يبدو أن آثار الزلزال المدمر الذي أحدثته تفجيرات بقيق (شرق السعودية) أول أمس التي استهدفت معملين تابعين لشركة أرامكو لن تنتهي في القريب العاجل، فبجانب تسببها في خفض الإنتاج النفطي للمملكة إلى النصف تقريبًا فهناك العديد من التبعات الأخرى التي ربما تصيب سوق النفط العالمية بحالة من فقدان التوازن.
منذ الوهلة الأولى توجهت أصابع الاتهام الأمريكية صوب طهران، متهمة إياها بالوقوف وراء هذه العملية التي تعد الأكبر والأخطر على البنية التحتية النفطية لأكبر منتج للنفط في العالم، ورغم تبني الحوثيين للحادث في بيان رسمي، فإن ذلك لم يقنع إدارة الرئيس دونالد ترامب.
ورغم السجال الإعلامي والسياسي بين البلدين، الذي وصل حد تهديد قيادي بالحرس الثوري الإيراني بأن القواعد الأمريكية ستكون في مرمى النيران الإيرانية حال توجيه أي ضربة عسكرية للبلاد، فإن البعض ذهب إلى أن هذا الوقت هو الأكثر ملاءمة لعقد لقاء بين زعيمي البلدين، في محاولة لتخفيف حدة التوتر في المنطقة، لا سيما أن ترامب لا يود التصعيد وهو على أبواب الانتخابات الرئاسية، حيث يسعى جاهدًا لتجميد الملفات الساخنة قبل بدء حملته الانتخابية.
واشنطن تتهم وطهران تنفي
بعد ساعات قليلة من وقوع التفجيرات غرد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على حسابه الشخصي على “تويتر” قائلاً إنه لا دليل على أن الهجمات التي استهدفت السعودية انطلقت من اليمن، مضيفًا أن طهران تقف وراء نحو مئة اعتداء على السعودية، والولايات المتحدة ستعمل مع حلفائها على إخضاعها للمساءلة عن عدوانها.
Tehran is behind nearly 100 attacks on Saudi Arabia while Rouhani and Zarif pretend to engage in diplomacy. Amid all the calls for de-escalation, Iran has now launched an unprecedented attack on the world’s energy supply. There is no evidence the attacks came from Yemen.
— Secretary Pompeo (@SecPompeo) September 14, 2019
فيما أشار مسؤول أمريكي كبير إلى أنه “لا يوجد شك في أن إيران مسؤولة عن هذا. مهما حاولت أن تغير ذلك، لا مجال للهروب. لا احتمال آخر. الدليل يشير إلى أنه لا يوجد اتجاه آخر غير مسؤولية إيران عن هذا” وفق ما ذكرت وكالة “رويترز“.
وأضاف المسؤول أن نطاق ودقة الهجمات على منشأتي النفط السعوديتين يظهران أنها لم تكن من تنفيذ الحوثيين وجاءت من اتجاه غربي – شمالي غربي، وليس اليمن في الجنوب، مستشهدًا بتقييمات الاستخبارات، ومن بينها صور الأقمار الصناعية، لتأكيد وجهة نظره بمسؤولية إيران عن هجمات السبت التي استهدفت المملكة، لافتًا إلى أن تلك المعلومات أظهرت أن الضربات لا تتفق مع نوع الهجوم الذي يمكن أن ينطلق من اليمن.
سجل خام برنت أكبر مكسب بالنسبة المئوية خلال يوم منذ بداية حرب الخليج عام 1991
وكانت الأقمار الصناعية التي نشرتها الحكومة الأمريكية قد أظهرت تأثر 19 نقطة على الأقل في اثنتين من منشآت الطاقة السعودية، فيما قال خبراء إن الصور تظهر تأثيرات تتفق مع هجوم إيراني وليس هجومًا يمنيًا، كما أشار الحوثيون، إضافة إلى رصد طائرات إضافية، من الواضح أنها لم تصل إلى أهدافها، استحوذت عليها قوات الأمن السعودية ويجري تحليلها من وكالات الاستخبارات السعودية والأمريكية.
وفي المقابل رفضت طهران الاتهامات الأمريكية بأن لها دورًا في الهجمات على المنشآت النفطية السعودية وقالت إنها “غير مقبولة” و”بلا أساس”، حسبما أشار المتحدث باسم وزارة الخارجية عباس موسوي في تصريحات نقلها التليفزيون الإيراني، مضيفًا “نستنكر هذه الاتهامات ونعتبرها غير مقبولة وبلا أساس على الإطلاق”.
Saudi Arabia oil supply was attacked. There is reason to believe that we know the culprit, are locked and loaded depending on verification, but are waiting to hear from the Kingdom as to who they believe was the cause of this attack, and under what terms we would proceed!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) September 15, 2019
هزة في أسواق النفط
تعرضت سوق النفط العالمية لهزة عنيفة بعد الإعلان عن التفجيرات، حيث صعدت أسعار النفط، اليوم الإثنين، بصورة جنونية. إذا سجّل خام برنت أكبر مكسب بالنسبة المئوية خلال يوم منذ بداية حرب الخليج عام 1991، وقفزت العقود الآجلة لخام برنت ما يصل إلى 19.5% إلى 71.95 دولار للبرميل خلال تعاملات اليوم، وبحلول الساعة 0343 بتوقيت جرينتش ارتفع عقد الشهر المقبل إلى 66.20 دولار للبرميل بزيادة 5.98 دولار أو 9.9% مقارنة بالإغلاق السابق.
فيما قفزت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الأمريكي الوسيط لما يصل إلى 15.5% إلى 63.34 دولار للبرميل وهو أكبر مكسب بالنسبة المئوية خلال يوم منذ 22 من يونيو/حزيران 1998، وبحلول الساعة 0343 بتوقيت جرينتش، ارتفع عقد الشهر المقبل إلى 59.73 دولار للبرميل بزيادة 4.88 دولار أو 8.9%.
وكانت شركة أرامكو قد قالت إن الهجمات خفضت إنتاج النفط بنحو 5.7 مليون برميل يوميًا، ولم تقدم الشركة إطارًا زمنيًا لاستئناف الإنتاج بالكامل، فيما كشف مصدر مطلع لـ”رويترز” أن العودة إلى الطاقة الإنتاجية الكاملة قد تستغرق أسابيع، فيما أشار آخرون أن الأمر قد يحتاج إلى عدة أشهر، وهو ما يعني استمرار الهزة في الأسعار لفترة ليست بالقصيرة.
أمريكيًا.. وجه الرئيس دونالد ترامب بالاستفادة من احتياطات النفط عند الحاجة تزامنًا مع ارتفاع أسعار النفط، مضيفًا في تغريدة له على تويتر “استنادًا إلى الهجوم على المملكة العربية السعودية، الذي قد يكون له تأثير على أسعار النفط، سمحت بالسحب من مخزون النفط الإستراتيجي إذا دعت الحاجة، وستكون الكمية التي سيتم تحديدها كافية للحفاظ على إمدادات السوق”.
التفجيرات رفعت أسعار النفط 19.5%
رفض الرد العسكري
رغم دعوات وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” إلى ضبط النفس في التعامل مع التفجيرات، فإن إدارة ترامب تفكر في رد عسكري حاسم داخل قلب إيران وذلك وفق ما ذكرت صحيفة “واشنطن بوست”، الأمر الذي رفضه عدد من أعضاء الكونغرس.
السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي ردًا على احتمالية توجيه ضربة عسكرية قال “ليس لنا حلف دفاعي مشترك مع السعودية ولا يجب أن نتظاهر بذلك”، فيما علق السيناتور الديمقراطي البارز بيرني ساندرز بأن “الكونغرس لن يمنح ترامب السلطة لشن حرب كارثية فقط لأن النظام الوحشي السعودي طلب منه ذلك”.
أما السيناتور الديمقراطي تيم كين فاعتبر أنه يجب على الولايات المتحدة ألا تذهب للحرب لحماية النفط السعودي، وذلك ردًا على ما قالته مستشارة ترامب، كيليان كونواي بأن رد فعل بلادها على الهجوم على المواقع النفطية السعودية لا يزال قيد الدراسة ومفتوحًا على كل الاحتمالات.
واشنطن لن تحتمل المزيد من التصعيد في الوقت الراهن، خاصة لو استمرت أزمة استهداف الناقلات البحرية أو البنية التحتية النفطية في المملكة، التي يبدو أنها لن تكون عصية على الإيرانيين
لقاء مرتقب وترامب يشكك
رغم التداعيات التي أحدثتها التفجيرات وما تخللها من سجال بين طهران وواشنطن، بين الاتهام والنفي، أعلن البيت الأبيض، أمس الأحد، أن الرئيس الأمريكي قد يلتقي نظيره الإيراني حسن روحاني، ولم تستبعد مستشارة البيت الأبيض كيليان كونواي احتمال اللقاء في أقرب وقت.
وصرحت كونواي في حديثها لشبكة “فوكس نيوز صنداي” أن ترامب “سيفكر” في تنفيذ اقتراحه بعقد اللقاء مع روحاني في الاجتماع المقبل للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، مضيفة أن “الظروف يجب أن تكون دائمًا جيدة ليبرم هذا الرئيس اتفاقًا أو يعقد اجتماعًا”.
وأضافت للمحطة أن عقوبات ترامب وحملة ممارسة “الحد الأقصى من الضغط ” على إيران بشأن برنامجها النووي والصاروخي ستستمر سواء اجتمع الزعيمان أم لا، مضيفة “أنتم لا تساعدون قضيتكم جيدًا بمهاجمة السعودية والمناطق المدنية والبنية التحتية الحيوية التي تؤثر على أسواق الطاقة العالمية”.
غير أن ترامب نفسه، صبيحة هذا اليوم، فند تصريحات مستشارة البيت الأبيض، مقللاً من فرص الاجتماع مع مسؤوليين إيرانيين، قائلاً في تغريدة له: “الأنباء الكاذبة تقول إنني على استعداد للاجتماع مع إيران دون شروط، هذا غير صحيح (كالمعتاد)”.
The Fake News is saying that I am willing to meet with Iran, “No Conditions.” That is an incorrect statement (as usual!).
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) September 15, 2019
وعلى الجانب الآخر اعتبر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، أن إلقاء اللوم على إيران لن ينهي الكارثة وقبول مقترحاتها فقط يمكن أن ينهي الحرب الدائرة في اليمن، مؤكدًا أن واشنطن التجأت إلى “سياسة أقصى الخداع” بعد فشل سياسة “أقصى العقوبات”، بحسب تعبيره.
فيما حذر الاتحاد الأوروبي من “تهديد حقيقي على الأمن الإقليمي” في الشرق الأوسط، معتبرًا أن الهجمات التي تبناها الحوثيون “تقوض” الجهود التي تسعى إلى خفض التصعيد والحرص على الحوار، داعيًا إلى بذل المزيد من الجهد لتخفيف حدة التوتر تجنبًا لمزيد من التداعيات الناجمة عن الاستمرار في التصعيد.
خبراء أشاروا في حديثهم لـ”نون بوست” أن واشنطن لن تحتمل المزيد من التصعيد في الوقت الراهن، خاصة لو استمرت أزمة استهداف الناقلات البحرية أو البنية التحتية النفطية في المملكة، التي يبدو أنها لن تكون عصية على الإيرانيين رغم صفقات التسليح المتعددة التي أبرمها السعوديون.
وأضافوا أن لجوء واشنطن للاحتياطي النفطي تزامنًا مع ارتفاع الأسعار الناجم عن التفجيرات لن يستمر طويلاً، خشية تعرض المخزون الأمريكي لأي هزة تضع مستقبل البلاد في دائرة الخطر، وعليه ستعمل إدارة ترامب على محاولة عودة توازن الأسعار عبر إعادة الثقة للسوق من خلال إنتاج المعدل اليومي المعتاد من النفط السعودي.
ومن ثم لا بد من تحرك سريع لاحتواء الموقف مع الجانب الإيراني الذي بات من الواضح أنه سيمضي قدمًا في طريقه، حتى تعيد واشنطن النظر في العقوبات المفروضة عليه من جانب، وفتح باب التفاوض بشأن مستقبل الاتفاق النووي مع الشركاء الأوروبيين من جانب آخر، مستغلين الظرف الزمني الحرج لترامب، فالاستعداد للانتخابات الرئاسية ربما يعرقل أي تصعيد جديد، ومن ثم ليس أمامه إلا تهدئة الأجواء، تجنبًا لأي مغامرة تقلب الطاولة عليه داخليًا، وهو ما ستكشفه الأيام القادمة.