وصل الخلاف بين رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ورئيس جهاز الشاباك رونين بار إلى ذروته، بعد شهور من التوتر المتصاعد بين الرجلين، وذلك في سياق أوسع يسعى فيه نتنياهو إلى فرض قبضته الحديدية على المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ضمن محاولاته المستمرة لإحكام سيطرته على مفاصل صنع القرار.
خلال الأشهر الأخيرة، أصبح رئيس الشاباك الهدف التالي في قائمة التصفية السياسية لنتنياهو، بعد وزير الحرب المُقال يوآف غالانت ورئيس أركان جيش الاحتلال المستقيل هرتسي هاليفي، إذ تعرض رونين بار لهجوم متكرر من وزراء وأعضاء كنيست محسوبين على التيار الصهيوني الديني، الذين طالبوا بتنحيه، متهمينه بالفشل في أداء مهامه، وداعين إلى استبداله بقيادة أكثر توافقًا مع أجندة الحكومة اليمينية.
تتعدد الأسباب خلف هذا التصعيد، إلا أن الحدث المفصلي في تأجيج الخلاف يظل عملية “طوفان الأقصى” وما تبعها من تداعيات، بدءًا من تحمل المسؤولية عن الفشل الأمني والاستخباراتي، مرورًا بالخلاف حول إدارة ملف المفاوضات وصلاحيات الوفود، وصولًا إلى التوظيف السياسي لقضية أسرى الاحتلال وترتيب أولويات الائتلاف الحكومي.
في جوهر هذه التحديات، يعمل نتنياهو على الخروج منتصرًا، مستهدفًا هدفين أساسيين: الحفاظ على تماسك ائتلافه الحكومي، وضمان إحكام هيمنته على كل مستويات صنع القرار الأمني والسياسي.
جذور الخلاف
ظهر التوتر بين الرجلين في الأشهر الأولى من ولاية حكومة نتنياهو الحالية، مع تصاعد المواجهات في الضفة الغربية، خصوصًا في جنين ونابلس، إذ رأى رئيس الشاباك أن السياسات المتطرفة التي يقودها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، تؤجج التصعيد وتزيد من احتمالية اندلاع انتفاضة جديدة. في المقابل، كان نتنياهو يسعى لتمرير أجندة أمنية تخدم استقرار حكومته، حتى لو كان ذلك على حساب التقديرات المهنية التي يقدمها قادة الأجهزة الأمنية.
نقطة التحول الكبرى في هذا الصراع جاءت عقب عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حيث تعرضت جميع الأجهزة الأمنية لانتقادات حادة بسبب الفشل الاستخباراتي المدوي، ورغم أن المسؤولية لم تكن محصورة بجهاز الشاباك، إلا أن بار وجد نفسه في مرمى نيران وزراء اليمين المتطرف، الذين استغلوا الحدث لتحميله مسؤولية التقصير والدفع باتجاه استبداله بشخصية أكثر انسجامًا مع توجهات الحكومة.

أولى الإشارات الواضحة على احتدام الخلاف جاءت من نتنياهو نفسه، عبر تغريدة نشرها في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على منصة “إكس”، ادعى فيها أنه “لم يتم تحذيره تحت أي ظرف من الظروف عن نوايا الهجوم من جانب حماس”، في إشارة إلى نفيه تلقي أي إنذارات استخباراتية من الشاباك.
أثارت التغريدة موجة واسعة من الانتقادات، دفعت نتنياهو لاحقًا إلى حذفها والاعتذار، معلنًا دعمه “الكامل للجيش وجميع رؤساء الأذرع الأمنية”، لكن هذه الواقعة كشفت مبكرًا عن طبيعة المواجهة المتصاعدة بين رئيس وزراء الاحتلال وقادة المنظومة الأمنية.
وصل الخلاف إلى مستويات كبرى مع تصاعد التباين في وجهات النظر حول إدارة ملف مفاوضات التهدئة وتبادل الأسرى، ففي حين دفعت المؤسسة الأمنية، وعلى رأسها الجيش والشاباك، نحو إنجاز الصفقة والتجاوب مع مطالب الوسطاء لإنقاذ الأسرى الإسرائيليين، تمسك نتنياهو بموقفه المتشدد، متلاعبًا بتفويض الوفد الإسرائيلي في المفاوضات، ما تسبب في عرقلة التوصل إلى اتفاق، كما كشفت القناة 13 العبرية أن أعضاء الوفد الإسرائيلي وجهوا “انتقادات لاذعة” لنتنياهو بسبب تعنته في المفاوضات.
إلى جانب الخلافات السياسية، تصاعد التوتر بين الطرفين بعد أن فتح جهاز الشاباك تحقيقًا في قضايا حساسة تتعلق بمكتب نتنياهو، من بينها تسريبات أمنية خطيرة يُشتبه في أنها خرجت من داخل مكتب رئيس الوزراء، فضلًا عن شبهات حول قنوات اتصال غير رسمية استخدمها مقربون منه.
في بيان رسمي، أشار الشاباك إلى أن الجهاز يتولى مسؤولية مكافحة التجسس وحماية المعلومات الحساسة في مؤسسات الدولة، مؤكدًا أنه بدأ التحقيق في حماية الأسرار داخل مكتب رئيس الوزراء وبعض الوزارات الأمنية، في خطوة اعتُبرت بمثابة تصعيد خطير من قبل رونين بار ضد نتنياهو، وردًا مباشرًا على الحملة التي تشنها الحكومة ضده.
بلغ الخلاف ذروته مع استبعاد بار رسميًا من الملفات الحساسة، حيث أكد بار في مناقشات مغلقة أنه لم يعد جزءًا من فريق التفاوض الإسرائيلي حول صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار في قطاع غزة.
مسؤولية الفشل تؤجج الخلافات
منذ اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى”، شكل التهرب من المسؤولية عن الفشل الذريع أحد المحددات الرئيسية لتحركات بنيامين نتنياهو، حيث سعى إلى صياغة سردية تُبرّئه من أي مسؤولية مباشرة عن الإخفاق الأمني، لتجنب الضغط الذي قد يجبره على التنحي عن منصبه كرئيس للوزراء.
بناءً على هذه الاستراتيجية، عمل نتنياهو على توجيه الأنظار نحو قادة الأجهزة الأمنية، وعلى رأسهم رئيسي الشاباك وأركان الجيش، وتحميلهم المسؤولية الكاملة عن الفشل، إذ عمد إلى تصوير الأمر على أنه إخفاق استخباراتي وإداري يقع على عاتق الجهات المسؤولة عن التقييم والمتابعة.
ركز نتنياهو في خطاباته، بشكل مباشر وغير مباشر، على التأكيد بأنه لم يتلق أي تحذيرات أو إشارات مسبقة حول خطر يهدد “إسرائيل” بحجم “طوفان الأقصى”، في محاولة لتبرئة نفسه من أي تقصير.
في حين أقرّ قادة الأجهزة الأمنية والاستخبارية والجيش بمسؤوليتهم عن الفشل، وقدم بعضهم استقالاتهم أو أبدوا استعدادهم للمساءلة، واصل نتنياهو ليس فقط رفض تحمل المسؤولية، بل سعى لتعطيل جهود تشكيل لجنة تحقيق رسمية في الإخفاقات الأمنية والاستخباراتية التي كشفها الهجوم المفاجئ.
مع تصاعد الخلاف بين رئيس الشاباك رونين بار ورئيس الحكومة الإسرائيلية، قدم بار “رأيًا مكتوبًا” خلال اجتماع الحكومة الذي عُقد في 10 فبراير/شباط الماضي، يطالب فيه بضرورة تشكيل لجنة تحقيق رسمية حول إخفاقات 7 أكتوبر، في خطوة أثارت غضب نتنياهو، الذي هاجمه خلال الاجتماع قائلًا: “يدور الحديث عن موظف، ما علاقته بقرار لجنة التحقيق الحكومية؟”، في إشارة إلى رفضه تدخل رئيس الشاباك في هذا الملف، ومطالبًا إياه “بالتزام حدوده”.
وبعد رفض الحكومة طلب رئيس الشاباك حضور الاجتماع، قررت تأجيل تشكيل لجنة التحقيق إلى ما بعد ثلاثة أشهر، وهو قرار اعتبره معارضو نتنياهو محاولة جديدة لكسب الوقت وتجاوز تداعيات الأزمة.
وفي سياق التحريض على أي لجنة تحقيق محتملة، هدد وزير الاتصالات الإسرائيلي، شلومو كرعي، بعدم التعاون مع أي لجنة يتم تشكيلها بموجب قرارات المحكمة العليا، قائلًا: “هناك حكومة منتخبة في إسرائيل، ولن نسمح بوضع مصير التحقيق في أيدي قضاة يجب التحقيق معهم بأنفسهم”.
وفقًا للإذاعة الإسرائيلية العامة “كان”، كان رأي رونين بار الذي أغضب نتنياهو يقوم على أن غياب لجنة تحقيق رسمية يعزز انتشار “نظريات المؤامرة والمزاعم الكاذبة حول المجازر” التي وقعت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، معتبرًا أن تشكيل لجنة تحقيق هو “أمر ضروري لاستعادة ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة”، وأكد بار أن استمرار غياب اللجنة يفتح المجال أمام التكهنات والاتهامات المتبادلة داخل “إسرائيل”.
في موازاة ذلك، كشفت هيئة البث العام الإسرائيلية عن أن مكتب نتنياهو يضغط على الشاباك لتقديم تحقيقه حول الإخفاقات في الأيام القريبة المقبلة، بينما يطلب مسؤولو الجهاز مزيدًا من الوقت لاستكمال التحقيق، مشددين على أن “العمل لم ينتهِ بعد”، إلا أن التقارير تشير إلى أن نتنياهو يسعى إلى التعجيل بنشر التقرير الأمني بهدف إنهاء ولاية رونين بار.
إما الاستقالة أو الإقالة
يواصل بنيامين نتنياهو استخدام جوقة من الوزراء وأعضاء الكنيست والإعلام الموالي لتصفية خصومه السياسيين، وتمرير أجندته دون الحاجة إلى الظهور المباشر في الواجهة.
من أبرز أدواته في هذا الإطار حملات التسريبات والتصريحات المنسوبة إلى “مصدر مسؤول”، التي بات معروفًا أنها تصدر عن مكتبه شخصيًا، وتُستخدم لتوجيه الرأي العام، أو عرقلة قرارات، أو حتى تأجيج التوترات الداخلية والخارجية بما يخدم مصالحه.
ضمن هذا النهج، لجأ نتنياهو إلى نزع الشرعية عن خصومه في المؤسسات السياسية والعسكرية، وتصويرهم كعائق أمام “الانتصار في الحرب”، وقد عزز هذه المقاربة من خلال حملة إعلامية محمومة، مدعومة بوسائل التواصل الاجتماعي والمظاهرات الموجهة من أنصار اليمين المتطرف، لإظهار أن هناك “إجماعًا شعبيًا” على رؤيته، وأن استمرار الحرب هو الخيار الوحيد لتحقيق النصر.
نتيجة لهذه الاستراتيجية، وجدت قيادات الجيش والمنظومة الأمنية نفسها تحت حملة تحريض ممنهجة يقودها وزراء وأعضاء في الائتلاف الحاكم، تهدف إلى إسكاتها وقمعها، وربما دفعها إلى الاستقالة.
في هذا السياق، كشفت صحيفة معاريف عن أن العلاقة بين نتنياهو ورئيس الشاباك رونين بار وصلت إلى أدنى مستوياتها، وسط مطالبات متزايدة من محيط رئيس الوزراء بإقالته. ومع ذلك، يدرك نتنياهو أن اتخاذ قرار الإقالة في الظروف الراهنة قد تكون له تبعات سياسية وأمنية معقدة، ما يدفعه إلى البحث عن بديل أكثر سلاسة، فوفقًا لمصادر الصحيفة، يفضل نتنياهو أن يدرك بار الرسالة بنفسه ويقدم استقالته، بدلًا من أن يظهر كضحية إقالة سياسية.
في هذا الإطار، عمد نتنياهو إلى إقصاء رونين بار وتهميشه بشكل ممنهج، مستبعدًا إياه من الملفات الحساسة، وآخرها مفاوضات التهدئة ولجان التحقيق، ما يضع رئيس الشاباك أمام خيارين: إما أن يبقى في منصبه ريثما ينضج قرار الإقالة، متحملًا حملات التصفية السياسية والمعنوية، أو أن يستقيل طواعية، كما فعل رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي.
تفكيك الدولة العميقة
منذ توليه رئاسة الحكومة، جعل بنيامين نتنياهو إعادة تشكيل مؤسسات الدولة وفق رؤيته اليمينية جزءًا محوريًا من برنامجه السياسي، مستهدفًا القضاء والأجهزة الأمنية لتفكيك “الدولة العميقة” ذات الطابع العلماني-المهني، واستبدالها بهيكل أكثر خضوعًا للحكومة التنفيذية وأجندة اليمين الصهيوني.
بدأ هذا المسار بـ”التعديلات القضائية” عام 2023، والتي استهدفت تقليص صلاحيات المحكمة العليا وتعزيز سيطرة الحكومة، في خطوة أثارت تحذيرات قادة الجيش والشاباك والموساد، الذين رأوا أن إضعاف استقلالية القضاء يقوض ثقة الجنود والضباط في قرارات القيادة السياسية. بالتوازي كذلك، عمل نتنياهو على إعادة هندسة قيادة الأجهزة الأمنية، لكن خطواته كانت بطيئة بسبب العقبات المؤسسية.
شكلت أحداث 7 أكتوبر فرصة ذهبية لتسريع هذه التغييرات، إذ استثمر نتنياهو الإخفاق الأمني المدوي لإقالة أو دفع عدد من قادة الجيش والأمن إلى الاستقالة، واستبدالهم بقيادات أكثر انسجامًا مع رؤيته.
في هذا الإطار استقال رئيس الأركان هرتسي هاليفي تحت الضغوط، كما أُقيل وزير الحرب يوآف غالانت بعد صراع طويل، أما رئيس الشاباك، رونين بار، فهو الهدف التالي، حيث يجري تهميشه تمهيدًا لاستبداله بشخصية أكثر ولاءً.
بهذه الاستراتيجية، يسعى نتنياهو إلى إحكام قبضته على القضاء والجيش والشاباك، لضمان سيطرة مطلقة على مفاصل دولة الاحتلال دون معارضة داخلية حقيقية. ومع اقتراب استحقاقات التحقيق في فشل 7 أكتوبر/تشرين الأول، والمرحلة الثانية من مفاوضات التهدئة، وحسم مستقبل الحرب على قطاع غزة، يبدو أن محاولات نتنياهو لهندسة “ارتدادات الطوفان” الداخلية ستحدد ملامح مستقبل “إسرائيل” لسنوات قادمة.