طوال تاريخها كانت أعمال الجاسوسية الدرامية تجذب الجمهور، فمنذ اللقطة الأولى من العمل ينصب المخرج شراكه للجمهور ويقحمه في الحكاية حتى يقع أسيرًا لها، فيما بعد تأتي عملية السيطرة الكاملة على المشاهدين وذلك عبر المزج الذكي بين البناء المقنع والمتماسك والمشوق وإتقان مرحلة التنفيذ من خلال العناية الكاملة بالتفاصيل، ولعل هذا الأمر ما يفسر لنا نجاح أفلام مثل “المهمة المستحيلة” و”جيمس بوند” وغيرها، لكن في الآونة الأخيرة أُطلق عدد من الأعمال الفنية هدفها تخليد جواسيس حقيقيين عملوا لصالح الموساد الإسرائيلي، وهذه المرة كان: إيلي كوهين.
بعد فيلم “الملاك” الذي أطلقته شبكة نتفليكس خلال عام 2018 الذي يروي قصة الجاسوس المصري أشرف مروان رجل الأعمال وزوج ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، عادت نتفليكس هذا العام من خلال مسلسل “الجاسوس” الذي بدأ عرضه في 6 من سبتمبر 2019 وامتد على مدار 6 حلقات تناول خلالها سيرة حياة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين.
إيلي كوهين من مدينة الإسكندرية إلى أروقة الموساد الإسرائيلي
تسير أحداث المسلسل على عدة خطوط زمنية، إذ تبدأ أحداث الحلقة الأولى من لحظة إعدام إيلي كوهين عام 1965 لتعود الأحداث إلى الماضي وتبدأ الحكاية ثم تعود الأحداث مع كل تفصيل إلى المستقبل وهكذا، نرى مع العودة إلى الماضي أحد أحياء مدينة الإسكندرية المصرية حيث ولد كوهين لأسرة يهودية، ويستعرض الفيلم فترة طفولة وشباب كوهين في مصر ثم تورطه في عمليات استخبارية إسرائيلية بمصر مثل عملية “غوشن” التي هُرب من خلالها الكثير من اليهود المصريين إلى “إسرائيل” وعملية “سوزانا” التي كانت تهدف إلى تفجير العديد من المؤسسات الأوروبية والأمريكية داخل مصر من أجل الإساءة للعلاقات المصرية بالغرب.
من “إسرائيل” تنطلق رحلة كوهين عبر مخطط الموساد إلى الأرجنتين، إذ تظاهر كوهين بأنه رجل أعمال سوري يحمل اسم “كامل أمين ثابت”
ومن مصر غادر كوهين إلى إيطاليا ثم إلى “إسرائيل” التي تبنته ودربته على إتقان اللهجة السورية تمهيدًا لإرساله بعد ذلك إلى دمشق ومن هناك تبدأ رحلة كوهين الذي سيكون عميل إحدى أكبر عمليات الجاسوسية الإسرائيلية بالعالم العربي، فبفضل معلوماته تمكنت “إسرائيل” من السيطرة على مرتفعات الجولان السورية عام 1967.
من “إسرائيل” تنطلق رحلة كوهين عبر مخطط الموساد إلى الأرجنتين، إذ تظاهر كوهين بأنه رجل أعمال سوري يحمل اسم “كامل أمين ثابت” وفي الأرجنتين تعرف كامل على الملحق العسكري السوري بالأرجنتين العقيد أمين الحافظ الذي سيصبح بعد سلسلة الانقلابات التي شهدتها سوريا خلال الخمسينيات والستينيات رئيسًا للجمهورية عام 1963، حيث توطدت علاقتهما بقوة، وخلال عام 1961 قرر كامل إنهاء تجارته في الأرجنتين والعودة إلى سوريا بدافع الحنين إلى الوطن وبفضل علاقاته القوية التي بناها في الأرجنتين مع كبار المسؤولين، تمكن كامل بسرعة لافتة للنظر من اختراق الدولة السورية التي وصلت إلى حد حضوره لمناورات الجيش السوري في أرض الجولان.
كما استضافت الإذاعة السورية كوهين بصفته رجل أعمال عربي ناجح عاد من غربته الطويلة من أجل بناء الوطن، جدير بالذكر أن كوهين كاد يصل إلى منصب الوزير في سوريا لولا كشفه الذي يعد إلى الآن مثار جدل بين ثلاث روايات: تتحدث المصرية منها عن دور المخابرات المصرية في كشف كوهين وبالتالي إبلاغ المخابرات السورية، وذكر هذه الرواية الكاتب المصري محمد حسنين هيكل، وهناك الرواية السورية التي تبناها الفيلم وهي أن المخابرات السورية تعقبت إشارة البث حتى تمكنت من القبض على كوهين، وهناك الرواية الهندية التي لاحظت تشويشًا على عملية اتصالاتها وأبلغت الأجهزة السورية التي تمكنت بعد ذلك من القبض على كوهين.
فيلم الجاسوس والكثير من المغالطات التاريخية الفجة
رغم ضخامة إنتاج العمل، فإنه وقع في الكثير من الأخطاء التاريخية سواء فيما يتعلق بمسألة التوثيق أم مراعاة الظروف الزمنية التي قُدمت خلال المسلسل، فبعيدًا عن تبني وجهة النظر الإسرائيلية بشكل فج إلى الدرجة التي جعلته يستخف بالطرف الآخر طوال الأحداث إلا أن العمل وصل إلى حد الشطحات في الكثير من المشاهد.
فعلى سبيل المثال، في الحلقة الثالثة من المسلسل يتعرف كوهين على معازي نصر الدين في أحد البارات الليلية وهو أحد الضباط على جبهة الجولان وتتوطد معرفة الاثنين ليقوم معازي بدعوة كوهين إلى منطقة الجبهة الحربية على الجولان وهناك يصطحبه معازي في جولة بأكثر المناطق سرية في الجولان حيث يتفقد كامل جميع المخابئ السرية.
ترتكز أحداث المسلسل برمتها على أن كامل استطاع دخول سوريا عبر خطاب توصية كتبه أمين الحافظ وفي أثناء وجوده في دمشق اخترق كوهين أكثر المناطق سرية في الجولان من خلال تسهيلات أمين الحافظ
المغالطة التاريخية الأخرى كانت في تجسيد طبيعة أهل دمشق، ففور وصوله يشتري كامل الكثير من الأثاث الفاخر من أحد التجار الكبار ليأتي هذا التاجر بعد يومين ويعرض عليه ابنته للزواج دون تقديم أي مبرر درامي وهو ما بدا سطحيًا للغاية وغير مقنع وبعيدًا تمامًا عن طبيعة أهل دمشق.
ترتكز أحداث المسلسل برمتها على أن كامل استطاع دخول سوريا عبر خطاب توصية كتبه أمين الحافظ وفي أثناء وجوده في دمشق اخترق كوهين أكثر المناطق سرية في الجولان من خلال تسهيلات أمين الحافظ وهو الأمر الذي نفاه الأخير جملة وتفصيلًا في أثناء لقائه الشهير مع برنامج “شاهد على العصر” خلال عام 2001، إذ أكد حافظ بأنه لم ير كوهين طوال حياته ولم يسمع عنه إلا بعد وفاته.
“إسرائيل” ومحاولات الاختراق الثقافي للعالم العربي
يعد الصراع العربي الإسرائيلي من أكثر الصراعات التاريخية الممتدة، إذ بدأت جذور هذا الصراع منذ أواخر القرن التاسع عشر ومع قيام الكيان الصهيوني في فلسطين خلال عام 1948، وبخلاف الصراعات السياسية التقليدية يمتد الصراع العربي الإسرائيلي ليشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية.
من جانب آخر ظلت “إسرائيل” تعيش في عزلة داخل المنطقة العربية وركزت خلال الماضي على ترسيخ متطلبات الحفاظ على الوجود وسلامة الكيان الإسرائيلي، إذ كانت تخضع جميع سياساتها لاعتبارات أمنية صرفة وبين جميع القيم الإسرائيلية الكبرى ظل الأمن يحتل مكان الصدارة، لكن في الآونة الأخيرة ظهرت اهتمامات أخرى للكيان الصهيوني هدفها الوجود الثقافي على الساحة العربية، فالمتابع الجيد لشبكة نتفليكس الشهيرة سيلاحظ بسهولة اهتمام الشبكة بتقديم أعمال فنية تخدم السياسة الإسرائيلية بداية من فيلم “الملاك” وحتى مسلسل “الجاسوس” الذي أخرجه الإسرائيلي غيديون راف.
لم تقتصر شبكة نتفليكس على تقديم أعمال فنية تتناول فقط الجواسيس العرب الذي عملوا لصالح “إسرائيل” ولكنها عرضت مسلسلات إسرائيلية أخرى أثارت حالة كبيرة من الجدل في العالم العربي
وهناك أيضًا فيلم The Red Sea Diving Resort “منتجع غوص البحر الأحمر” الذي تناول عملية استخباراتية إسرائيلية قام بها الموساد بهدف تهريب مجموعة من اليهود الإثيوبيين إلى “إسرائيل” وذلك عبر الأراضي السودانية.
ولم تقتصر شبكة نتفليكس على تقديم أعمال فنية تتناول فقط الجواسيس العرب الذي عملوا لصالح “إسرائيل” ولكنها عرضت مسلسلات إسرائيلية أخرى أثارت حالة كبيرة من الجدل في العالم العربي من مسلسل “فوضى” الذي يحكي عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقد حظي المسلسل الذي صدر له نصان باللغة العربية والعبرية بإشادة دولية كبرى بسبب واقعيته واختارته جريدة نيويورك تايمز عام 2017 ضمن أفضل العروض، ويحكي المسلسل قصة العملاء السريين الإسرائيلين الذين يتظاهرون أنهم فلسطينيون من أجل ملاحقة عناصر حماس، وطوال أحداث المسلسل تركز الرواية الإسرائيلية على إلقاء الضوء على الوجه الوحشي للفلسطينيين في محاولة مضللة لتزييف الواقع.
في نهاية المطاف ما تسعى إليه “إسرائيل” في أعمالها الدرامية ليس تقديم فن أو صورة للمجتمع الإسرائيلي من الداخلي، ولكن أعمالها تستهدف التسرب ببطء داخل العقل العربي وتدمير صورة “إسرائيل” السيئة المترسخة بالداخل، يشبه الأمر أن تكون هناك بناية كبرى نستهدف هدمها ولكن بالتدريج، فهذا ما تفعله “إسرائيل” تقوم بتكسير صورتها البشعة في عقول العرب قطعة قطعة.