نشرت الوكالة اليهودية إحصاءً عن أعداد يهود العالم في نهاية عام 2022، يُظهر زيادة أعدادهم وتوزعهم في مختلف دول العالم، ويكشف أيضًا عن زيادة نسبة اليهود المتواجدين في “إسرائيل” بمقدار 2% مقارنةً بالعام الذي سبقه، كما يؤكد أن أعداد اليهود المتواجدين داخلها أقل من نصف إجمالي يهود العالم، إذ تبلغ نسبتهم 46.2%.
أما وفقًا لإحصاء عام 2024، الذي أجراه عالم السكان البروفيسور سيرجيو ديلا بيرجولا من الجامعة العبرية في القدس، فقد بلغ عدد يهود العالم 15.8 مليون يهودي، يقيم قرابة 8.5 ملايين منهم خارج “إسرائيل”، من بينهم 6.3 ملايين في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها.
في الواقع، فإن هذه الأرقام الديموغرافية لا تكشف عن توزّعٍ سكانيٍّ فحسب، بل تمثّل، بالنسبة لعلماء الاجتماع، دلالةً على تشتّت الهوية اليهودية الإسرائيلية وارتكازها إلى منشأٍ جغرافيٍّ ثابت، وهو المنشأ الذي حاولت الوكالة اليهودية ترسيخه في الوعي الجمعي اليهودي على مدى أكثر من قرنٍ، باعتبار “إسرائيل” الوطن القومي لهذه الملايين.
كما تتشظّى الأرقام بصورةٍ أكثر تعقيدًا إذا ما نظرنا إلى الأصول الجغرافية لليهود، التي ما تزال حتى اليوم حاكمةً ومهيمنةً على هوياتهم الفرعية وثقافاتهم، فمن أصل 15 مليونًا، هناك 74% يهودٌ غربيون “أشكناز”، مقابل 26% يهودٌ شرقيون وأفارقة “سفارديم ومزراحيم”، كما توجد أربع طوائف أساسية، لكلٍّ منها تقاليدها، وهي: الأرثوذكسية، والمحافظة، والإصلاحية، والمجدّدون، إضافةً إلى طوائف أخرى صغيرة، مثل السامريين والشومريم.
يقول الباحث عبد الوهاب المسيري عن ذلك: “من الصعوبة بمكان الحديث عن شخصية يهودية واحدة أو هوية يهودية واحدة، فقد عاشت الجماعات اليهودية في عصور وأماكن وظروف مختلفة، والصحيح أن هناك “شخصيات” و”هويات يهودية”، فهناك الشخصية “أو الهوية” اليمنية اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر، أو الشخصية الخزرية اليهودية في القرن التاسع، أو الشخصية الإشكنازية في إسرائيل وهكذا دواليك”.
هذا التفرّع الشديد في اليهودية جعل من سعيها الأول لتأسيس “وطن قومي” مهمةً بالغة العُسر، تمامًا كما حوّل مهمة بقائها واندماج تفرّعاتها إلى تهديدٍ يُلامس وجود “الوطن القومي” حاليًا، ومع ذلك استطاع قادتها، على مدى العقود الماضية، النجاح في مهمّتهم عبر الموازنة بين عقدة الضحية وعقيدة المستعمِر.
من هذين المكوّنين تنطلق السطور التالية في تنقيبها عن الهوية اليهودية الإسرائيلية وقدرتها على التنقّل بين العقدة والعقيدة؛ من البدايات، حيث كان على مؤسسي “الوطن” تذويب كثيرٍ من عناصر الهوية اليهودية لصالح الصهيونية كقوميةٍ والدولة كحلم، مرورًا بالعقدة ذاتها، والنبذ الغربي الذي أفرز جانبًا مهمًا في الشخصية اليهودية، وانتهاءً بدور الوجود الفلسطيني، “اشتعالًا وانطفاءً”، في تعظيم أو تأزيم الهوية اليهودية وتجديد صراعاتها.
تنقيب تاريخي: اليهود أم اليهودية أولًا؟
“العهود التوراتية” هي ما يطالعك خلال بحثك عن الهوية اليهودية في المواقع الرسمية الإسرائيلية، ففي موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية تتم الإشارة إلى الهوية اليهودية باعتبارها الإرث الديني للآباء والأجداد، الذين بدأ تاريخهم قبل 4 آلاف سنة، منذ إبراهيم عليه السلام وابنه اسحق، ثم نجله يعقوب، في منطقة ما بين النهرين، حتى امتدت حياتهم من أور الكلدانية إلى أرض كنعان، ثم استقروا في مصر قبل أن يخرجوا مع النبي موسى عليه السلام إلى فلسطين مرةً أخرى، حيث انقسمت ممالكهم، وعاشوا السبي البابلي والجلاء لمرتين.
عند هذه النقطة، ينقطع الإرث اليهودي التاريخي والديني، سواء في الموقع الرسمي أو في الرواية الصهيونية التي ترى في ذلك الإرث وتلك العهود دلالةً على حقها في تملّك الأرض، وكفايةً لتأكيد هويتها، لكن هذا الانقطاع ذاته يعكس هوّةً بين الهوية اليهودية التاريخية واليهود الحاليين أنفسهم، وهو ما ينعكس على تفسير وجودهم، وعلاقاتهم، ومستقبلهم.
يُعبّر الباحث يعقوب يادجار عن العلاقة المضطربة بين الهوية اليهودية واليهود أنفسهم، بقوله إن اليهودية لم تعد المرجع الأساسي لليهود، حتى وإن كانت تسبقهم، ويشير إلى قول الباحث بليون روث بأنه “لا ينبغي النظر إلى اليهودية من منظور اليهود، بل يجب النظر إلى اليهود من منظور اليهودية”.
فقبل القرن التاسع عشر، لم تكن الهوية اليهودية تحمل أي معلمٍ باستثناء التقاليد والطقوس الدينية اليهودية، وحتى في مرحلة انطلاق القوميات ونهاية الحروب الدينية، وما تلاها من معاهدة وستفاليا التي أسست لنشأة القوميات والدول، بقيت اليهودية كهويةٍ مرتبطةً بالتغيرات السياسية في البلدان التي تواجدت فيها.
لكن تصاعد القوميات تسبّب في إقصاء اليهود وعزلهم، وتحويلهم إلى أقليات، لا سيما أن عناصر القومية كانت غائبة عنهم؛ فهم جماعات غير متجانسة عرقيًا، موزّعة جغرافيًا واقتصاديًا، ومختلفة عن محيطها لغويًا، واجتماعيًا، ودينيًا. وقد شجّع ذلك على ظهور ما عُرف بـ”التنوير اليهودي” (الهسكالاه)، الذي رأى أهمية دمج اليهود في المجتمعات الأوروبية، وتبنّي اللغات القومية، وتحديث التعليم اليهودي، والاندماج في الحياة الاقتصادية والسياسية.
برز في هذا التيار الكاتب اليهودي الروسي موشيه ليب ليلينبلوم، الذي عاش وعمل فيما يُعرف الآن بليتوانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد روّج لما اعتقد أنه “التعليم المناسب” الذي سيخلّص اليهود والمسيحيين من تحيّزاتهم الدينية، ويدفعهم إلى التعايش معًا. إذ رأى أن: “السبب الجذري لمعاداة السامية هو الجهل، وبمجرد أن يحرر اليهود أنفسهم من الخرافات، فسوف يتعايشون بانسجام في أوروبا الحديثة الليبرالية”.
وبينما نجح “الهسكالاه” في بعض أطراف أوروبا، وخاصةً فرنسا، فشل في غيرها، لا سيما في مواجهة حركة “الهالاخاه” التقليدية المتشددة، ومع ذلك فقد أسهم في إخراج أول حركة سياسية يهودية تهدف إلى التحرر اليهودي، إذ اختصت ببحث “المسألة اليهودية” بين خيارَي الاندماج والانعزال، وكان من بين دُعاتها: موسى مندلسون، وإسرائيل جاكوبسون، وليوبولد زونز.
تسبّبت المحرقة النازية، التي استمرت حتى منتصف الأربعينيات، في إضفاء صبغةٍ جديدةٍ على الهوية الصهيونية المستجدّة، باعتبارها حركة تحررٍ وطني
أسهمت هذه الحركة في إحداث تغييرات عديدة طالت يهود أوروبا في كلٍّ من أوكرانيا، وبولندا، والمجر، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا، ولتوانيا، حيث أطلقت موجةً رافضةً للغة اليديشية لصالح تجديد اللغة العبرية، كما أسست لثقافة يهودية علمانية تركّز على التاريخ والعلوم والانخراط السياسي والاقتصادي، ودعمت المصالحة بين المسيحية واليهودية ضمن إطار تيارٍ إصلاحي، أسقط جوانب من الشريعة اليهودية لصالح قضايا التحرر.
ومع هذا الزخم في الاندماج والتحرر خوفًا من الضمور، أصبحت الهوية اليهودية تحظى بعدة عناصر فعالة؛ بدءًا من اللغة العبرية، مرورًا بالتفوّق الاقتصادي والعلمي لليهود أكاديميًا ومعرفيًا، وانتهاءً بالثقافة اليهودية المنفتحة على أوروبا المسيحية والمتوائمة معها.
لكن ذلك لم يكن كافيًا لملمة تشرذم اليهود حول العالم، لا سيما أن التيار واجه معارضةً قوية رفضت الاندماج والإصلاح وتمسّكت بالانعزال، كما أن التغيّرات السياسية تركت أثرًا سيئًا على الأقليات اليهودية، وتسبّبت في مذابح طالت التقليديين والتنويريين على حدٍّ سواء، وحتى محاولات الاندماج لم يُكتب لها النجاح، إذ ظلّ الإقصاء حاضرًا في ظلّ التشكيك في “وطنية” اليهود وانتمائهم.
مع ذلك، أفرزت الهسكالاه حركةً أخرى كانت أكثر تمرّدًا في تحررها، هي الحركة الصهيونية، التي أشار إليها لأول مرة الصحافي النمساوي ناثان بيرنباوم عام 1890، باعتبارها رديفًا للقومية التي يطمح اليهود إلى الانضواء تحت ظلها، وتمثّلًا آخر من تمثّلات “تقرير المصير” وحقهم في حكم أنفسهم.
ثم أعاد هرتزل طرح الصهيونية من خلال رؤيته لهوية يهودية تجتمع على أرض واحدة، وتتجاوز الاختلافات بينها في ظل الإجماع على هدف الدولة، فنشر كتابه عام 1896 تحت عنوان “الدولة اليهودية”، مُسبغًا على فكرته الأبعاد الدينية والتاريخية والاقتصادية اللازمة لجذب أكبر نسبة من يهود العالم إليها، فيما اعتُبر بحثًا عن القومية اليهودية في ظل القوميات الناشئة.
شدّد هرتزل على استخدام مصطلح “قومية” بديلًا لمصطلح “هوية” في كتابه، قائلًا: “قومية اليهود لا يمكن أن تفنى، ولن تفنى، ولا ينبغي لها أن تفنى. وقد تبلى فروع كثيرة من اليهودية وتسقط، أما الجذوع فإنها تبقى ثابتة”.
وحدد في كتابه ثلاث أبعاد للقومية اليهودية، أولها البُعد الديني وفيه استحضر المقولات الدينية الخاصة برؤيته مثل “أرض الميعاد”، و”أرض اللبن والعسل”، و”شعب الله المختار”، -يقول الباحث في التاريخ اليهودي ويليام إيكلر عن هذا البُعد: “إن الاعتقاد بوجود عهدٍ إلهي بين اليهود وأرض إسرائيل يشكل حجر الزاوية في الهوية اليهودية”.
تلاه البعد الاجتماعي وفيه ركّز على وضع يهود أوروبا الأدنى في السلم الاجتماعي، وحاجتهم إلى مكانٍ جديد خاصٍ بهم لبناء سلمهم الاجتماعي الذاتي، واستخدم المبررات الاقتصادية أيضًا في البناء عليه.
وأخيرًا، البُعد العرقي، حيث نافح هرتزل عن فكرة أن اليهودية أكثر من مجرد ديانة، معتبرًا أن أفرادها يشكّلون شعبًا واحدًا، وإن كانوا موزعين في مختلف أنحاء الأرض. وهنا أيضًا، فتح الباب لاستدعاء أي أبعادٍ أخرى بقوله:
“المسألة اليهودية ليست فقط مشكلة اجتماعية بقدر ما هي قضية دينية، ومع ذلك قد تتخذ أشكالًا أخرى. إنها قضية قومية يمكن حلُّها فحسب عندما تعالَج كقضية سياسية عالمية تناقشها شعوب العالم المتحضّر في مجلس دولي. إننا شعب… وشعب واحد”.
من عشية المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 حتى اختتام المؤتمر الصهيوني السادس عام 1903، استطاع ثيودور هرتزل، بالتعاون مع العشرات من الأثرياء والاقتصاديين والعلماء والساسة اليهود، رسم هوية يهودية إسرائيلية مدعومة بعناصر الأرض، واللغة، والثقافة، والتاريخ، إلى جانب مجموعة من المؤسسات الرديفة التي عملت على تعزيز كل عنصر من هذه العناصر، بدءًا من استعمار الأرض وتهويد المكان، وتأسيس الثقافة والعلوم، ودعمها بالاقتصاد، والسلاح، والعلاقات الدولية، وهو ما تراكم حتى أنتج وعد بلفور عام 1917، الذي مثّل ذروة المساعي الهادفة إلى ترسيخ هوية يهودية إسرائيلية لأجيالٍ قادمة.
في المحصلة، ومن خلال الكثير من التنقيب التاريخي، يمكننا استعارة قول الباحث يادجار كاتزنلسون في كتابه “التقاليد والثورة” المنشور عام 1935، حين أكد: “إن الصهيونية، كقوة فكرية وسياسية يهودية، تجاوزت اليهودية كديانة في حد ذاتها مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وأن القول بأن اليهود واليهودية مكملان لبعضهما البعض لم يؤدِّ إلى ظهور مزيد من التيارات الفكرية اليهودية، والتي أضحت لاحقًا بلا قيمة أمام الصهيونية نفسها”.
تنقيب هوياتي: عقدة الضحية أم عقيدة المستعمر؟
رغم تصاعد الصهيونية كتيارٍ ممثّلٍ ليهود العالم، واختراق مؤسساتها للأنظمة والحكومات الغربية، فإنها واجهت معارضةً شديدة داخل أوساط يهود أوروبا، وخاصةً أوروبا الغربية، حيث تصدّر تيار الاستيعاب الثقافي، بقيادة مندلسون، المواجهة، داعيًا إلى الانخراط والاندماج بدلًا من البحث عن هوية يهودية منفصلة عن محيطها.
كما أن علمانية القائمين على الصهيونية كانت مصدر قلقٍ متزايدٍ لليهود المتديّنين، ما أدى إلى حملات تشكيكٍ بفعاليتها، وصلت حتى إلى اليهود المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان من أبرز منتقديها بيرل كاتزنلسون، الذي، رغم تأييده للصهيونية وانغماسه في العمل التعاوني الاستيطاني في فلسطين، كان شديد الحدة عندما يتعلّق الأمر بالتقاليد اليهودية ومحاولة تكييفها لبناء جيلٍ يهودي “مبدع” في مجتمع اليشوف.
ظلّت مسارات الصهيونية صدئةً ومتآكلةً حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، حين تصاعد التوجّس الأوروبي من انتماء الأقليات اليهودية، ما أفرز مزيدًا من الاضطهاد والنبذ لليهود ومجتمعاتهم، وتسبب في تراجع فعالية فكرة الاندماج، لصعوبتها اجتماعيًا، واقتصاديًا، ودينيًا.
لعبت الحرب العالمية الأولى دورًا في تأكيد قناعة نشطاء الصهاينة بأن الدين اليهودي، بشكله المتعارف عليه آنذاك، لا يعمل بالضرورة لصالح الاستعمار في فلسطين، وأن الحاجة إليه ليست دائمًا حاضرة، ونتيجةً لذلك، فضّلوا التركيز على اليهودية “كبيولوجيا” وليس كدين، وهو ما أفرز لاحقًا هوّةً بين الصهيونية واليهودية نفسها.
يقول الكاتب مايكل ويجر بهذا الخصوص: “إن نشطاء الصهيونية بنوا هويةً جديدةً منفصلةً عن ماضيها، بينما تعتمد، بشكل متناقض، على الحاخامات الأرثوذكس من أجل الحفاظ على الذات العرقية”.
مع بداية ثلاثينيات القرن العشرين، لعب الحظ لعبته الكبرى لصالح الصهيونية، إذ تسبّبت المحرقة النازية، التي استمرت حتى منتصف الأربعينيات، في إضفاء صبغةٍ جديدةٍ على الهوية الصهيونية المستجدّة، باعتبارها حركة تحررٍ وطني، وأُخرجت من الأدراج مختلف الأفكار التي تدعو للانعتاق من الاضطهاد، أو ما أسماه المفكر اليهودي الروسي ليون بينسكر “التحرر الذاتي”، قائلًا: “إننا لا نشعر بأننا يهود فحسب؛ بل نشعر بأننا رجال. وباعتبارنا رجالًا، فإننا أيضًا نرغب في أن نعيش، ونصبح أمةً مثل الآخرين”.
ونتيجةً لذلك، أصبحت الهولوكوست عنصرًا آخر من عناصر الهوية اليهودية، ومنحت الصهيونية قبلة الحياة من جديد، إذ دفعت المجتمعات والحكومات الغربية إلى تبنّي تحقيق الحُلم اليهودي تكفيرًا عن الهولوكوست وما ارتبط به من اضطهاد. وهكذا، غدت معاداة السامية ارتباطًا شرطيًا باليهودية وحدها، دونًا عن غيرها من الديانات السامية.
في الواقع، ورغم أن الصهيونية نشأت قبل الهولوكوست، فإن علماء الاجتماع والباحثين الغربيين يطيب لهم اعتبارها ردَّ فعلٍ للمحرقة، حيث يرى كلٌّ من المؤرخين شلومو أفينيري وديريك بينسلار أن كل ما سبق الهولوكوست من الهوية اليهودية الصهيونية كان يمثّل جزءًا واحدًا فقط، بينما كل ما جاء بعدها هو الجزء الآخر المضاد له.
فقبل المؤتمر الصهيوني الأول وتحديد فلسطين أرضًا “لشعبها”، لم تكن الصهيونية أكثر من حركة وطنية تسعى لتحرير مجتمعٍ مضطهد، وكانت تروّج لمساعيها باعتبارها: “في حاجة إلى أرضٍ بلا شعب تُشكّل عليها مجتمعًا يهوديًا جديدًا خارج الجيتوهات المادية والمعنوية”، لكنها، ما إن جعلت من فلسطين العثمانية (“سوريا الكبرى”) هدفًا لاستيطانها، حتى أصبح البُعد الاستعماري الاستيطاني يتجاوز بمراحل بعدها الوطني.
ورغم وجاهة القول بأن تحديد فلسطين أرضًا يمثل تحوّلًا من عقدة الضحية إلى عقيدة المستعمِر، إلا أن السعي لاستعمارها كان سابقًا للهولوكوست بعقود، إذ جاءت أفواج المستوطنين الأوائل في منتصف القرن التاسع عشر، فيما سبقت أولى المستوطنات وقوع الهولوكوست بأكثر من سبعة عقود.
وبهذا التحوّل، كانت الهوية اليهودية تخضع لعملية قولبة تُحدَّد عناصرها وفق رؤية صهيونية إمبريالية، ترتكز على تجديد اليهودية بطرح تعريفٍ جديد أقرب إلى العلمانية، واعتماد نمطٍ علمي واقتصادي واجتماعي أوروبي يخلق حاجزًا بين “الشرق البربري” و”الغرب المتطوّر”.
كما قامت بترسيخ الأرض باعتبارها أحد أبعاد الهوية اليهودية، بحيث يُؤسَّس التاريخ اليهودي انطلاقًا من فلسطين، وليس من وقائع التاريخ نفسها، في تداخلٍ مع استلهام قيمٍ اشتراكيةٍ متنوعة تُشكّل ملامح الهوية الجماعية الجديدة.
في النهاية، مثّلت الهولوكوست، في مقابل معاداة السامية، ركيزةً تمنح الهوية اليهودية ميزة “الضحية الدائمة”، ما يجعل أي مواجهةٍ أو اتهامٍ لسياساتها يُقدَّم باعتباره “تهديدًا بالإبادة”.
وخلال سنوات، استطاعت الصهيونية التأسيس لشخصية يهودية قادرة على تجاوز الاختلافات لصالح “الوطن القومي”، وبرزت شخصية “الصبارديم”، ذلك النموذج المنتج على خلاف يهود المنفى، والذي لم يعرف وطنًا إلا فلسطين، حيث انقطعت صلاته التاريخية والروحية بغيرها، ليجسّد بالنسبة لليهود المعنى الحقيقي لحلم “التحرر الذاتي” أو تقرير المصير.
وبدعمٍ من الانتداب البريطاني والرعاية الأمريكية، ظهرت إلى العلن ملامح الدولة اليهودية، رغم ضبابية خطوطها العريضة، فقد بدأت بهيئة حاكمة تمثّلت في “الوكالة اليهودية” التي قادها الصهاينة العماليون، إلى جانب منظمة نقابية عرفت باسم “الهستدروت”، وقوة عسكرية تمثّلت في “الهاجاناه”، وأصبحت العقيدة الاستعمارية ملمحًا لا يمكن تجاهله، خصوصًا مع اعتماد الحركة الصهيونية على طرد العرب من الأراضي الزراعية لصالح بناء اقتصاد يهودي حصري، بما يرسّخ طابعها الاستيطاني ويؤكد مساعيها لإحلال واقع جديد في فلسطين.
الهوية اليهودية الحديثة: مأزق الطوفان ومبرر الإبادة
مما يُنقل على لسان مردخاي بار أون، قائد سرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء حرب عام 1948 “النكبة”، قوله: “لو لم يشرع اليهود في نهاية القرن التاسع عشر في مشروع إعادة تجميع الشعب اليهودي في أرضهم الموعودة، لكان جميع اللاجئين القابعين في المخيمات لا يزالون يعيشون في القرى التي فروا منها أو طُردوا منها”.
ولا يخالف الرجل عين الصواب في قوله، فالسلوك اليهودي في الغرب وغيره لطالما كان مدعاةً لممارسة التمييز والمعاداة، و”إسرائيل”، في صورتها الأولى، لم تكن بالنسبة لليهود سوى مكانٍ يحققون فيه هويتهم وذاتهم ويقررون مصيرهم، إذ وفّرت لهم ملاذًا آمنًا من المحرقة النازية والاضطهاد الأوروبي، إلى جانب ما منحته لهم من تفوقٍ على محيطهم العربي.
وبهذا، ظلّت الهوية اليهودية الإسرائيلية قادرةً على ممارسة نوعٍ من “الأكروبات” بين التحرر القومي من الاضطهاد وبين الاستعمار الاستيطاني للأراضي المأهولة، وفي غضون اثنين وسبعين عامًا فقط من إعلان “قيام إسرائيل”، ومئةٍ وأربعين عامًا منذ بدء الاستيطان الأول في فلسطين، أصبح أكثر من سبعة ملايين يهودي حول العالم يعتبرون “إسرائيل” وطنهم. ربما هذا ما دفع الباحث إيفياتار فريزيل إلى وصف الهوية اليهودية الحديثة بأنها: “الشقوق في نموذج التكامل”.
لكن هذه الشقوق بدأت تتحوّل إلى تصدّعات مع بداية العقد الأخير، حيث ترصد الباحثة سامية العطعوط هذا التغيّر بالإشارة إلى أغنيةٍ انتشرت على نطاقٍ واسع نهاية عام 2014، تستهدف أولى ملامح الهوية اليهودية الحديثة، وتقول: “وداعًا أرض العسل… أنا لم أولد لكي أقتل… بعسلكِ يا نحلة، لا تلدغيني”، وهي رسالة صريحة تدعو اليهود إلى الهجرة من “إسرائيل” والابتعاد عنها باعتبارها أرضًا للحروب المستمرة.
وأمام هذه التنبيهات، أطلقت وزارة “شؤون الشتات” الإسرائيلية مطلع عام 2016 مشروعًا بتمويلٍ قدره 250 مليون شيكل لتعزيز الهوية اليهودية وترسيخ “إسرائيل” كدولةٍ لجميع يهود العالم، لكن المشروع واجه انتقاداتٍ واسعة، خاصةً بسبب تصدّر جمعياتٍ يمينيةٍ متطرفة لتنفيذه، مثل “حباد” و”هليل” و”عالمي”، والتي لم تحظَ بقبولٍ واسع، خصوصًا بين فئة الشباب.
لم تقف تصدّعات الهوية اليهودية عند هذا الحد، بل اتسعت مع صعود التيار اليميني المتطرف وسعيه للسيطرة على مختلف مفاصل الدولة، والعمل على “تطهيرها” من العلمانيين تحت ذريعة “الإصلاحات القضائية”، وهذا المشهد السياسي المتأزّم كان كفيلًا بإطلاق الموجة الأولى من الهجرة المعاكسة من أرض “اللبن والعسل” نهاية عام 2022.
ومع عملية طوفان الأقصى عام 2023، سقطت الأرض من منظومة عناصر الهوية اليهودية، بعدما تحوّلت “إسرائيل” من ملاذٍ آمن إلى عبءٍ على اليهود، لتصبح الهجرة المعاكسة من الكيان ظاهرةً لا مجرد حالة عابرة، مع مغادرة 600 ألف إسرائيلي خلال العام الأخير، ما دفع دائرة الإحصاء المركزية إلى تغيير تعريف الهجرة من البلاد، ليمتد من عامٍ واحد إلى عام و275 يومًا.
أما عنصر معاداة السامية والمحرقة النازية، فقد بدأ يتهاوى أمام استعارة المنظومة العسكرية الإسرائيلية لممارسات الإبادة الاستعمارية والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين، مستخدمةً المبررات ذاتها التي دفعتها لاستعمار فلسطين في المقام الأول، تحت ذريعة “الخوف من التهديد والإبادة”، وهو ما أفرز حملةً صهيونية لإعادة تعريف اليهود بناءً على موقفهم من سياسات إسرائيل العسكرية، ليعود مصطلح “اليهودي غير اليهودي” في ثوبٍ آخر، يتجسّد في وصف “اليهودي الكاره لذاته”.
لا يقتصر الأمر على هذا الحال، بل إن صورة “اليهودي الغربي المتطور عن محيطه” بدأت تتهاوى من الهوية اليهودية الإسرائيلية، بعدما بات الترويج لـ”إسرائيل” كواحة ديمقراطية وسط شرقٍ أوسطٍ متخلّف يصطدم بواقع تجاوزاتها لقوانينها الداخلية والقوانين الدولية، وقفزها على محطات المحاسبة والعدالة، والتي بلغت ذروتها في حرب الإبادة على قطاع غزة، ومساعي الضم في الضفة الغربية، ومجازر “البيجر” في لبنان، إلى جانب قصف المقرات الحكومية في سوريا عقب التوغّل في جنوبها.
التحولات التي تحيط بالهوية اليهودية الإسرائيلية اليوم تُنتج نمطًا هوياتيًا جديدًا، تتضاؤل فيه سمة الضحية لصالح صورة الجلاد المتوحّش، وتختفي فيه العقائد والأديان لصالح إبادة الآخر والسعي إلى تهجيره، فيما تغيب الديمقراطية أمام سطوة الاحتلال وتجاوز القانون والأعراف الدولية.
وربما يبدو ذلك للبعض مجرّد وجهٍ جديدٍ من أوجه الصهيونية، لكنه في الواقع الوجه الحقيقي لها، الوجه الذي تمّت رعايته والتنكّر له بعناية ساخرة طوال عقود، بهدف كسب الدعم السياسي الغربي، والحفاظ على المساعدات الخارجية، وتعزيز الهيمنة اليهودية في الشرق الأوسط على حساب العرب.
التساؤل الذي تواجهه الهوية اليهودية اليوم لم يعد يتمحور حول أسبقية اليهودية على اليهودي، أو موقع الهوية بين الضحية والمستعمر، وإنما حول أسبقية الإنسانية على التوحّش، وموقع الديمقراطية والحقوق والحريات بين التطهير والإبادة.