في خطوة احتجاجية تحمل في طياتها صرخة استغاثة من خلف القضبان، أعلن 120 سجينًا سوريًا في سجن رومية اللبناني دخولهم في إضراب مفتوح عن الطعام، في 11 فبراير / شباط الجاري، اعتراضًا على ظروف احتجازهم غير الإنسانية، والمماطلة المستمرة في معالجة ملفاتهم القانونية.
يشكل المعتقلون جزءًا من قضية الموقوفين السوريين في لبنان، وهي واحدة من أكثر الملفات تعقيدًا حيث تراوح منذ سنوات طويلة مكانها في ظل غياب أي حلول جذرية.
ويعتبر هؤلاء المساجين جزءًا من 2000 سجين سوري في لبنان من بينهم نحو 190 معتقلًا على خلفية مشاركتهم في الثورة السورية، كانوا يأملون بإنفراجة عقب زيارة رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي إلى دمشق مطلع العام الحالي، ولقائه بالرئيس السوري أحمد الشرع، حين أعلنت وزارة الخارجية السورية البدء بإجراءات استعادة جميع المعتقلين السوريين من لبنان.
وكان عشرات السوريين من ذوي المعتقلين في لبنان تجمعوا بجانب قصر الشعب تزامنًا مع زيارة ميقاتي إلى دمشق، حيث رفعوا لافتات مطالبة بأبنائهم الذين تجاوز احتجاز بعضهم أكثر من 10 سنوات.
احتجاز ظالم ومعاناة مستمرة
داخل أسوار سجن رومية، الذي يُعدّ الأكبر والأكثر اكتظاظًا في لبنان، يُحتجز هؤلاء السوريون وفق أسباب متفاوتة تختلف بين تهم تتعلق بالإرهاب، والعمل دون تصريح قانوني، أو على خلفية اشتباكات عرسال عام 2014، التي يتهم القضاء اللبناني الضليعين بها بالانتماء إلى جماعات مسلحة.
وبينما تفتقر هذه التهم إلى أدلة قانونية دامغة، يتعرض المتهمون لانتهاكات متعددة، من بينها غياب الإجراءات القانونية الصحيحة وهو ما يبقيهم في حالة انتظار لا نهائية.
يعد الواقع داخل السجن نموذجًا صارخًا لأقسى انتهاكات حقوق الإنسان، حيث تتراوح أشكال المعاناة بين التعذيب أثناء التحقيق، والإهمال الصحي، والحرمان من الدواء، ونقص الطعام. وهو ما أدى إلى تفشي الأمراض والأوبئة بين السجناء. حيث وصف المعتقلون في بيانهم الأخير المنشور الثلاثاء 11 فبراير/شباط ظروفهم في سجن رومية بأنها “صراع يومي للبقاء على قيد الحياة”.

ومما يزيد من تدهور الأوضاع بسرعة، نقص التمويل الذي أدى إلى حرمانهم من أبسط حقوقهم الأساسية، والذي وصل حدّ وفاة عدد من السجناء، نتيجة توقف الأطباء عن زيارة السجون، وعدم حصول السجناء على حقهم بإجراء الفحوص الطبية والعمليات الجراحية التي يحتاجون إليها.
وأصدرت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان في 18 فبراير/ شباط الجاي، بياناً دعت فيه الحكومتين السورية واللبنانية إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لإنهاء معاناة المعتقلين السوريين في لبنان، حيث يقدر عدد المحتجزين بحوالي 2000 شخص، من بينهم نحو 190 معتقلًا على خلفية مشاركتهم في الثورة السورية.
حين بدا الفجر قريبًا
في الثامن من ديسمبر ليلة سقوط نظام الأسد، كان طارق اللاجئ السوري الذي تحولت حياته إلى كابوس مظلم منذ أواخر عام 2016. يتابع الأخبار مع رفاقه من داخل زنازين سجن رومية، عبر شاشة هاتفه القديم.
يقول طارق المعتقل في سجون رومية لـ”نون بوست” أنه “يتذكر تلك الليلة على أنها معجزة كاملة، تجدد معها أمله بالخلاص مع تحرر بلاده من بطش آل الأسد”.
نزح طارق إلى لبنان مع زوجته وأطفاله الثلاثة، بعد تصاعد القصف الجوي في القرى الحدودية بين البلدين، ليستقر في عرسال قبل اعتقاله لاحقًا مع مجموعة من اللاجئين، بعد اتهامهم بالضلوع في أحداث العنف التي شهدتها البلدة.
ويروي طارق عن التحقيق الأول الذي أجري معه وتم أخذ إفادته، مؤكدًا أن حقوقه الإنسانية سُلبت بأكملها تحت وطأة الضغط النفسي والجسدي، حيث أُجبر على التوقيع على أوراق لم يعرف فحواها، سوى أنها كانت كفيلة بإلقائه في غياهب السجن المؤبد بتهمة الانتماء إلى جماعات مسلحة.
وفي إطار استمرار ممارسات العنف التي تنتهجها السلطات اللبنانية، قامت إدارة السجن في الأيام القليلة الماضية، بإجبار المعتقلين المضربين عن الطعام على تلقي محاليل غذائية، خشية تعرضهم للموت.
كما أُجبر كل من رفض تلقي الرعاية الصحية على توقيع إفادات تعلن تحمله المسؤولية الكاملة عن حياته، في ما يمكن اعتباره موافقة ضمنية على الانتحار الطوعي، حسب الفريق الحقوقي المكلف بالقضية.
يناشد طارق ورفاقه حكومة تصريف الأعمال السورية والرئيس السوري أحمد شرع للضغط على السلطات اللبنانية من أجل إتمام اتفاقية تُفضي بتسليمهم إلى سوريا في أقرب وقت ممكن، قائلًا: “أنقذونا قبل أن يلتهم الجوع أجسادنا، إننا نأمل أن نعيش مع عائلاتنا في سوريا الكرامة، بعد أن دفعنا ثمن حرية هذه البلاد من أعمارنا”.
الإطار القانوني
على الصعيد القانوني، يلتزم لبنان مع سوريا باتفاقية قضائية صدرت عام 1951، تتيح إمكانية نقل المحكومين من الطرفين ليقضوا مدة عقوبتهم في بلادهم حال التوصل لتفاهم بين وزارتي العدل اللبنانية والسورية. غير أن هذه الإجراءات تخضع لشروط، من بينها موافقة السجين نفسه، وموافقة السلطات السورية على تسلمه. كما تحدد الاتفاقية اللبنانية-السورية عدة معايير لتنفيذ عمليات النقل، من بينها أن يكون الحكم الصادر بحق المتهم، نهائيًا وألا تقل فترة العقوبة المتبقية عن ستة أشهر.
تحدثنا في هذا الخصوص للمحامي محمد صبلوح، أحد الحقوقيين المتابعين للقضية، الذي أشار إلى أن حل قضية المعتقلين السوريين في لبنان، وبالأخص أولئك المتهمين بالانتماء إلى جماعات إرهابية مسلحة، يرتبط بشكل كبير بمشروع قانون لبناني كان قد تم طرحه قبل عدة أشهر.
يهدف هذا المشروع إلى معالجة مشكلة الاكتظاظ في السجون اللبنانية بشكل عام، ما سيساهم، بشكل مباشر، في تسهيل عملية ترحيل المعتقلين السوريين إلى سوريا.
ومع ذلك، لم يحظَ هذا المشروع بفرصة لتطبيقه بسبب الانشغال في تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة. وتجدر الإشارة إلى أن هؤلاء السجناء البالغ عددهم 200 معتقل، هم في الغالب من أنصار الثورة السورية، وتم التعامل معهم على مدار السنوات الماضية بطريقة شبه انتقامية.
كما أكد صبلوح في حديثه لـ”نون بوست”، أن الحكومة السورية تبذل جهودًا حثيثة لإتمام اتفاقية لتبادل السجناء السوريين، خصوصًا اللاجئين الذين تعرضوا للظلم نتيجة تأييدهم للثورة السورية.
وأوضح أن الحكومة السورية كررت طلبها في الأيام الأخيرة مع بدء إضراب المعتقلين عن الطعام، إلا أنها لم تتلقَ حتى الآن ردًا من السلطات اللبنانية، وكان آخر تواصل في هذا الصدد يوم الأحد الماضي، 16 فبراير/ شباط الجاري.
معتقلو سوريا في الخارج
في سياق الحديث عن المعتقلين السوريين في الخارج، لا يمكن إنكار الارتباط بين قضايا الاعتقال في لبنان وتلك في ليبيا، ومصر واليونان، حيث جرى اعتقال العديد من السوريين بتهم متنوعة، على رأسها تأييدهم للثورة السورية أو احتفالهم بسقوط نظام الأسد في نهاية العام الماضي.
على سبيل المثال، شنت الأجهزة الأمنية المصرية حملة اعتقالات في مدينة 6 أكتوبر بمحافظة الجيزة، على خلفية احتفال مجموعة من الشبان ليلة هروب الأسد لموسكو، حيث وجهت لهم تهمة “التجمع دون تصريح”، ولا يزالون في الحجز حتى اليوم.
كما طالب وفد من محافظة حوران في 10 يناير/ كانون الثاني الجاري، خلال لقائه مع السفير السوري في عمّان، الحكومة السورية بالتواصل مع السفارة الليبية للتحقق من مصير المعتقلين السوريين في ليبيا، واتخاذ الإجراءات اللازمة على أعلى المستويات لمعالجة هذا الملف.
وأشار موقع “تجمع أحرار حوران” إلى أن أكثر من 80 سوريًا ما زالوا محتجزين في سجن مدينة بنغازي المركزي بعد مشاركتهم في مسيرة احتفالية بسقوط نظام بشار الأسد. وتابع الموقع أن العناصر التابعة للواء “خليفة حفتر” في بنغازي، والذين يُعرفون بموالاتهم لنظام الأسد المخلوع، قاموا باحتجاز أكثر من 80 شخصًا من أبناء محافظة درعا، وقد طالبت هذه العناصر ذوي المعتقلين بدفع مبلغ قدره 4 آلاف دولار أمريكي مقابل الإفراج عن كل شخص.
إلى جانب ذلك، تقبع مجموعات كبيرة من اللاجئين والمهاجرين في مراكز الاحتجاز في اليونان، حيث يتعرضون لممارسات عنيفة في ظروف احتجاز غير قانونية. لا سيما أن السوريين يشكلون النسبة الأكبر من طالبي اللجوء في اليونان، إذ بلغ عددهم 36% من إجمالي طالبي اللجوء العام الماضي، أي ما يعادل 28.4 ألف شخص.
ووفق بيان صحفي نشرته “أطباء بلا حدود” في مايو/ أيار 2023، هناك عدة إفادات أَبلغت عن تعرض مئات المهاجرين للاختطاف والاحتجاز القسري، ما يعني انقطاع أخبارهم عن ذويهم، فيما عرضت مجلة “ذا أنترسبت” قصصًا للاجئين تم اقتيادهم لمخافر الشرطة ثم انقطعت أخبارهم في اليونان.
في الختام، تبرز قضية المعتقلين السوريين في لبنان ودول أخرى مثل مصر وليبيا واليونان كمسألة ذات أولوية وطنية تستدعي تحركًا سريعًا من الحكومة السورية. إذ أن استمرار احتجاز هؤلاء المعتقلين في هذه الظروف يعتبر تهديدًا صارخًا لسلامتهم. ومن هنا، فإن الحكومة السورية ووزارة الخارجية ووزارة العدل مطالبين بالضغط على حكومات الدول المعنية، لضمان الإفراج عن المعتقلين السوريين وإعادتهم إلى وطنهم.