أضحت الاستهدافات التي تتعرض لها مخازن ومقار الحشد الشعبي في العراق لغزًا محيرًا يواجه السلطات الرسمية، وفي ظل مشهدٍ مرتبكٍ كهذا ربما يكون السكوت أبلغ من الكلام، لذا تفضل الحكومة الصمت ولا تنطق إلا خجلًا، فيما تتواصل عمليات الحرق أو القصف بالطائرات المسيرة على معسكراته في مدن عدة.
الاستهداف الأول كان لمعسكر صقر جنوبي بغداد الذي تعرض لحريق هائل في أغسطس/آب الماضي، وخلف خسائر كبيرة في عتاد الحشد، ولم تكتف ألسنة اللهب الغاضبة بذلك، بل إنها نفثت زفيرها المضطرب إلى ما بعد ذلك المعسكر، حتى امتد غيضها إلى ممتلكات المواطنين القريبة منازلهم من مكان الحادث، مخلفةً أضرارًا ماديةً جسيمة.
استهدافات “مريبة” جذورها ممتدة من عام 2016
وخارج كل التصريحات التي تصب في كون الاستهدافات وليدة الآونة، فإن هناك من يرى غير ذلك. المتحدث السابق باسم الحشد الشعبي والقيادي في منظمة بدر كريم النوري يؤكد أن مسلسل الاستهدافات بدأ منذ سنوات وأن “أكثر من 18 استهدافًا تعرضت له مقار ومخازن الحشد منذ عام 2016، وأنها لم تكن بشكل عفوي أو ناتجة عن تماس كهربائي أو سوء التخزين، وهي بالتأكيد تمت بفعل فاعل “مجهول”، والأمر لا يخلو من الغرابة“.
استهداف الحشد خلق معضلة كنتيجة طبيعية أمام اللغز الخفي وراء المتسبب في حدوثه، وهذا خلف انقسامًا كبيرًا بين قياداته
وبشأن ما يتداول من افتراض أن مفتعل قصف مقار الحشد هي “إسرائيل” أوضح النوري قائلاً: “إسرائيل تقصف في سوريا ولبنان وتفتخر وتعلن ذلك، لكن الأمر في العراق أكثر تعقيدًا”، مشيرًا إلى أنها لا تخفي عداءها للفصائل المسلحة، وهي مرعوبة من وجودهم قرب الجولان في سوريا.
خلية الحشد.. انقسام وتراشق بيانات
استهداف الحشد خلق معضلة كنتيجة طبيعية أمام اللغز الخفي وراء المتسبب في حدوثه، وهذا خلف انقسامًا كبيرًا بين قياداته، إذ أعلن نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس تشكيل مديرية للدفاع الجوي وتسمية رئيس لها بحسب وثيقة حصل عليها “نون بوست”، فيما سارع إعلام الحشد إلى نفي تلك الوثيقة عبر مصدر مخول يفند وجود قيادة للقوة الجوية للحشد الشعبي.
هذا الانقسام لم يكن وليد لحظته، فله ما قبله، فقد اتهم المهندس في بيان آخر شديد اللهجة طائرات إسرائيلية وأمريكية بتنفيذ عمليات تستهدف الحشد الشعبي في العراق، وحملهما المسؤولية كاملة، وتوعد بالرد أيضًا باستخدام أسلحة متطورة.
الرد على بيان المهندس لم يتأخر كثيرًا من الفياض، حيث أكد “أن تلك التصريحات لا تمثل موقف الحشد الرسمي، والقائد العام للقوات المسلحة هو المعبر عن الموقف الرسمي للحكومة العراقية وقواتها المسلحة”.
العراق.. “انتقام الجغرافيا”
العراق – باعتباره جزءًا من المسرح الإستراتيجي والإقليمي بحكم قوانين الجغرافيا – فإن موقعه الجغرافي فرض عليه أن يصطلي بلهب ما يجري من أحداث في الرقعة المحيطة به، فلا يمكن النظر إلى ما يجري فيه بمعزل عن التطورات المتسارعة والخطيرة التي يشهدها الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق يقول الخبير العسكري والإستراتيجي العميد ضياء الوكيل: “تأخر إعلان نتائج التحقيق في قصف معسكرات الحشد يحتكم إلى التقييم السياسي، والحكومة العراقية تتعامل بحذر مع هذا الملف وتتحاشى كشف أي نتائج حاليًّا قد تترتب عليها مواقف سياسية على الصعيد الإقليمي، ربما لا تخدم العراق في المرحلة الراهنة”.
تخشى أطراف عراقية من اصطدام صفقة شراء “إس 400” الروسية بضغوط أمريكية قد تجهضها
ويرى الوكيل أن “التردد الحكومي في إعلان النتائج غير مبرر، لا سيما أن الموقف الرسمي يجب أن يتحلى بالجرأة والمسؤولية في التشخيص والتعامل مع القضايا الحساسة والمصيرية، لأن الصمت والتجاهل يفسر على أنه ضعف وعجز وفقدان المبادرة السياسية”.
بغداد تتشبث بالخشبة الروسية
وبشأن عزم بغداد شراء منظومة الدفاع الروسية يؤكد الخبير العسكري أن “العراق من حقه أن يتسلح بما يراه مناسبًا للدفاع عن نفسه والتصدي للمخاطر المحدقة بأمنه الوطني، وقضية قصف مستودعات الحشد الشعبي شكلت عاملًا حاسمًا في دفع ملف التسليح إلى واجهة الاهتمام السياسي والعسكري”.
ويوضح الوكيل أن الخطوة تأتي “ضمن الخطط المقترحة لمواجهة الانتهاكات المستمرة لأجواء العراق ورفع الكفاءة والقدرة للدفاع الجوي من خلال تزويده بأسلحة متنوعة من مصادر مختلفة ومن ضمنها منظومة (إس 400)”.
الموج الأمريكي يحول بين بغداد وروسيا
تخشى أطراف عراقية من اصطدام صفقة شراء “إس 400” الروسية بضغوط أمريكية قد تجهضها، لا سيما أن واشنطن تنظر إليها بعين الريبة، وتعدها خطوة تهديدية لطائراتها التي تحلق في الأجواء العراقية.
الرقاب تشرئب نحو أول جلسة برلمانية في السنة التشريعية الثانية، متلهفة بما ستخرج به تلك الجلسة إزاء الأحداث الجسيمة التي تعصف بالبلد
وتمتلك واشنطن كثيرًا من أوراق الضغط على طرفي المعادلة “موسكو وبغداد” ستستخدمها للحيلولة دون إتمام هذه الصفقة التي تعدها تحديًا لسوق السلاح الأمريكي وكسرًا لقاعدة النفوذ.
سيادة العراق بيد لجنة برلمانية!
الرقاب تشرئب نحو أول جلسة برلمانية في السنة التشريعية الثانية، متلهفة بما ستخرج به تلك الجلسة إزاء الأحداث الجسيمة التي تعصف بالبلد، ولكن جدول أعمال الجلسة خلا من كل ما كان يؤمل منها، وأهمها مسلسل استهداف مقار ومعسكرات الحشد، واكتفى البرلمان بتشكيل لجنة برلمانية لحفظ سيادة العراق من الاعتداءات الخارجية، تضم قادة الكتل النيابية، بالإضافة إلى ممثلين عن لجنتي العلاقات الخارجية والأمن والدفاع.
وبحث البرلمان مع رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض قضية استهداف معسكرات الحشد، داعيًا إلى “تنسيق الرؤى أمام الاستفزازات والهجمات الخارجية التي تستهدف سيادة الدولة”.
وربما كان أهم ما خرجت به الجلسة الاتفاق على الإجراءات التي يجب اتخاذها لحماية معسكرات الحشد، من بينها السيطرة التامة على الأجواء العراقية وإيقاف جميع رخص الطيران والإسراع في عملية نقل مخازن العتاد بعيدًا عن المناطق السكنية.
ويبقى اللغز غامضًا دون حل، وتبقى الأفواه فاغرةً تنتظر كسر الصمت والخروج من حالة الوجوم المخيم على البلد الرازح تحت رحمة وابل القصف المجهول.