استنادًا إلى قصة حقيقية، يعرض فيلم “حياة مخفية” للمخرج الأمريكي الشهير، تيرنس ماليك، قصة بطل غير معروف، اسمه فرانز باجير شتاتر، حيث تدور الأحداث حول موقف الشاب النمساوي من التجنيد الإجباري الذي فرضه أدولف هتلر على النمساويين جميعًا من أجل الدفاع عن النازيين في الحرب العالمية الثانية، ولكن فرانز رفض الانصياع لقواعده، بناءً على مبادئ أخلاقية وقيم إنسانية تمنعه من ارتكاب الجرائم والانتهاكات بحق الآخرين.
ورغم أن موقف فرانز لم يكن مدفوعًا بدوافع سياسية، إلا أنه وصم بالعار اجتماعيًا وتم تهديده بالإعدام بتهمة الخيانة، مما زاد من الضغوط النفسية عليه ولا سيما بعدما التهمت التساؤلات والأفكار والكوابيس رأسه ولم يعد قادرًا على الاختيار بين إيمانه الشخصي وقواعد النظام، ومع ذلك ووسط هذه الصراعات الداخلية لم يتخلى فرانز عن موقفه، ففي المشهد الأخير من الفيلم يظهر عدد من السجناء الذين تم اقتيادهم واحدًا تلو الآخر إلى المقصلة بعد أن ينتهي الحارس من تنظيف الدماء بالتدريج.
ودون أن تصور الكاميرا كيف تُقطع الرؤوس، يصل فرانز إلى النهاية، وبذلك انتهت معه الحياة البديعة والسعيدة التي كان يعيشها بهدوء ورغد مع زوجته في الريف النمساوي بصحبة بناتهن الثلاث، عقابًا له على استنكافه ضميريًا ورفضه الخدمة العسكرية، فمن هم المستنكفون ضميريًا؟ وما أسباب اعتراضهم على الخدمة في الجيش؟
حكاية المستنكفين الضميرين في التاريخ والقانون
يُعرف أول مستنكف في التاريخ باسم “ماكسيميليانوس”، وهو ابن أحد قدامى الجنود الرومانيين، دُعى عند بلوغه سن الحادية والعشرين إلى الالتحاق بجيش الجند الروماني. إلا أنه، أعلم حاكم والية نوميديا أنه لا يستطيع بسبب قناعاته الدينية التي تحرم عليه القتال، وأصر ماكسيميليانوس على رفضه في الانخراط في سلك العسكرية، وبالمقابل أمرت الكنيسة بإعدامه، ثم أعلنته قديسًا.
وأثناء الحرب العالمية الأولى، قُدر عدد الذين رفضوا الخدمة العسكرية نحو 16 ألف شخص في المملكة المتحدة، وحوالي 4 آلاف شخص في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن قضيتهم لم تكسب وزنًا أو رواجًا إلا بعد حلول الحرب العالمية الثانية.
ورسميًا، ظهر هذا المصطلح في منتصف القرن التاسع عشر، ويدل على عدم رغبة المرء في أداء الخدمة العسكرية إرضاءً لضميره، ولفظة الضمير الإنجليزية “Conscience “عرفها قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية على أنها “وازع المرء الذي يفرق به بين الصواب والخطأ”.
بحسب منظمة الأمم المتحدة، يُعرف هؤلاء الأشخاص بـ “الأفراد الذين يطالبون بالحق في رفض أداء الخدمة العسكرية”، أو بمعنى أكثر بساطةً هم الأشخاص “الذين يرفضون حمل السلاح”، على أساس حرية الفكر أو الضمير أو الدين. ونظرًا لذلك يتم في بعض البلدان تعيين المستنكفين ضميريًا في خدمة مدنية بديلة عن التجنيد العسكري لأن بعض المستنكفين ضميريًا يعتبرون أنفسهم مسالمين أو غير عدوانيين أو معاديين للإمبريالية أو مناهضين للمنظومة العسكرية أو عديمي الجنسية من الناحية الفلسفية (لا يؤمنون بمفهوم الدولة).
غالبًا ما كانت المعتقدات الدينية نقطة الانطلاق في العديد من الدول لمنح مواطنيها حق الاستنكاف ضميرًا من الناحية القانونية، لكن الإعفاء توسع تدريجيًا وشمل الأشخاص الذين عارضوا الحرب لأسباب أخلاقية أو إنسانية بحتة
واستجابةً لمواقفهم وقضيتهم، نص قرار لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في 8 مارس 1995 على أنه “لا ينبغي استبعاد الأشخاص الذين يؤدون الخدمة العسكرية من الحق في الحصول على اعتراضات بدافع الضمير من الخدمة العسكرية”، ومن حينها بدأت عدد من المنظمات في جميع أنحاء العالم بالاحتفال بهذا المبدأ في 15 مايو/آيار باعتباره يوم الاعتراض الضميري الدولي. علمًا أن المصطلح امتد أيضًا إلى الاعتراض على العمل في المجمع الصناعي العسكري.
وغالبًا ما كانت المعتقدات الدينية نقطة الانطلاق في العديد من الدول لمنح مواطنيها حق الاستنكاف ضميرًا من الناحية القانونية، وتدريجيًا توسع الإعفاء وشمل الأشخاص الذين عارضوا الحرب لأسباب أخلاقية أو إنسانية بحتة. ولكن من جانب آخر جادلت بعض الدول هذا الحق بصرف النظر عن دوافعه، فلقد رأت أنه يمثل تهديد للسلامة العامة وتعطيل للنظام العام، عدا عن أنه يخالف الواجب الأخلاقي الواقع على المواطنين تجاه وطنهم، وتبعًا لهذه الأسس فرضت عقوبات مختلفة على المستنكفين ضميرًا مثل السجن أو الإعدام.
إذ أن هناك الكثير من المستنكفين ضمرييًا ممن هم مستعدون دائمًا وأبدًا لتحمل المعاناة والزج وخسارة أرواحهم في سبيل عدم التنازل عن قناعاتهم ومبادئهم. وحفاظًا على حياتهم، كررت لجنة حقوق الإنسان البيانات السابقة في عام 1998،وأضافت “ينبغي على الدول، الامتناع عن إخضاع المستنكفين ضميريًا للعقاب المتكرر لعدم القيام بالخدمة العسكرية، بل وشجعت الدول “على النظر في منح اللجوء لأولئك المستنكفين ضميرياً الذين أُجبروا على مغادرة بلدهم الأصلي خشية الاضطهاد بسبب رفضهم أداء الخدمة العسكرية، وانتهت هذه المحاولات بإقرار الاتحاد الأوروبي بهذا المطلب ضمن ميثاق الحقوق الأساسية.
تغيب هذه القوانين والتشريعات بشكل كامل عن دساتير وقواعد الأنظمة العربية التي تلزم مواطنيها بالخدمة العسكرية، مع وجود إعفاءات و استثناءات معدودة
ولكن من جانب آخر جادلت بعض الدول هذا الحق وامتنعت عن النظر على دوافعه، فلقد رأت أنه يمثل تهديد للسلامة العامة وتعطيل للنظام العام، عدا عن أنه يخالف الواجب الأخلاقي الواقع على المواطنين تجاه وطنهم، وتبعًا لهذه الأسس فرضت عقوبات مختلفة على المستنكفين ضميرًا مثل السجن أو الإعدام.
المستنكفين ضميريًا انتقائيًا.. أن تشارك في الحرب دون أن تحمل سلاحًا
يشمل ذلك الأفراد الذين عارضوا حربًا معينة، ولكن ليس كل الحروب، كما يضم الأشخاص الذين لديهم اعتراضات على حمل السلاح وبالتالي يُمكنهم هذا البند القانوني من الانتقال من الخدمة العسكرية إلى تأدية واجبات غير قتالية ولا تكون ذات طابق قتالي أو عقابي ولا تزيد عن المدة المعقولة المقارنة بفترة الخدمة العسكرية التقليدية، وإنما تتخذ نمط مدني لتحقيق المصلحة العامة واحترام الحق في حرية الوجدان والمعتقد.
وعادةً ما تكون الوظائف البديلة عبارة عن مشاريع كتابية أو طبية، وذلك ما عرضه فيلم “هاكسو ريدج” الذي سرد قصة ديزموند دوس، جندي أمريكي تطوع للخدمة العسكرية في جيش بلاده في أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكنه رفض استخدام البندقية وعمل بدلًا من ذلك كمسعف طبي، وبذلك بات أول معترض على الأوامر العسكرية وعلى أساسها حصل على ميدالية الشرف من الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، لإنقاذه العديد من الجرحى الذين وصل عددهم نحو 75 جريحًا.
وإلى ذلك، تغيب هذه القوانين والتشريعات بشكل كامل عن دساتير وقواعد الأنظمة العربية التي تُلزم مواطنيها بالخدمة العسكرية، مع وجود إعفاءات و استثناءات معدودة، فلقد قدمت كل من مصر ولبنان والعراق والسودان وسوريا رسالة مشتركة للجنة حقوق الإنسان عام 2002 تخبرها بأنها “لا تعترف بقابلية تطبيق مفهوم الاستنكاف الضميري عن الخدمة العسكرية في جميع الأحوال، ولكنها تسمح لمن لا يرغبون في أداء الخدمة العسكرية بدفع مبلغ مالي معين مقابل ذلك”.