يظهر للمطلع السريع على التاريخ الإسلامي الممتد لـ14 قرنًا منذ دولة المدينة النبوية وإلى يومنا الحاليّ ظهور ممالك وخلافات ودول وإمارات مختلفة الأشكال حكمت عالمنا الإسلامي، لكن صِبغة الدول الإسلامية ذات المذهب السُني كانت الأكثر وضوحًا وتجليًا للمطالع.
سوف نحاول في هذه المادة تسليط الضوء على ممالك ودول حكمت أجزاءً واسعة من جغرافية العالم الإسلامي وفترات طويلة من هذا التاريخ لكن بخلفية مذهبية مختلفة، عبر استعراض ثلاث من الدول والممالك الشيعية كنموذج واضح للحكم الشيعي في تاريخنا الإسلامي.
الأدارسة (172هـ – 308هـ).. دولة التشيع السياسي وليس المذهبي
بعد انهيار الدولة الأموية وتأسيس الدولة العباسية على أنقاضها، ظهرت دعوات متعددة تطالب بأحقية أولاد علي بن أبي طالب بالحكم من أولاد العباس بن عبد المطلب، وسميت تلك الدعواة بالعلوية، وقمع العباسيون تلك الدعوات بقسوة وحزم، وكان بين تلك الدعوات دعوة عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب التي قمعها العباسيون بمعركة فخ بمكة المكرمة وعلى إثرها غادر أحد أبناء عبد الله بن حسن هاربًا إلى مصر ومنها إلى المغرب الأقصى بعيدًا عن يد الهادي الخليفة العباسي.
يعتبر التشيع الذي وصفت به دولة الأدارسة هو تشيع سياسي بسبب العداء للدولة العباسية والأموية، ولم يكن تشيعًا مذهبيًا، فالدولة الإدريسية كان القضاء فيها على المذهب المالكي
الشاب إدريس الهارب من بطش العباسيين تمكن من تأسيس أول دولة علويّة في التاريخ وهي دولة الأدارسة في المغرب الأقصى ولقب بـ”إدريس الأول”، وتعتبر هذه الدولة ثاني دولة مستقلة عن الخلافة العباسية بعد الدولة الأموية في المغرب، واعتمد على حب أهل المغرب لآل البيت في نشأة دولته، حيث تنازل له أمير أوربة عن الملك بعد أشهر من وصوله سنة 172هجرية، واستطاع خلال سنتين أن يوحد المغرب ويجمع شمله.
يعتبر التشيع الذي وصفت به دولة الأدارسة هو تشيع سياسي بسبب العداء للدولة العباسية والأموية ولم يكن تشيعًا مذهبيًا، فالدولة الإدريسية كان القضاء فيها على المذهب المالكي، ويعزز ذلك ما ذكره الدكتور سعدون عباس نصر الله في كتابه “دولة الأدارسة في المغرب، العصر الذهبي”، حيث يصف واقع الدولة الإدريسية “ومما يثير الاستغراب أن الأدارسة كانوا علويين شيعة، والقضاء في دولتهم على المذهب المالكي”.
مدينة فاس التي أسسها الأدارسة في المغرب
ويؤيد هذا الرأي ما أورده الدكتور محمد طه الحاجري في كتابه “مراحل التشيع في المغرب العربي وأثرها في الحياة الأدبية” أن التشيع المذهبي لم يدخل للمغرب إلا على يد الفاطميين، حيث يقول في الفصل الأول من الكتاب: “دولة الأدارسة لم تكد تفرض مذهبًا معينًا، أو أن ما فرضته من ذلك إنما كان في حدود ضيقة”.
انتهت الدولة الإدريسية في المغرب بعد قرنين من الحكم نتيجة الحرب الداخلية مع الخوارج وتمدد الأمويين والفاطميين لتسقط بيد الأخيرة سنة 974م وتنتهي بذلك أول دولة علويّة هاشمية في التاريخ الإسلامي، لكنها تركت أثرًا عظيمًا قائمًا إلى اليوم بتأسيسها لأحد أهم مدن المغرب وهي مدينة فاس التي اعتبرت مركزًا رديفًا لقرطبة الأندلسية في نشر الثقافة والعلوم وما زالت قائمة إلى اليوم كثاني أكبر مدن المغرب.
الفاطميون (286هـ – 567هـ).. أول خلافة على المذهب الشيعي
لا يمكن الزعم بأن الدولة الفاطمية المتسعة الأطراف جغرافيًا والممتدة على ثلاث قرون من الزمن تعتبر من الممالك المنسية في تاريخنا الإسلامي، لكن مما دفعني لوضعها ضمن هذه المقال، هو انتهاء أثرها المذهبي في البلدان الشاسعة التي حكمتها من تونس والمغرب مرورًا بمصر وصولاً لبلاد الشام والحجاز، وعلى الرغم من أن الدولة التي تأسست على أساس مذهبي الإسماعيلي وهو ثاني أكبر فروع المذهب الشيعي بعد الإثنى عشرية وفرضته على الناس فإن أثرها في هذا المجال تحديدًا أصبح منسيًا اليوم، على العكس من باقي الآثار المعمارية والعلمية التي بقت شواهد على إنجازات الفاطميين.
أسس الحاكم بأمر الله دار الحكمة وهي الشكل المستنسخ لبيت الحكمة في بغداد، كما شهد الشعر والأدب والفلسفة تطورًا مهمًا ولعل أبرز السمات الفلسفية للعصر الفاطمي هي جماعة إخوان الصفا
نشأت الدولة الفاطمية “العبيدية” على يد مؤسسها عُبيد الله المهدي بالله المنصب لاحقًا كأول خليفة شيعي ينازع بغداد الخلافة الذي اختلف تاريخيًا بصحة نسبه إلى علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة الزهراء، حيث يُرجِع الفاطميون نسبهم إلى مُحمَّد بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق حفيد الحسين بن علي بن أبي طالب، بالمُقابل أنكر عليهم العباسيون والأمويون وعدد من كتاب التاريخ والنسابة هذا النسب، وأرجعت أصل عُبيد الله المهدي إلى الفُرس وتحديدًا إلى أحد أشهر دعاة الإسماعيلية عبد الله بن ميمون القدْاح وتأتي أهمية النسب ومركزيته في تاريخ الدولة لكونه أساس دعوة الفاطميين بأحقيتهم في الخلافة كونهم من أبناء علي بن أبي طالب وأولاد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عالم البصريات الحسن بن الهيثم أبرز من عاصر الحقبة الفاطمية
أوغل الفاطميون في تعزيز هذه النقطة، بداية من اختيار اسم دولتهم “الفاطميين” نسبة إلى فاطمة الزهراء وليست نهاية بألون الراية “العلم” الذي يرمز لدولتهم وهو اللون الأخضر نسبة إلى لون الرداء الذي ارتداه علي بن أبي طالب يوم هجرة الرسول ونومه في فراشه، كما أوغل خصومهم من الأمويين في الأندلس والعباسيين في بغداد لاستدعاء قضية النسب للطعن في مشروعية الدولة الفاطمية.
انتهت الدولة الفاطمية في عهد الخليفة العضد بعد خطوات متتالية من وزيره صلاح الدين الأيوبي الذي كان بيده مقاليد الحكم الحقيقية في مصر، حيث أمر بإنشاء المدارس التي تعلم المذهب الشافعي مما حصر المذهب الإسماعيلي إلى أن اندثر تقريبًا وانعدم أنصاره في مصر
اتسعت الدولة الفاطمية بشكل كبير لتشمل عموم الساحل لشمال إفريقيا بعد انطلاقها من مدينة المهدية التي أسسها الفاطميون كأول مدينة ومركز لحكمهم وتقع حاليًّا جنوب العامة التونسية، ولكن النقطة الجهورية والمفارقة الحقيقية في تاريخ الفاطميين هي قدرتهم على دخول مصر وضمها للخلافة الفاطمية.
يعتبر الإرث الفاطمي متعدد الجواب، منه المعماري حيث خلف الفاطميون عددًا من المدن العظيمة بداية بالمهدية أول عواصمهم وليس نهاية بالقاهرة، وساهموا في تطور العلوم ولعل أبرز شخصيات العصر الفاطمي هو عالم الفلك والرياضيات الحسن بن الهيثم، وفي سنة 395هـ أسس الحاكم بأمر الله دار الحكمة وهي الشكل المستنسخ لبيت الحكمة في بغداد، كما شهد الشعر والأدب والفلسفة تطورًا مهمًا ولعل أبرز السمات الفلسفية للعصر الفاطمي هي جماعة إخوان الصفا.
انتهت الدولة الفاطمية في عهد الخليفة العضد بعد خطوات متتالية من وزيره صلاح الدين الأيوبي الذي كان بيده مقاليد الحكم الحقيقية في مصر، حيث أمر بإنشاء المدارس التي تعلّم المذهب الشافعي مما حصر المذهب الإسماعيلي إلى أن اندثر تقريبًا وانعدم أنصاره في مصر، وتمكن الأيوبي من إفشل محاولة للانقلاب عليه واغتياله، ثم أمر بانتزاع آخر ما تبقى للخليفة الفاطمي من حقوق وهو الدعاء له بخطبة الجمعة، حيث تم إسقاط اسم العضد الفاطمي والدعاء للخليفة العباسي المستضيء بنور الله العباسي في منابر مصر ولم يحرك العضد شيئًا بسبب مرضه الذي أدى لوفاته، وبموت العضد طويت صفحة الخلافة الفاطمية في تاريخنا الإسلامي.
البويهيون (333هـ – 446هـ): الدولة الشيعية المتحكمة بالخلافة العباسية
ثلاثة أبناء لرجل بسيط من بلاد الديلم (إيران) تمكنوا من حكم إيران والعراق وإخضاع الخلافة العباسية إلى سلطانهم متحكمين بها، تبدأ قصة آل بويه المنحدرين من مناطق شمال الديلم في إيران بصعود شجاع بويه ووصوله لمناصب قيادية في الدولة السامانية ثم الزيارية ومنها استمد أولاده السلطة وتوسعوا في حكم مناطق في إيران وصولاً لدخولهم بغداد سنة 945م في زمن الخليفة العباسي المستكفي، ولقب الخليفة القائد البويهي أحمد بـ”معز الدولة” وأصبح بذلك أول أمراء البويهيين في بغداد، ولقب أخوه الأكبر علي بـ”عماد الدولة” وأخوه الثاني الحسن بـ”ركن الدولة”، ومنذ هذا التاريخ وقعت الخلافة العباسية تحت سيطرة الأسرة البويهية.
انتهت الدولة البويهية بدخول ركن الدين طغرل بك بن سلجوق ثالث حكام السلاجقة ومؤسس السلطنة السلجوقية إلى بغداد بدعوة من الخليفة العباسي
شهدت بغداد مناوشات مذهبية مثيرة بين الشيعة المعتمدين على سلطة وزراء بويه الحكام الفعليين والسنة المعتمدين على رمزية الخليفة العباسي وكذلك الدعم التركي الذي مثلته الدولة السلجوقية، وظهرت لأول مرة في بغداد طقوس مذهبية متعددة الأشكال مثل إحياء يوم الغدير (اليوم الذي أعلن فيه الرسول الولاية لعلي بن أبي طالب وفق الروايات الشيعية) من الشيعة، قابله إحياء يوم الغار (وهو يوم الذي يصادف دخول الرسول وأبو بكر الغار في رحلة الهجرة) من السنة، والحزن على مقتل الحسين بن علي من الشيعة قابله الحزن على مقتل مصعب بن الزبير من السنة وهكذا.
كادت أن تنفجر بغداد بحرب طائفية أكثر من مرة خلال فترة الحكم البويهي خاصة فيما تعلق بكتابة اللعن للصحابة على أبواب مساجد بغداد الأمر الذي دفع السنة في بغداد للثورة أكثر من مرة.
رغم ذلك فقد اتسم عهد الدولة البويهية بالكثير من الانفتاح المذهبي ويعود ذلك لوجود رمزية سنية عليها وهي الخلافة العباسية يتحكم بشؤونها وزراء شيعة من آل بويه، رغم الانحياز المذهبي الواضح وتسلط الوزراء البويهيين الشيعة على الحكم حتى وصل الأمر لمنح الخليفة العباسي راتبًا مقطوعًا دون تدخله بأي من أمور الحكم، لكن ذلك لم يمنع من ظهور حركة فكرية نشطة لعل أبرز سماتها ما ذكره الخطيب البغدادي في كتابه “تاريخ بغداد” من تعدد المناظرات والمحاججات في العهد البويهي بين علماء السنة والشيعة، ولعل القمة بينها مناظرات الباقلاني من كبار علماء السنة والمفيد من كبار علماء الشيعة.
حدود حكم الدولة البويهية عام 790م
انتهت الدولة البويهية بدخول ركن الدين طغرل بك بن سلجوق ثالث حكام السلاجقة ومؤسس السلطنة السلجوقية إلى بغداد بدعوة من الخليفة العباسي وإخراج البويهيين منها مسقطًا بذلك الحكم البويهي في بغداد وخاتمًا أحد أبرز التجارب للحكم الشيعي في تاريخنا الإسلامي.
الخاتمة
لا تقتصر التجربة الشيعية في الحكم على الدول الواردة في هذه المقال، فقد كانت هناك دول وممالك حكمت بالمذهب الشيعي أو اعتنق قادتها المذهب ولها تأثير مهم في التاريخ الإسلامي مثل الإمارة الحمدانية في الموصل وحلب، والصفوييون في إيران، والقرامطة في شبه الجزيرة العربية وغيرهم، وقد اخترت ثلاثة أشكال من الحكم في هذا المقال مختلفة التفاصيل: أولها الحكم السياسي الشيعي وليس المذهبي المتمثل بالأدارسة، وثم الحكم على شكل خلافة شيعية إسماعيلية مثل الفاطميين، ونهاية بدولة شيعية تحت خلافة سنية وهي الدولة البويهية.
يهدف هذا المقال كغيره في ملف ممالك منسية إلى تعزيز فهمنا لتاريخنا الإسلامي والتصالح معه بما له وما عليه مدركين أن كل الدول بغض النظر عن صبغتها المذهبية كان لها مالها من إنجازات وشواهد عظيمة ومساهمات مفيدة في الحضارة البشرية، وعليها ما عليها من هفوات وأخطاء وحتى كوارث، والتاريخ لا يمكن الاطلاع عليه بالنظرة الثنائية أسود وأبيض وإغفال هذا التفاوت البشري المعقد والمتداخل في قيام الممالك والدول وأفولها.