(1)
كان ميخائيل باكونين – العدمي المستنير – قياديًا بارزًا في إحدى أكبر الحركات الثورية المنظمة في روسيا والتي ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر والتي كانت تتبنى رفض كافة أشكال السلطة سواء كانت متعلقة بالدولة أو بالكنيسة أو حتى بالعائلة، فقد كانت الحركة تمقت تمركز السلطة واستغلال الموارد من قبل الأقلية المسيطرة لرأس المال وسعت إلى إقامة نظام جديد أساسه التعاون لا المنافسة.
دعت الحركة إلى إقامة نسق اجتماعي قائم على النزعة العقلانية كمصدر وحيد وأساسي للمعرفة، وإعلاء الحرية الفردية كأسمى هدف في الوجود، وإنكار الجوهر الروحي الإنساني واستبداله بجوهر مادي بالكامل.
كانت العدمية هي السمة الأساسية لهذه الحركة الثورية، والعدمية بمفهومها العام حسب تعريف نيتشة هي “أن كل معتقد وكل شيء يعتبر حقيقة هو زائف بالضرورة لأنه ببساطة ليس هناك عالم حقيقي، وتتطلب العدمية تبرؤ تام من كافة القيم والمعاني المزيفة، العدمية هي ليست فقط أن كل شيء موجود ليس له معنى، إنما أن كل شيء موجود هو لاشيء.
أصبح العدمي هو أي شخص متورط أو مرتبط مع الحركات السياسية السرية التي تدعو إلى الإرهاب والتخريب وتستخدمهما كوسائل لتحقيق أهدافها وتم شيطنة الحركة والقضاء عليها بعد ذلك بالرغم من معتقدات الحريات التي كانت تحملها الحركة في مسارها التي استمرت أكثر من خمسين عامًا إلا أنها تلاشت بعد ذلك بعد أن سقطت في الفتنة والتدمير الذاتي الذي كان أحد أسبابه خلو الأفكار من أي هوية روحية.
(2)
لم يدر في خلده قط أنه سيصبح الحاج “مالك الشباز” يومًا ما بعد أن نشأ في حي هارلم الملئ بكل مفردات العربدة من مخدرات وبغاء بعد طفولة بائسة في ولاية نبراسكا ومقتل والده ودخول أمه إلى مصحة للأمراض العقلية إثر إصابتها بانهيارعصبي حاد نتيجة تراكم الأعباء والمشكلات وانقطاع كافة الإعانات والحقوق المالية لها ولأطفالها الثمانية.
“مالكوم إكس” والذي سجن بعد إحدى عمليات السطو كان مستسلمًا لحياة العبث غير عابئ بأي شيء، تعرف في السجن على العديد من السجناء واللذين كانوا جميعًا يعانون من سلبيات العنصرية على حياتهم وحياة ذويهم، ودارت العديد من النقاشات بينهم عن العنصرية التي عانوا منها لمدة 400 عام ومحاولة إيجاد أفكار للحد من العنصرية مما أتاح له أن يراجع مواقفه في الحياة بشكل عام.
في تلك الأثناء تعرف على بعض الأشخاص في السجن واطلعوه بعد مناقشات متعددة أنهم اعتنقوا دينًا جديدًا، دين للسود قادر على إنقاذهم وعلى إنهاء عصر سيطرة الشيطان الأبيض، لم يكن هذا “الدين” سوى أجزاء مبعثرة من الدين الإسلامي حيث قام رجل ادعى النبوة يدعى “إليجاه محمد” بالدعوة إليه مؤسسًا بذلك جماعة أمة الإسلام في أمريكا.
كان مبدأ ذلك “الدين” بالأساس أن السود هم أصل البشرية وأن البيض ليسوا إلا شياطين تحكم الأرض وأن المسيحية هي دين للبيض، وأن الزنجي تعلم من المسيحية أن يكره نفسه لأنه تعلم منها أن يكره كل ما هو أسود وبذلك تم أدلجة فكرة الحد من العنصرية إلى كيفية تحقيق أيديولوجية جماعة أمة الإسلام للحد من العنصرية.
تحول مالكوم إكس تحولاً جذريًا بعد خروجه من السجن، وأصبح متحدثًا باسم حركة أمة الإسلام وكان ينشر أفكار التفرقة بين الأمريكيين البيض والسود ويُحرض السود على البيض ويغذي أفكار العنصرية لديهم، ولكن بعدما اكتشف أن الأفكار والمبادئ التي كان مقتنعًا بها على يد إليجاه محمد ما هي إلا وسائل للوصول إلى مكاسب شخصية، انفصل عنهم وقد قال في ذلك “لقد قمتُ بالعديد من الأمور التي آسَفُ عليها إلى الآن، لقد كنتُ شخصًا متبلد الإحساس آنذاك، أُوجَّه نحو طريق معين وأسير فيه”.
كانت تلك هي الولادة الثانية لمالكوم إكس بعد التغيرات الفكرية التي حدثت له في السجن، فابتعد عن العنصرية والتفرقة، وبدأ العمل مع دعاة الحقوق المدنية بعدما أدرك القيمة الحقيقية لهوية أفكار المعتقد والتخلي عن أيدولوجيا جماعة أمة الاسلام.
(3)
الفكر الإنساني هو نتاج مجموعة من تحولات الإحساس في صور الإدراك والذاكرة والقدرة على الحكم والتمييز والإرادة، وينتج الفكر نتيجة إعمال العقل في ملاحظة مجريات الحياة وتحليل سلوكيات البشر مما يعطي فرصة أكبر لقراءة الواقع وفقًا لمعطيات ورؤى ناتجة عن التدبر والتأمل بشكل مغاير عن النمط المعتاد من بقية الدوائر الإنسانية مما يتيح إمكانية التنبؤ بما يمكن أن يحدث في المستقبل و التهيئة للتعامل بفعالية أكبر لتحقيق الأهداف المنشودة عن طريق إيصال الفكرة لأكبر شريحة ممكنة من العقول.
هوية الأفكار هي ما يحدد ماهيتها وقيمتها ومدى تأثيرها في المجتمع، وإذا فقدت الأفكار هويتها فتكون بذلك قد فقدت جذورها الآملة في التغيير. ولا بد من التفرقة بين هوية الأفكار وأيدولجيتها، فهوية الأفكار هي الثوابت الفكرية للفرد بما يميزه من معتقد ولغة وتاريخ وثقافة، وأيدولوجية الأفكار هي ربط تلك الثوابت الفكرية بالتوجهات السياسية .
تظل الأفكار حرة ملهمة وجاذبة إلى أن يتم تلجيمها ومحاصرتها في أيديولوجية ذات قالب محدد المعالم، وفي اللحظة التي تفقد الفكرة فيها استقلاليتها عن ماهية هويتها ودخولها في طور الأدلجة فإنها تصبح خادمة للسلطة، أيًا ما كانت تلك السلطة.
يمكنك المقارنة بما حدث في يناير 2011 عندما كانت أفكار كالحرية والعدالة هي المحرك الأساسي للحراك الثوري لأنها أفكار حرة وغير محددة بأي أطر سوى أنها نابعة من هوية مجتمع مكبل بالقيود، وما حدث بعد خلع مبارك من تطويع تلك الأفكار حسب الأيدولوجيات المختلفة مما أدى إلى ظهور أول بودار التفرقة بين الكتل الثورية مع أنها كانت تحمل نفس الهوية.
كان آخر تيار فكري ظهر منذ أكثر من 80 سنة ومنذ ذلك الحين لم يبزغ نجم أي حراك فكري، وما نحن فيه الآن من أهم مسبباته هو احتكام قيادات جماعة هذا التيار الفكري للأيدولوجيا وتطويع الأفكار العامة – المرتبطة بالثورة مثلاُ -على أنها من ركائز أيدولوجياتهم وهذا يعتبر خيانة للأفكار.
أدلجة الأفكار تعتبر خيانة عظمى ولذلك فإن الأفكار تنتقم ممن قام بخيانتها بطرق مختلفة كما ذكر مالك بن نبي، مقتضيات الوقت الراهن بعد كل ما مررنا به خلال الأعوام المنصرمة تستوجب استعادة الأفكار لسلطتها مرة أخرى بحيث تكون قابلة للوصول إلى طبقات شعبية مختلفة عن طريق إغفال الأيدولوجيات – على الأقل من جانب الشباب المنتمين لتلك الأيدولوجيات والناقمين عليها – والتمسك بهويتها الأساسية ومحاولة إعادة صياغتها لإنجاحها مرة أخرى بالوصول إلى قطاعات الشعب المختلفة بأساليب متجددة؛ ولذلك كان أحد الأسباب الرئيسية لإطفاء شعلة حركة ميخائيل باكونين هو عدم وجود هوية للأفكار، وأيضًا خمود حركة أمة الإسلام لإعلاء أيدولوجية أفكارها على هويتها.
الصدمات هي دوافع التغيير وبذلك فإن قيمة إدراك ما وصلنا إليه من مراحل اندثار للحلم تقتضي حتمية نقد الذات من جانب المشاركين لنفس الهوية، ليس فقط على مستوى الجماعات الأيدلوجية والحركات السياسية والكيانات الحزبية المترهلة، ولكن بالأساس على مستوى الفرد على غرار ما فعله مالكوم بعد أن ترك جماعة أمة الإسلام.
وبما أن هناك اتجاه ذو نسق فكري مشترك للعديد من الشباب المنتمين للأيدولوجيات المختلفة فلابد من إظهار هذا النسق – بعيدًا عن الحواجز الأيدولوجية التي تمثل عائقًا في عمل مناقشات جذرية – كأداة لإنشاء تيار فكري جديد.
كلنا الآن يُنظِّر ويحلل مآلات الأمور بدون مراجعة شاملة لما فعلناه بأنفسنا وفي أنفسنا كمسببات للهزيمة النفسية والمعنوية التي نعيشها الآن، البنية المجتمعية الخاضعة لحاكمية العقل الجمعي لا تعي التجربة التاريخية بأي حال من الأحوال؛ وبالتالي ميلاد أي أفكار مغايرة للنسق المأساوي السابق والحالي كنتيجة لنقد الذات أولاً وعمل مناقشات جوهرية ثانيًا سينبثق منها ما لا يمكن أن نعي قدرته على التغيير الآني في ظل حالة عدمية الدهشة التي نعيش فيها، ومن المحتمل ألا نرى أو نعاصرالنتائج ولكن من المؤكد أن تأثيرها سيعطي قبلة الحياة للملحمة مرة أخرى يومًا ما من خلال إدراكنا لسنن الكون بأنه لا يوجد أبدية للظلم ولا خلود للعدل في هذه الحياة.