قبل أسبوع، كانت مصر قد أعلنت عن استضافة قمة عربية طارئة في 27 فبراير/شباط الجاري بالقاهرة، لمناقشة مقترح التهجير العنصري الذي قدمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومحاولة التوصل إلى صيغة عربية توافقية تصلح لاعتمادها كخطة بديلة تضمن إعادة إعمار قطاع غزة مع بقاء الغزيين بداخله دون أي ترحيل، قسري كان أو طوعي.
ورغم تأخير الإعلان عن انعقاد هذه القمة، فضلًا عن ترحيلها لنهاية الشهر الحالي، أي بعد قرابة أكثر من شهر على إعلان الرئيس الأمريكي عن مقترحه، بما لا يتناسب مطلقًا مع حساسية الظرف، وتحديات المرحلة التي كانت تتطلب سرعة رد الفعل واتخاذ موقف موحد في مواجهة هذا المخطط، إلا أن الآمال انعقدت على هذه القمة لصياغة موقف عربي مشترك تجاه ما تشهده المنطقة بأسرها من أحداث متلاحقة.
غير أن هذه القمة – التي يعتبرها البعض أضعف الإيمان – يبدو أنها لن تنعقد في موعدها المحدد، حيث رجح المتحدث باسم الأمين العام لجامعة الدول العربية، جمال رشدي، تأجيلها لبضعة أيام، لأسباب “لوجستية”، نظرًا لاعتبارات تتعلق بجداول أعمال قادة الدول المشاركة، وحرص مصر على مشاركة أكبر عدد ممكن من الدول العربية، فيما أعلنت الخارجية المصرية عن انعقادها في الرابع من مارس/آذار المقبل.
قرار التأجيل، وإن كان خمسة أيام، كان مفاجئًا لكثير من المراقبين للمشهد، الذي لا يحتمل التأخير في ظل تسارع وتيرة الهرولة لتحويل مقترح التهجير من مجرد أفكار إلى خطة ممنهجة تُطبق على الأرض، غير أن آخرين عوّلوا على القمة الخماسية المصغرة التي كان من المفترض أن تُعقد في العاصمة السعودية الرياض لمناقشة آليات مواجهة خطة ترامب، وهي القمة المتوقّع أن تضع اللمسات النهائية للمقترح العربي قبيل اعتماده والتصويت عليه رسميًا خلال قمة القاهرة الطارئة.
لكن المفاجأة هنا أن هذه القمة المصغرة، التي كان يعوّل عليها البعض، أُجلّت هي الأخرى، ورغم أن التأجيل المُعلن يوم واحد فقط، لتوسيع دائرة المشاركة حسبما أُعلن، إلا أن القرار في حد ذاته وما يحمله من دلالات ومؤشرات أثار الكثير من الريبة والشكوك حول مدى جدية العرب في مناهضة مخطط التهجير، الأمر الذي يدفع للتساؤل: لماذا تأجّلت القمة العربية الطارئة بالقاهرة؟ وما هي الأسباب الحقيقية وراء تلك الخطوة رغم خطورة التحديات التي تفرض سباقًا مع الزمن لا يقبل الإرجاء ولو لساعات محدودة؟
أسباب لوجستية.. مبرر غير مُقنع
أرجع نائب الأمين العام لجامعة الدول العربية، حسام زكي، إرجاء موعد القمة الطارئة لاعتبارات تتعلق بجداول قادة الدول المشاركة، لافتًا إلى أن الدافع الرئيسي لأي تأجيل هو حرص القاهرة على حضور أكبر عدد من القادة لضمان نجاح القمة، مشددًا على أن الأسباب ستكون لوجستية بحتة.
وأشار زكي في تصريحات صحفية له إلى أن الهدف الرئيسي من تلك القمة هو صياغة موقف عربي موحد وقوي بشأن القضية الفلسطينية، في ظل رفض مخطط التهجير الذي طُرح من الجانب الإسرائيلي وتبنته الإدارة الأمريكية لاحقًا، منوهًا بأن هناك عدة أفكار مطروحة على طاولة النقاش، أغلبها مصرية، بشأن إعادة الإعمار من خلال القوة العاملة الفلسطينية، وذلك من أجل الاحتفاظ بأبناء القطاع داخله، لإعادة مصادر الرزق لهم جميعًا.
وشدد الدبلوماسي المصري على أن اعتماد الموقف العربي خلال القمة الطارئة – المؤجلة – سيكون بمثابة “فلتر” لتقييم الموقف الأمريكي الفعلي إزاء الوضع في قطاع غزة، وما إذا كان الهدف هو تهجير الفلسطينيين خارج القطاع وإخلاؤه تمامًا تمهيدًا للسيطرة عليه أمريكيًا، أم أن ما يحدث ليس سوى وسيلة ضغط لإعادة التفاوض على الحكم في غزة.
واختتم نائب الأمين العام للجامعة العربية حديثه برفض كافة المقترحات التي قدمها الجانب الإسرائيلي بشأن حكم غزة، والمتأرجحة بين إما إخضاع القطاع للسيطرة الإسرائيلية أو إخلائه من سكانه، مجددًا التأكيد على أن الحل الوحيد يتمحور حول أن الفلسطينيين هم من يحكمون القطاع، وأن الشعب الفلسطيني وحده هو من يحق له أن يختار من يحكم.
الحديث عن التأجيل لأسباب لوجستية بسبب جداول قادة الدول المشاركة حديث غير مُقنع بطبيعة الحال، إذ إن هناك متسعًا كبيرًا من الوقت بين الإعلان عن تلك القمة وموعد انعقادها، وهو المتسع الذي يعطي كافة القادة الأريحية الكاملة لتوفيق جداولهم بما يتناسب مع هذا الموعد، خاصة أن القضية، محور انعقاد القمة، تمس الأمن القومي العربي وتتقاطع مع القضية العروبية الأهم في تاريخ المنطقة، ولا تقبل التأجيل تحت أي ذريعة كانت.
عدم الاتفاق على المقترح النهائي
حالة الارتباك التي تُخيم على مشهدية القمة، التي جُرّدت بطبيعة الحال من صيغتها الطارئة، ما بين الإعلان عن موعدها ثم الإرجاء لأجل غير مسمى، وصولًا إلى التأجيل خمسة أيام، تشي بغياب الرؤية العروبية الموحدة بشأن جدول الأعمال والمخرجات، وعدم اكتمال التصور النهائي حول المقترح المزمع مناقشته والتصويت عليه تمهيدًا لعرضه على الإدارة الأمريكية كبديل لخطة التهجير العنصرية.
وكانت وكالة “رويترز” قد كشفت عن وجود أربعة مقترحات على الأقل تمت صياغتها بالفعل بشأن مستقبل غزة، استنادًا إلى 15 مصدرًا من السعودية ومصر والأردن تحدثت إليهم الوكالة، وأنه من المقرر أن تُعرض تلك المقترحات الأولية خلال قمة الرياض لمناقشتها بشكل مفصل قبل التوصل إلى قرار نهائي بالمقترح النهائي الذي سيتم التوافق عليه.
وأكدت معظم المصادر أن الخطة المصرية ربما تكون الأكثر نضجًا وشمولية، والأقرب عمليًا للتنفيذ على أرض الواقع، تلك الخطة التي كان العاهل الأردني، عبد الله الثاني، قد أشار إليها خلال مؤتمره الصحفي مع الرئيس الأمريكي، الذي عُقد في البيت الأبيض، الثلاثاء 11 شباط/فبراير 2025، وتتمحور حول بعض النقاط، أبرزها: تشكيل لجنة فلسطينية تحت إشراف السلطة الوطنية الفلسطينية تتولى مسؤولية إعادة إعمار القطاع، علاوة على استبعاد حركة حماس وبقية فصائل المقاومة من أي دور في اليوم التالي للحرب، وتولي شركات مصرية إلى جانب شركات أخرى تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، مع إمكانية توفير قوات عربية أو دولية لتأمين عمل تلك الشركات.
ويكشف تأجيل القمتين (المصغرة بالرياض والطارئة بالقاهرة) عن استمرار الجهود والمباحثات المبذولة بين القوى العربية، وعدم التوصل بعد إلى صيغة توافقية بشأن المقترح المتفق عليه، الأمر الذي يُلمّح في نهاية المطاف إلى وجود تباين في الرؤى والمواقف إزاء التصور المقترح.
ومن أبرز التحديات المتوقّع أن تفرض نفسها عند طرح تلك الخطط على طاولة النقاش، الاصطدام مع المقاومة الفلسطينية إذا ما اشتبك أي مقترح يتم التوافق عليه مع لاءاتها المعلنة: رفض تسليم السلاح، رفض مغادرة القطاع، رفض القضاء على البنية العسكرية، رفض التواجد العسكري الأجنبي غير المتفق عليه، وهو التحدي المتوقع أن يلقي بظلاله على الجلسات النقاشية المزمع عقدها حتى موعد انعقاد القمة، والتي تحاول الدبلوماسية العربية التوصل إلى صيغة توافقية بشأنه.
انقسام عربي
رغم أن الهدف المُعلن من انعقاد تلك القمة، سواء في الرياض أو القاهرة، واضح ومكشوف وعلني، ويتمحور حول إعداد خطة بديلة لمقترح ترامب، تتضمن إعادة إعمار قطاع غزة دون تهجير سكانه، وبث مقومات الحياة بداخله مرة أخرى، بعدما حولته آلة التدمير الإسرائيلية إلى أرض محروقة، طاردة لأهلها وغير قابلة للعيش فيها، إلا أنه من الواضح وجود انقسام بشأن هذا الهدف وكيفية تحقيقه.
الموقف المصري الأردني السعودي كان واضحًا ومتناغمًا إلى حد كبير حول رفض ترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة، تحت أي مبرر أو ذريعة، إنسانية كانت أو سياسية أو لوجستية. ويستند هذا الموقف الخاص بالدول الثلاث تحديدًا، بوصفها الأكثر تقاطعًا مع مقترح التهجير، على ثنائية العمل على إعادة الإعمار مع بقاء الغزيين في القطاع.
وتشير تسريبات غير معلنة رسميًا إلى تحفّظ دولة عربية – لم يُذكر اسمها صراحة – على بعض الصياغات المتوقّع تضمينها في المقترح، خاصة تلك المتعلقة برفض التهجير بكافة أشكاله، حيث تتمسّك تلك الدولة بعبارة “رفض التهجير القسري فقط”، لتفتح الباب أمام التهجير الطوعي طالما كانت تلك إرادة سكان القطاع، فيما يتشبّث البقية برفض التهجير بنوعيه، القسري والطوعي.
ويتزامن هذا التحفّظ (الصادر، بحسب تقارير إعلامية، عن الإمارات، إذ أكدته العديد من الشواهد الأخيرة، أبرزها تصريحات السفير الإماراتي لدى واشنطن يوسف العتيبة) مع ما أعلنه وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بشأن إنشاء إدارة خاصة لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة طواعية، على أن تكون مهمة تلك الإدارة تسهيل كافة الإجراءات أمام الغزيين الراغبين في الخروج إلى بلد آخر، مع تقديم المغريات لحثهم على المغادرة، وبالتالي قتل كل أمل في أن يكون للقطاع مستقبل، وفرض حالة من اليأس على سكانه بعد تحويله إلى أرض طاردة.
وأثار هذا التزامن جدلًا واسعًا لدى الشارع العربي، كونهما يلتقيان عند نقطة مشتركة تتقاطع بشكل كبير مع مقترح ترامب ورغبته في دفع الغزيين للهجرة طواعية عبر تقديم المغريات المعيشية لهم، بعدما أفقدهم الأمل في وجود أي حياة داخل القطاع، الذي حوّلته إسرائيل إلى أرض محروقة غير قابلة لأي شكل من أشكال العيش والبقاء.
ضغوط أمريكية
تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا لا تتوقف على الدبلوماسية العربية لإنهاء هذا الملف في أسرع وقت، وذلك بعدما ألقى ترامب كرة اللهب المشتعلة في المنطقة العربية بمقترحه العنصري، الذي فجّره في وجه الجميع، مطالبًا إياهم بحلحلة الأزمة والتوصل إلى صيغة مُرضية لإسرائيل، وإن كانت بأيادٍ عربية خالصة.
وتتواصل الاتصالات المتبادلة بين وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، الذي يزور السعودية حاليًا – بعد زيارته لـ”إسرائيل” – في جولة هي الأولى له منذ توليه المسؤولية الشهر الماضي، ووزراء الخارجية العرب، لبحث مقترح ترامب المرفوض عربيًا، ومحاولة تقديم مقترح بديل يحقق الأهداف المرجوة، وعلى رأسها إزاحة حماس عن حكم غزة، وهو الحلم الذي لم يحققه الكيان المحتل بالقوة العسكرية على مدار أكثر من 470 يومًا من القتال الوحشي.
ويحاول الزعماء العرب الوقوف على مقترح مشترك يُجهض فكرة التهجير، وفي نفس الوقت يُرضي ترامب وإدارته من جانب، ولا يصطدم مع الكيان الإسرائيلي من جانب آخر. مقترح توافقي يُجبر العرب على ممارسة المزيد من الضغوط على المقاومة لتقديم تنازلات إضافية تحفظ ماء وجه نتنياهو وجنرالاته، وتحافظ على الائتلاف الحكومي، وتحقق الحد الأدنى من أهداف الحرب التي فشل جيش الاحتلال في تحقيقها طيلة 15 شهرًا.
وتبقى الأيام القادمة حتى الرابع من مارس/آذار المقبل – ما لم تُؤجَّل القمة مرة أخرى – ساحة مفتوحة لكافة الاحتمالات: ارتباك وفقدان توازن وانقسام في الرؤى بين الأطياف العربية المختلفة، تصعيد للضغوط الأمريكية على الحكومات العربية لتقديم مقترح يُرضي إسرائيل وحليفها، في مقابل المواءمة بما يُجنب الصدام مع المقاومة.. فهل ينجح المشاركون في قمتي الرياض والقاهرة في تحقيق التوازن إزاء تلك المعادلة؟