، وتجنيد العديد من الجنود المسلمين من كل الدول الذين يمرون عليها كان من أهم أسباب نشر الإسلام.
هل كان قوبلاي خان مرحبًا حقًا بالمسلمين؟
في بداية حكم قوبلاي خان كان منقلبًا ضد المسلمين، بسبب بعض الوشايات التي كان صاحبها ابن أخيه الذي يكن العداء للمسلمين، وذلك لكونه أيضًا ابن هولاكو الذي أطاح بالدولة العباسية.
تذكر دائرة معارف القرن العشرين أن قوبلاي خان قد عين وزيرًا مسلمًا في حكومته بعد ذلك ويُدعى أحمد البناكتي
فعلى هذا الأساس بدأ قوبلاي خان في معاملة المسلمين معاملة جائرة حتى وجدهم يرحلون عن الصين ويستوطنون جزر الهند الشرقية، وقد امتنعوا عن التجارة مع الصين مما أدى إلى تراجع قوبلاي خان عن تلك المعاملة بعد دوامها سبع سنوات، وحاول استرضاءهم فبنى لهم مسجد خان بالق ببكين، الذي يقال إنه يسع 100 ألف مصلٍ.
وتذكر دائرة معارف القرن العشرين أن قوبلاي خان قد عين وزيرًا مسلمًا في حكومته بعد ذلك ويُدعى أحمد البناكتي، ومن بعد ذلك بدأ المسلمون في الاستقرار بالصين وتعلم لغتها وإجادة اختبارات العمل في حكومتها، ومن المسلمين الذين برزوا في عهد أسرة يوان: جمال الدين الفلكي الذي يعود إليه وضع التقويم الجديد واختراع سبعة أجهزة فلكية أهداها إلى الإمبراطور، وسعد الله الشاعر الشهير الذي يطلق عليه الصينيون اسم تيان شي، وغيرهم الكثير.
ما بعد يوان
كان المسلمون قد استقروا في الصين وشكلوا جزءًا من جيشها واستصلحوا جزءًا من أرضها الزراعية، وعلموا بها وأسسوا حياة كاملة، ثم أتت سلالة مينغ التي كانت أكثر ميلًا لسياسة العزلة، مما قطع الاتصال بين مسلمي الصين ومسلمي الأقطار الأخرى، لكن تلك العزلة عززت من اندماج المسلمين في المجتمع أكثر وأكثر، وتزوجوا من الصينيات ونقلوا بعض العادات الإسلامية إلى أهل الصين.
بعد انتهاء عهد مينغ أطل علينا عهد تشينغ الذي أسسته سلالة الـ”مانشو” التي تأسست في شرق منغوليا، لم تكن أوضاع المسلمين فيه أكثر استقرارًا رغم إفرازها لقيادات فكرية رفيعة المستوى
لكن سياسة مينغ رغم اعتزالها، اتسمت بالاعتدال والود أحيانًا أيضًا تجاه المسلمين. وفي تلك الفترة ظهر خوونغ تشو وهو عالم ديني له الفضل في تحويل المساجد إلى مدارس وتعليم الإسلام بها، لهذا لقبوه بـ”أستاذ الأساتذة”.
ومن ناحية أخرى ققد أقام ملوك أسرة مينغ علاقات طيبة مع أمراء المسلمين الذين حكموا دول ومقاطعات غرب الصين، وبعد انتهاء عهد مينغ أطل علينا عهد تشينغ الذي أسسته سلالة الـ”مانشو” التي تأسست في شرق منغوليا، لم تكن أوضاع المسلمين فيه أكثر استقرارًا رغم إفرازها لقيادات فكرية رفيعة المستوى وعلماء متخصصون في علوم القرآن والحديث والفقه، وخلفوا رصيدًا كبيرًا من المؤلفات القيمة التي اندثر معظمها للأسف، لكن هذا لا يجعلنا نغفل أسماء أربعة شيوخ أسسوا للإسلام في الصين بمؤلفاتهم الضخمة وهم:
1- الشيخ “وانغ داي يو” (1560- 1660): أول من كتب عن الدين باللغة الصينية، ومن مؤلفاته: الأجوبة الصحيحة على الدين الحق، وحقيقة الإسلام، وكتب أخرى في التوحيد والفقه وأحكام الدين.
2- الشيخ “ماتشو” (1640- 1711): مؤلف كتاب إرشاد الإسلام في عشرة أجزاء، وطبع مرات عديدة.
3- الشيخ “ليؤتـشه” (1655- 1745): عالم معروف بكثرة مؤلفاته ومنهـا: حقائق الإسلام في ستة أجزاء، وسيرة خاتم الأنبـياء في 20 جزءًا، وأحكام الإسلام في 20 جزءًا.
4- الشيخ “مافو تشو” (1794- 1873): وهو مؤلف مرموق، وفقيه متعمق في علوم الدين، كان يُدرس ويمارس التأليف معًا، ومن مؤلفاته: خلاصة أصول الدين الأربعة، ومقصد الحياة، وتعـريـف روح الإسلام، وأحكـام الدين.
تأسست جمهورية الصين الشعبية، لكنها بدأت على أساس عرقي، وما تبقى من مسلمين في الصين بدأ يُمارس تجاههم نوع جديد من الاضطهاد والتعذيب والتهجير
لكن بعد أربعة سنوات فقط من حكم سلالة الـ”تشينغ” بدأت ثورة المسلمين الدينية التي لا نعرف عنها الكثير، كان هدفها عودة الحرية الدينية لهم من جديد بعد تلك التصادمات التي حدثت بسبب محاولة الدولة لممارسة المزيد من السيطرة المباشرة على المناطق التي يعيش فيها غالبية المسلمين.
في ذلك الوقت ظهرت مظاهرات أخرى في الصين تعترض على وجود ذلك الكم الكبير من المسلمين وانتقالهم لمدن أخرى لم تكن تحت سيطرة الصين بشكل كامل، لكن بالطبع قمعت الحكومة كل هذه الثورات مما أدى إلى رحيل عدد كبير جدًا من مسلمي الصين عن أراضيها.
بعد ذلك تأسست جمهورية الصين الشعبية، لكنها بدأت على أساس عرقي، وما تبقى من مسلمين في الصين بدأ يُمارس تجاههم نوع جديد من الاضطهاد والتعذيب والتهجير، ما زال موجودًا حتى اليوم.