ثورة التغيير والتطور التي تشهدها إثيوبيا منذ تسعينيات القرن الماضي في مجالاتٍ عديدةٍ أهمها تشييد الطرق الكبرى ومشروعات السدود والمطارات وغيرها لم تنعكس أبدًا على قطاعي الاتصالات والإعلام رغم أهميتهما الشديدة لأي نهضة وتقدم.
فالاتصالات في إثيوبيا من أسوأ ما يكون، انخفاض جودة المكالمات الصوتية ورداءة الإنترنت وانعدام التغطية في مناطق عديدة وفوق كل هذا غلاء الأسعار بصورة مبالغ فيها، كذلك الإعلام الإثيوبي بشقيه الحكومي والخاص لم يواكب النهضة التي تشهدها البلاد، ولم يستطع أن يعكس وجهًا جذابًا مشرقًا لإثيوبيا وأن يبين للعالم أنها دولة سياحية تمتلك حضارةً عريقةً وطبيعةً خلاّبةً، وأن بها فرصًا استثماريةً واسعة، فهو لا يزال إعلامًا تقليديًا وفي كثيرٍ من الأحيان يكتفي فقط بنشر وإيراد الأخبار المقتضبة الصادرة من الجهات الحكومية، رغم بعض الإشراقات التي بدأت في الظهور مؤخرًا بعد أن أعلن رئيس الوزراء الحاليّ آبي أحمد إتاحة حرية التعبير والرأي، بيد أن هناك من يتهم الحكومة بالتضييق على الصحفيين والمدونين الإثيوبيين في الأشهر الأخيرة عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة التي أُعلن عنها بإقليم أمهرا في يونيو/حزيران الماضي.
رداءة الخدمة وغلاء الأسعار
تكمن المعضلة الأساسية التي يعاني منها قطاع الاتصالات في إثيوبيا أنه محتكر بالكامل لشركة واحدة حكومية هي “Ethio Telecom” التي تأسست منذ سبعينيات القرن الماضي تحت اسم Ethiopian Telecommunication Corporation إذ تحتكر القطاع بالكامل، فهي المزود الأوحد لخدمات الهاتف الثابت والهاتف المحمول وخدمات الإنترنت والوسائط المتعددة والتجوال الدولي.
كما توفر إثيو تليكوم أنواعًا مختلفة من خدمات البيانات والواي فاي وخدمات النطاق العريض ((Broadband إلى المؤسسات الحكومية الفيدرالية والإقليمية، فضلًا عن الشركات الخاصة والتجارية والمنظمات الدولية والإقليمية الموجودة في إثيوبيا إلى جانب الأفراد الراغبين في الاشتراك بهذا النوع من الإنترنت.
كان لدى الحكومات الإثيوبية السابقة مخاوف شديدة تتعلق بالأمن القومي وترى أن وجود أي طرف خارجي في قطاع الاتصالات يشكل تهديدًا لأمن البلاد
لطلما وُجهت الانتقادات والشكاوى للحكومات الإثيوبية المتعاقبة بسبب رداءة خدمة الاتصالات، وضرورة فك الاحتكار عن الشركة التي تستأثر بسوقٍ يزيد رواده على 107 ملايين نسمة لكن السلطات الإثيوبية دومًا كانت ترفض لسبيين رئيسيين:
أولهما: أن إثيو تيليكوم الحكومية ترفد خزينة الدولة بعائد مائدي هائل “أرباح وضرائب ورسوم سنوية”، جراء احتكار الخدمات.
الثاني: الهاجس الأمني، فكان لدى الحكومات الإثيوبية السابقة مخاوف شديدة تتعلق بالأمن القومي وترى أن وجود أي طرف خارجي في قطاع الاتصالات يشكل تهديدًا لأمن البلاد. نذكر هنا أن شركة MTN الجنوب إفريقية حاولت دخول السوق الإثيوبية عام 2012، ولكنها تخلت عن خططها بعد المضايقات التي تعرضت لها من السلطات.
قرارات جريئة
العام الماضي وبعد مُضي أشهرٍ معدودة على انتخاب آبي أحمد رئيسًا للوزراء، اتخذ الائتلاف الحاكم في إثيوبيا قرارات جريئة غير مسبوقة بفتح الباب أمام خصخصة عدد من المؤسسات الحكومية من بينها الاتصالات والطيران وصناعة السكر وخطوط السكة حديد.
قرار خصخصة قطاع الاتصالات في إثيوبيا ليس مقتصرًا فقط على طرح جزء من أسهم إثيو تيليكوم للبيع، بل يعني فك الاحتكار
الخطوة جاءت مفاجِئة لجميع المهتمين بالشأن الإثيوبي لأن حكومة أديس أبابا كانت تتشدد في طرح أسهم المؤسسات العامة للجمهور ولا تسمح لجهاتٍ أجنبية بالاستثمار فيها، فالخطوط الجوية الإثيوبية هي شركة النقل الجوي الوحيدة التي تعمل في البلاد، وشركة Ethio Telecom المشغل الوحيد للهاتف السيار في إثيوبيا، وكذلك الحال بالنسبة لقطاعات المصارف والسكة حديد وصناعة السكر والطاقة الكهربائية.
خصخصة مزدوجة: بيع أسهم ودخول مشغلين جدد
قرار خصخصة قطاع الاتصالات في إثيوبيا ليس مقتصرًا فقط على طرح جزء من أسهم إثيو تيليكوم للبيع فقط، بل يعني فك الاحتكار، إلى جانب فتح السوق الإثيوبية للمشغلات الأجنبية التي تمتلك خبرةً واسعةً في البنية التحتية والتقنية العالية والتغلب على المشكلات الفنية.
فور الإعلان الإثيوبي عن موافقة ائتلاف “الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية” الحاكم على خصخصة قطاع الاتصالات وشركة “إثيو تيليكوم” بنسبة 49%، سارعت شركتا “إم تي إن” و”فوداكوم” الجنوب إفريقيتان من خلال ممثلَيْن للقول إنهما مهتمتان باستكشاف فكرة شراء حصة في شركة “إثيو تليكوم” بعد إعلان الحكومة السماح بذلك، وقالت متحدثة باسم “إم تي إن” إن الشركة تتطلع إلى مزيد من المناقشات مع السلطات الإثيوبية بشأن الشراكات والفرص المحتملة.
بخلاف شركتي إم تي إن وفوداكوم الجنوب إفريقيتان، يُقال إن العديد من الشركات أبدت رغبتها في اقتحام السوق الإثيوبية الواعدة
وكذلك تلقّى الشارع العام في إثيوبيا نبأ خصخة قطاع الاتصالات بفرحٍ كبيرٍ، إذ إن القرار سيكون في صالحهم كمشتركين كانوا يعانون الأمرين من رداءة خدمة الاتصال الصوتي والإنترنت، فيرى العديد من السكان أن “إثيو تيليكوم” لا تلتزم بالعقود مع الزبائن، كما يعاني المستثمرون ورجال الأعمال والسياح من تدني الخدمة وأحيانًا سيطرة الحكومة وإغلاق الإنترنت في أوقات الأحداث والمشاكل الداخلية مما يؤدي لتكبدهم خسائر فادحة وتعطل مصالحهم، مثلما حدث إبان المحاولة الانقلابية الفاشلة في مدينة بحر دار.
شركات مهتمة بدخول السوق الإثيوبية
بخلاف شركتي إم تي إن وفوداكوم الجنوب إفريقيتان، يُقال إن العديد من الشركات أبدت رغبتها في اقتحام السوق الإثيوبية الواعدة، ومن بينها “اتصالات الإماراتية” و”أورانج الفرنسية” بحسب شبكة سي إن بي سي الإخبارية، وذلك نظرًا لأن إثيوبيا تعد سوقًا بكرًا يمكنه استيعاب 5 أو 6 شركات اتصال بمنتهى السهولة، فإثيو تيليكوم ارتفع عدد مشتركيها إلى 64 مليون شخص، وحققت أرباحًا تفوق 1.2 مليار دولار خلال العام الماضي، رغم إجراء الشركة تخفيضات كبيرة تتراوح بين 40 إلى 50% في جميع المنتجات والخدمات بهدف ضمان القدرة على تحمل التكاليف وتعزيز استخدام الخدمة ورضا العملاء، كما ذكر بيان للشركة.
مبلغ الـ1.2 مليار دولار ليس سهلًا بالتأكيد، وإن كان قليلًا بالمقارنة مع عدد السكان الكبير، وبالمقارنة أيضًا مع انخفاض جودة الخدمات كلها من مكالمات صوتية رديئة وإنترنت بطيء السرعة وتتحكم فيه الأجهزة الأمنية، فهناك الكثير من السكان والمقيمين يندمون على اشتراكهم في باقات الإنترنت أحيانًا عديدة لانقطاع الخدمة دون سابق إنذار وبطء السرعة مما يدفعهم لعدم تجديد الاشتراك في البيانات، والاكتفاء فقط بخدمة الواي فاي المجانية التي تقدمها معظم المطاعم والكافيهات الراقية، فمن الشائع جدًا في إثيوبيا أن تجد الشباب من الجنسين وهم يتحلقون حول المقاهي يحتسون المشروبات الساخنة وهم يتصفحون الإنترنت من الشبكة العامة، أو قد تجدهم يقفون صفًا أمام مكاتب حكومية أو معهد دراسي يتوافر به إنترنت مفتوح.
أواخر الشهر الماضي، أطلقت شركة الاتصالات الإثيوبية إستراتيجية تطوير مدتها ثلاث سنوات قالت إنها ستمكنها من الازدهار في سوق تنافسي
وحتى شبكات الواي فاي العامة يمكن أن ينقطع الإنترنت منها بشكلٍ كاملٍ، فعندما وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة في مدينة بحر دار أواخر يونيو/حزيران الماضي قطعت السلطات الإثيوبية خدمة الإنترنت عن كل المشتركين بيانات ولا سلكي، وقبلها بأسبوع واحد فقط تم قطع الخدمة بسبب امتحانات طلاب المدارس، وهذا يعني أن الإثيوبيين والمقيمين هناك قضوا معظم أيام شهر يونيو/حزيران دون خدمة إنترنت!
ويذكر صحفي لـ “نون بوست” أن العديد من السياح الذين وصلوا إثيوبيا آنذاك لقضاء عطلة الصيف غادروا البلاد وقطعوا إجازاتهم لعدم تمكنهم من النفاذ إلى خدمة الإنترنت، ولارتباط أعمالهم مباشرةً بالشبكة، فهناك نوعٌ من الناس لا يمكنهم التوقف الكامل عن العمل حتى إن كانوا في إجازة رسمية، تجدهم يتصفحون بريدهم الإلكتروني عدة مرات في اليوم يردون على بعض الرسائل الواردة ويحولون البعض الآخر.
إذًا، وبالنظر إلى كل المعطيات أعلاه يتضح لنا أنه لو كانت هناك شركات اتصالات قوية ومتنافسة في إثيوبيا لحققت أضعاف الـ1.2 مليار دولار “صافي أرباح إثيو تيليكوم” خلال العام الماضي، ولنأخذ السياح كمثال بسيط على هذا الأمر.. يزور إثيوبيا سنويًا قرابة مليون سائح في العام، يضخون لميزانية الدولة نحو 2.5 مليار دولار، وإذا افترضنا أن كل واحد من هؤلاء أنفق 100 دولار فقط على خدمات الاتصالات فهذا يعني ببساطة زيادة 100 مليون دولار وهو ما يعادل ضعف أرباح مجموعة سوداتل للاتصالات في السودان خلال عام كامل.
إستراتيجة جديدة لإثيو تيليكوم هدفها مواجهة الخصخصة
أواخر الشهر الماضي، أطلقت شركة الاتصالات الإثيوبية إستراتيجية تطوير مدتها ثلاث سنوات قالت إنها ستمكنها من الازدهار في سوق تنافسي، وأضافت السيدة فريهوت تامرو الرئيسة التنفيذية “إن شركتها ستحقق نموًا تدريجيًا من خلال تحسين البنية التحتية الحالية واستخدامها بكفاءة”، وكشفت تامرو أن “إستراتيجية الشركة للتطوير التي تمتد لثلاث سنوات، تعتمد على ضمان تجربة العملاء للمنتجات والخدمات المبتكرة لجعل إثيو تيليكوم قادرة على المنافسة”.
أحد مراكز مبيعات “إثيو تيليكوم”
غير أن العقبة التي تواجه شركة الاتصالات الإثيوبية هي رداءة خدماتها وغلاء الأسعار بصورة مبالغ فيها، إذ إن إثيوبيا تعد الأعلى تكلفةً في كل القارة الإفريقية من ناحية تعرفة خدمات الاتصالات، إلا إذا قامت بمناورة أخيرة تتضمن تخفيض أسعار الخدمة وتحسين جودتها بترقية شبكة المحمول الحاليّة ونشر خدمات الجيل الرابع 4G في مختلف المدن والأرياف.
فرص مهدرة
تضمنت الإستراتيجية الجديدة لشركة “إثيو تيليكوم” تفعيل خدمات تحويل الأموال عبر الهاتف المحمول بحسب ما كشفته الرئيسة التنفيذية فريهوت، وهي خدمة تأخرت كثيرًا، ولن نبالغ إذا قُلنا إن الشركة فوتت على نفسها اكتساب مليارات الدولارات سنويًا بعدم استغلالها الفرصة طيلة السنوات الماضية.
صحيح أن إصدار تراخيص مزاولة التحويلات المالية يحتاج إلى موافقات مختلفة من البنك المركزي والأجهزة الأمنية، لكن الشركة لم تبذل مجهودًا كافيًا في انتزاع هذه الموافقات، فحتى لو لم يتم الاستجابة لنداءاتها من طرف السلطة، كان يمكن أن تلجأ للجمهور ببث تصريحات على شاكلة “نخطط لإطلاق خدمة التحاويل المالية عبر الهاتف المحمول قريبًا”، وعندما يكثر الاستفسار من الجمهور يرد عليه المكتب الإعلامي للشركة بأنهم في انتظار موافقة الجهات الرسمية! وهو ما سيضع السلطات في موقف محرج.
الآثار الإيجابية المتوقعة لخصخصة قطاع الاتصالات
يمكن ذكر عدد من الآثار المحتملة للخصخصة يمكن أن يلمسها القطاع برمته، بمختلف المستفيدين منه، الحكومة والشركة والناس، ومنها:
ـ تحسين جودة خدمات الاتصالات وتخفيض التعرفة، فكلما كثر عدد مزدوي الخدمة يقل الضغط على المشغل الواحد ويجد المواطن نفسه أمام عدة خيارات أخرى تتنافس لاصطياد الزبون.
ـ توفير فرص العمل للشباب في إثيوبيا، حيث تستوعب شركة إثيو تيليكوم حاليًّا نحو 23000 موظف بصورة مباشرة، وسيتيح دخول المشغلات الجديدة فرصًا لتشغيل الآلاف من الشباب المؤهلين.
– توفير أموال إضافية جديدة للحكومة الإثيبوية من عائدات بيع نسبة الـ49% من أسهم الشركة.
– ارتفاع تصنيف إثيوبيا دوليًا في مجال سرعة الإنترنت.
– تغيير النظرة السالبة الحاليّة لإثيوبيا فيما يتعلق بقطع خدمة الإنترنت، فالشركات الوافدة يمكنها باستخدام الذكاء الاصطناعي “مثلاً” تحديد أماكن وجود طلاب المدارس وفصل الخدمة عنهم بدل معاقبة كل الشعب والمقيمين بقطع الخدمة!.
– تعزيز مكانة الدولة سياحيًا واستثماريًا، كما ذكرنا هناك العديد من الناس الصيف الماضي قطعوا إجازاتهم بسبب قطع الإنترنت لمدة تقارب شهرًا كاملًا، وكذلك تأثرت أعمال المستثمرين المقيمين في إثيبويا.
– تحريك الاقتصاد الإثيوبي بشكل عام وإيجاد بيئة جاذبة لمناخ الاستثمار والأعمال.
أخيرًا؛ لا شك فَتْح السوق الإثيوبية أمام شركات الاتصال العالمية كان يُعد حلمًا بعيد المنال يداعب أحاسيس المهتمين بالتقنية والاتصالات في إثيوبيا، بل حتى عامة الناس مواطنين ومقيمين وزوار الذين سئموا من انخفاض جودة خدمات إثيو تيليكوم وارتفاع أسعارها، ومن المأمول – كما رأينا – أن ينعكس قرار خصخصة المشغل المملوك للدولة “إثيو تيليكوم” والسماح للمشغلين الأجانب بدخول السوق، بشكلٍ إيجابيّ على إثيوبيا واقتصادها.