في ظل التحولات السياسية والاقتصادية التي تشهدها سوريا، تجدد النقاش حول إمكانية استئناف اتفاقية للتجارة الحرة مع تركيا بعد أكثر من عقد على تعليقها، فلطالما كانت التجارة بين البلدين عنصرًا حيويًا في تعزيز علاقاتهما، حيث مثّلت الحدود المشتركة شريانًا للتبادل التجاري الذي وصلت قيمته في عام 2010 إلى 2,3 مليار دولار لأول مرة.
كانت العلاقات التجارية بين الجارتين محدودة للغاية لكن بعد إبرام الاتفاقية التي تم التوصل إليها بعد مفاوضات طويلة، فتحت الدولتان الأبواب أمام تدفق السلع وإزالة التعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز التجارية.
وفي حين صدرت تركيا منتجاتها الصناعية ذات الأسعار المناسبة إلى السوق السورية، وجدت المنتجات السورية الزراعية والنسيجية سوقًا واسعة في تركيا. كما أصبحت المناطق الحدودية مثل غازي عنتاب وحلب مراكز رئيسية لتسهيل التجارة، وأُطلق العديد من المشاريع المشتركة لتشجيع الاستثمار.
لكن مع اندلاع الثورة السورية وما تلا ذلك من تطورات، أعلن نظام الأسد في ديسمبر 2011 تعليق العمل باتفاقية التجارة الحرة مع أنقرة وفرض رسوم جمركية بنسبة 30% على المنتجات التركية. قابله قرار مماثل من قبل تركيا التي علقت علاقاتها الاقتصادية مع سوريا، ولجأت إلى أسواق بديلة.
واليوم بعد سقوط الأسد، تدفع تركيا التي تواجه مشاكل في التضخم باتجاه استئناف العمل باتفاقية “التجارة الحرة” وفتح علاقاتها التجارية مع سوريا الجديدة بما يخدم مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.
ووفقًا لوزير التجارة التركي عمر بولاط، فإن تركيا بدأت مفاوضات مع الجانب السوري بهدف تفعيل اتفاقية التجارة الحرة. وفي أواخر يناير الماضي، أعلنت وزارة التجارة التركية رفع العديد من القيود المفروضة على الصادرات والتجارة على حدودها مع سوريا.
لكن رغم المكاسب الإيجابية لسوريا من تفعيل اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، فيبدو أنها تخشى من أن إعادة تفعيلها في الوقت الحالي قد يقوض محاولات النهوض بالقطاع الصناعي وإعادة الإنتاج وتحريك عجلة الاقتصاد بسبب غياب الصناعة وتدهور البنية التحتية.
قبل عام 2011، اعتمد الاقتصاد السوري على أربعة ركائز رئيسية: النفط، السياحة، التصنيع والتصدير، والاستثمارات الأجنبية. أما اليوم، فلم يتبقَّ من هذه الركائز شيء يُذكر، لقد عانى قطاع الصناعة وبنيته التحتية من دمار كبير خلال سنوات الثورة.
وبالتالي، الظروف الآن بين قدرات الاقتصاد التركي والسوري ليست تنافسية، سوريا اليوم ليست سوريا 2010، ولا تواجه الشركات التركية المزدهرة نفس مشاكل الشركات السورية.
في الواقع، لدى تركيا 23 اتفاقية تجارة حرة سارية، ولا يمكن للاقتصاد السوري المنهك اليوم أن يصدر لتركيا مثل السابق، مما يجعل العلاقة الاقتصادية بين البلدين أحادية الجانب.
الفوائد المحتملة لسوريا
1. دعم الاقتصاد الوطني
يمكن أن تسهم اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا في توفير دفعة اقتصادية للسوق السوري من خلال تنمية قطاع الصادرات السورية، حيث تمثل تركيا بوابة الوصول إلى الأسواق الأوروبية والعالمية.
ويرى المحلل الاقتصادي جلال بكار أن الحكومة السورية تسعى إلى دعم الإنتاج وتوفير أسواق للمنتجات السورية في تركيا وأوروبا، وذلك لأن النموذج الإنتاجي هو الذي سيدعم الاقتصاد.
ورفعت تركيا القيود السابقة المفروضة على الصادرات السورية وسمحت للسلع والمنتجات السورية بالدخول إلى الأسواق التركية بحرية، مما يمثل خطوة مهمة للمصدرين السوريين باستخدام الأراضي التركية للتجارة العابرة.
بجانب ذلك، تستفيد سوريا من التجارة والاستثمار التركيين، إذ تسمح اتفاقية التجارة الحرة بإنشاء مناطق صناعية وتجارية مشتركة على الحدود لتعزيز النشاط التجاري، وهو ما يشجع على تأسيس شركات مشتركة بين البلدين، وبالتالي خلق فرص عمل للسوريين في قطاعات النقل والخدمات اللوجستية داخل سوريا.
كذلك يمكن لاتفاقية التجارة الحرة أن توفر المنتجات المستوردة من تركيا بأسعار تنافسية تلبي احتياجات السوق السوري وتخفض من تكلفة المنتجات المتوفرة للمستهلكين، مما يساعد في كبح التضخم، واستقرار الأسعار في الأسواق المحلية وتخفيف الأعباء الاقتصادية عن المواطنين السوريين.
ويرى المحلل الاقتصادي فراس شعبو، أن إعادة تفعيل “التجارة الحرة” تلبي احتياجات السوق المحلية وتحسن جودة المنتجات السورية، وأضاف شعبو إن الاتفاقية تمهد دخول المنتجات السورية إلى الأسواق التركية برسوم مخفضة، لكن تحقيق ذلك “يتطلب وقتًا وتخطيطًا مدروسًا”.
2. إعادة الإعمار
تحتاج سوريا إلى دعم مكثف لإعادة إحياء قدراتها الإنتاجية، حيث تعرض قطاعها الصناعي وبنيتها التحتية لدمار واسع النطاق خلال السنوات السابقة. ويتطلب إعادة بناء المصانع والمنشآت الإنتاجية ضخ استثمارات كبيرة لتأهيل هذه القطاعات واستعادة نشاطها.
وفي أعقاب سقوط نظام الأسد، تعهدت تركيا بتقديم خبراتها واستثماراتها في مجالات مثل البناء والنقل والطاقة، ومن المتوقع أن تلعب الشركات التركية دورًا هامًا في جهود إعادة الإعمار وتوفير الآلات والمعدات اللازمة لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة.
وفي حين تفرض سياسة التعريفات الجمركية تحديات على هذه الخطط من خلال زيادة التكاليف، فإن تفعيل الاتفاقية من شأنه أن يسمح بنقل البضائع والتكنولوجيا والخبرات بشكل أكثر سلاسة وأقل كلفة.
وبالتالي ستستفيد سوريا من تجارة الترانزيت ومن خفض تكاليف النقل والتصدير والحصول على جميع الآلات الصناعيه بدون جمارك، مما يساهم في إعادة البناء وتأمين المواد الأولية للتصنيع، والأهم تعزيز المشاريع التركية والسورية المشتركة.
وشدد بولات وزير التجارة التركي على أن أنقرة بفضل قوتها في القطاعين العام والخاص، ستضطلع بدور محوري في جهود إعادة الإعمار في سوريا، وأوضح أن هذه الجهود تُنفذ بطريقة منهجية وبأسلوب هادئ ومركّز.
في المقابل أعلنت الحكومة السورية عن انفتاحها للتعاون مع الشركات التركية في مجالات الزراعة والصناعة والبنية التحتية، مؤكدة استعدادها لتوفير فرص جديدة تتيح للشركات التركية المشاركة في جهود إعادة الإعمار داخل سوريا.
المنافع التي تجنيها تركيا
1.التوسع داخل السوق السوري
تفتح اتفاقية التجارة الحرة آفاقًا كبيرة لتركيا لزيادة حجم تجارتها ودعم الشركات التركية التي تسعى للتوسع والاستثمار في سوريا. ومع ارتفاع تكاليف العمالة في تركيا، يسعى المصنعون الأتراك إلى إنشاء منطقة صناعية داخل سوريا بهدف تقليل تكاليف الإنتاج في تركيا.
وهناك العديد من الشركات التركية التي تفكر الآن في الاستثمار في سوريا، بسبب أن الحد الأدنى للأجور في تركيا يصل إلى نحو 700 دولار، وهو مبلغ يمكن صرفه لأربعة عمال في سوريا.
ويدعم أحمد أوكسوز رئيس جمعية مصدري المنسوجات والمواد الخام في إسطنبول، هذا التوجه باعتباره وسيلة لخفض التكاليف وزيادة فرص العمل داخل سوريا.
كذلك يدرس مصنعو المنسوجات الأتراك إمكانية متابعة نقل أعمالهم داخل الأراضي السورية، وصرح علي جوزجو، مدير شركة ALG Tekstil في غازي عنتاب، لوكالة فرانس برس بأن شركته التي يشكل السوريون 70% من قوتها العاملة تسعى للتكيف مع المتغيرات وإنشاء ورش عمل داخل سوريا لضمان استمرارية الإنتاج هناك.
في الواقع ستكون أنقرة المستفيد الأكبر من تفعيل اتفاقية التجارة الحرة، وخاصة إذا تم تفعيلها في الوقت الحالي، فبسبب تعطل السوق في سوريا وتوقف المصانع التي تعاني من عدم القدرة على التشغيل بسبب ارتفاع التكاليف وغياب البنى التحتية، فإن كل ذلك يعني فتح الأسواق السورية أمام البضائع التركية.
2. دعم اقتصاديات المناطق الحدودية
من ضمن مكاسب اتفاقية التجارة الحرة لتركيا تحسين التجارة والتنمية بالمناطق الحدودية التركية، مثل غازي عنتاب وكيليس. وخلال زيارة للمنطقة الحدودية في يناير الماضي، أعلن وزير التجارة التركي عمر بولات أن أنقرة تخطط لزيادة الاستثمارات في إعادة تأهيل المعابر الحدودية المغلقة منذ فترة طويلة مع سوريا، إضافة إلى توسيع قدرات المعابر الحدودية بهدف تحسين كفاءة شحنات التصدير وتعزيز النشاط الاقتصادي.
3. تقوية النفوذ الاقتصادي لتركيا في المنطقة
تُعد سوريا بمثابة بوابة رئيسية لتركيا نحو دول الخليج، وأدى تأزم الأوضاع التجارية في سوريا خلال سنوات الثورة إلى تراجع النشاط التجاري التركي في هذه المنطقة. وتشير الإحصاءات إلى أن الطرق البديلة التي تستخدمها تركيا للتجارة مع الخليج تُعتبر أكثر كلفة وتستغرق وقتاً أطول، فضلًا عن قدرتها المحدودة على استيعاب الحجم الكبير للبضائع.
أيضًا تعتبر تركيا أن اتفاقية التجارة الحرة أداة لتعزيز الاستقرار السياسي والأمني على حدودها. وصرّح وزير التجارة التركي عمر بولات، قائلًا: “سوريا ذات أهمية استراتيجية لتركيا، كونها بوابة نحو الشرق الأوسط والخليج والمياه الدولية”.
كذلك يرى المسؤولون الأتراك أنه في حال نجاح اتفاقية التجارة الحرة مع سوريا، فإن ذلك سيشكل نموذجًا يُحتذى به لعقد صفقات تجارية مستقبلية في منطقة الشرق الأوسط.
الآفاق والتحديات المرتبطة بإعادة تفعيل التجارة الحرة
في الواقع، لا يقتصر التعاون التجاري بين تركيا وسوريا على المنافع والمكاسب الاقتصادية فحسب، بل يمتد ليشمل تعزيز التبادل الثقافي بين شعبي البلدين ودعم الروابط الاجتماعية بين المجتمعات الحدودية، لكن هناك تحديات تعرقل التقدم في إعادة العمل باتفاقية التجارة الحرة.
وتشمل البنية التحتية السورية التي تحتاج لإعادة تأهيل كبير لتسهيل حركة التجارة. بجانب التأثيرات الجيوسياسية، بما في ذلك العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، والتي تشكل عقبة أمام الشركات التركية للتعامل بحرية، والأهم من ذلك، يشكل تفوق السلع التركية تهديدًا للشركات السورية المحلية على المدى البعيد، مما قد يعرقل بعضًا من جوانب التعاون التجاري بين البلدين.
وفي حين تتطلع أنقرة إلى خفض الرسوم الجمركية وإعادة تنشيط اتفاقية التجارة الحرة في أسرع وقت ممكن، هناك مخاوف سورية من أن ذلك قد يقتل الصناعات السورية ويعزز الاعتماد المفرط على الواردات التركية، وتظهر بيانات جمعية المصدرين الأتراك أن صادرات تركيا إلى سوريا ارتفعت بنسبة 20% بعد الإطاحة بنظام الأسد وقفزت بأكثر من 38% في يناير الماضي.
صحيح أن اتفاقية التجارة الحرة يمكن أن تفتح أسواقًا جديدة للمنتجات السورية، لكن أيضًا يمكن أن تغرق سوريا بالسلع التركية، مما يرهق الصناعات المحلية. لذا في يناير الماضي، رفعت الإدارة السورية الرسوم الجمركية على بعض الواردات التركية بنسبة ما بين 300% إلى 500%. ومن الأمثلة الرئيسية على الزيادات الدقيق والأسمنت.
أثارت هذه السياسة التي تهدف إلى دعم خزينة الدولة السورية وحماية الصناعات المحلية، قلقًا بين التجار والمواطنين الذين يعانون بالفعل من ظروف معيشية صعبة.
وفي سرمدا، المركز التجاري لمحافظة إدلب، اندلعت احتجاجات، حيث أغلق أصحاب المتاجر محالهم تعبيرًا عن استيائهم من زيادة الرسوم الجمركية.
اتفاقية تجارية جديدة بين سوريا وتركيا
ويخشى كثيرون أن تؤدي هذه الزيادات إلى ارتفاع تكاليف السلع الأساسية مثل البنزين والدقيق والحديد، مما قد يُفاقم التضخم ويزيد من حدة الأزمة الاقتصادية. ويبدو أن هذه الاحتجاجات تشير إلى أن تطبيق هذه السياسة سيثير جدلًا واسعًا في مختلف أنحاء البلاد.
وتقول تركيا أن خفض الرسوم الجمركية على الضروريات الأساسية من شأنه أن يساعد في الحد من التضخم. والواقع أن رفع سوريا رسومًا على بعض الواردات التركية، أثار أيضًا غضب قادة الأعمال الأتراك، مثل نهاد أوزدمير من شركة ليماك، الذي صرح قائلًا: “من الصعب فهم هذا الارتفاع الكبير في الضرائب المفروضة على السلع التركية، خصوصًا في ظل تحسن العلاقات بين البلدين”.
وزارة التجارة التركية أرسلت وفدًا إلى دمشق وأجرى محادثات مع السلطات السورية لمعالجة زيادات التعريفات الجمركية، واتفق الجانبان على إعادة تقييم الرسوم الجمركية المطبقة على المنتجات التركية، وبدء محادثات لإعادة تفعيل اتفاقية التجارة الحرة.
تركيا وسوريا تتفقان على إعادة تقييم الرسوم الجمركية
وفقًا لموقع ميدل إيست آي، فإن أحد أهم الدوافع الرئيسية وراء زيادة السلطات السورية للرسوم الجمركية على المنتجات التركية هو تدفق السلع التركية إلى الأسواق السورية بكثافة، وخاصة في مدن مثل حماة وحمص ودمشق، مستفيدةً من ميزة الأسعار المنخفضة الناتجة عن الضرائب الجمركية المخفّضة.
كما أعربت الشركات الأردنية واللبنانية العاملة في سوريا عن استيائها من المنافسة غير العادلة التي خلقتها هذه الميزة لصالح السلع التركية. ولذا حاولت سوريا تطبيق رسومًا جمركية متساوية على جميع المنافذ الحدودية والإدارات الجمركية.
من منظور سوريا، تعكس هذه السياسة محاولة لاستعادة استقرار اقتصادها بعد سنوات من الحرب. إن اتفاقية التجارة الحرة لديها القدرة على تحسين الظروف الاقتصادية، واستقرار الأسعار، ودعم إعادة الإعمار، لكنها على المدى الطويل ستسبب مشاكل للصناعة السورية.
استمرار الفتح المفاجئ وغير المقيد للاستيراد التركي يمكن أن يغرق الأسواق بالسلع التركية، مما يزيد من إرهاق الصناعات المحلية. ويشير الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي إلى أن إعادة تفعيل اتفاقية التجارة الحرة في الوقت الحالي أمرًا مجحفًا بسبب غياب الصناعيين عن سوريا وتهالك البنية التحتية.
ختاما.. يوصي العديد من الاقتصاديين بتطبيق اتفاقية التجارة الحرة بشكل تدريجي، من خلال وضع جداول زمنية محددة لتخفيض التعريفات الجمركية، مما يمنح المصنعين والمزارعين السوريين فرصة كافية لإعادة بناء مصانعهم ومنشآتهم الإنتاجية وتعزيز قدرتهم على المنافسة ودخول أسواق خارجية. وبالتالي فإن نجاح اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وسوريا يعتمد على مراعاة الظروف الراهنة وإقامة علاقة تجارية متوازنة تلبي تطلعات شعبي البلدين.