تشهد الحدود المصرية الفلسطينية الأيام الأخيرة سجالًا غير مسبوق من الجانبين، المصري والإسرائيلي، بشأن التحركات العسكرية للجيش المصري على الشريط الحدودي في منطقة سيناء بالقرب من معبر رفح، تزامنًا مع التصعيد الذي يشهده قطاع غزة خلال الفترة الأخيرة، وسط ترقب وقلق إسرائيلي إزاء ما تحمله تلك التحركات من رسائل ومؤشرات تتعلق بالصدام المرتقب بين الجانبين.
وكان الجيش المصري قد بدأ في تعزيز تواجده على حدوده الشرقية بصورة مكثفة منذ تفجير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قنبلة تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن، خلال تصريحاته التي أدلى بها الأحد 25/1/2025، حيث نُشرت مقاطع فيديو تُظهر طوابير طويلة من المركبات العسكرية المصرية، وحشد لفرق بأكملها من المجندين، وتحشيد للترسانة التسليحية الثقيلة، على مرأى ومسمع من الجانب الإسرائيلي الذي يراقب المشهد على بعد أمتار قليلة من تمركز قواته في محوري فيلادلفيا ونتساريم.
وبلغ القلق الإسرائيلي مداه مع التصريحات التي أدلى بها وزير الدفاع المصري، الفريق أول عبد المجيد صقر، لقوات الجيش الثالث الميداني، الثلاثاء 11 فبراير/شباط الجاري بـ”الحفاظ على أعلى درجات الجاهزية القتالية، لتظل القوات المسلحة قادرة على الوفاء بالمهام والمسؤوليات المكلفة بها تحت مختلف الظروف”، وفق بيان للمتحدث باسم الجيش المصري، الأمر الذي اعتبره محللون إسرائيليون غير مسبوق ومثير للريبة، خاصة بعد رفض القاهرة لمقترح ترامب وتصعيد الأخير ضدها عبر ورقة المساعدات.
تهويل وتضخيم إسرائيلي للتحركات العسكرية المصرية في سيناء، وتصعيد في الخطاب الإعلامي الذي تهيمن عليه لغة “الإثارة والتهييج”، قوبل بتحريض مٌضاد بلغ حد التهديد، رغم الدفء الذي يخيم على العلاقات بين القاهرة وتل أبيب في السنوات الأخيرة، والتنسيق الأمني والسياسي العالي، فما حقيقة ما يحدث على الحدود؟ ولماذا هذا التصعيد في الوقت الحالي؟
ما الذي يحدث على الحدود؟
تكشف التقارير الإعلامية والمقاطع المصورة، حتى تلك الصادرة عن الإعلام الداعم والمقرب من النظام الحاكم في مصر، عن وجود تحركات عسكرية فعلية في سيناء، خاصة بعد سيطرة جيش الاحتلال على محور فيلادلفيا الحدودي في مايو/أيار 2024، وهي التحركات التي فُسرت حينها على أنها رد فعل طبيعي على التصعيد الإسرائيلي.
ويذهب خبراء عسكريون وأمنيون أن تعزيز القاهرة لقواتها وإجراءاتها الأمنية على الحدود خلال الآونة الأخيرة مسألة تقليدية ومتوقعة وتتم بشكل دوري بما يتوافق مع متطلبات الأمن القومي وحجم التهديدات الموجودة، كما أشار الخبير العسكري والاستراتيجي المصري، اللواء أركان حرب محمد رفعت جاد، الذي لفت في تصريحات صحفية له أن تلك التعزيزات تتم بصورة اعتيادية غير مقلقة منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/تشرين أول 2023.
وكشف جاد أن الجانب المصري يتخذ أعلى درجات التأمين على حدوده كما يكثف الاستطلاع والمتابعة الدقيقة والمستمرة للموقف الأمني، مشددًا على أن التحركات العسكرية داخل سيناء تُعد “حقًا سياديًا ومشروعًا” للدولة المصرية في إطار الحفاظ على استقرارها الداخلي والأمني في سيناء أو الحفاظ على النظام العام، منوها أن “تلك التحركات قد تكون مقلقة من منظور إسرائيل إذا تجاوزت القواعد التي وضعتها معاهدة السلام أو إذا أثارت الشكوك بشأن نوايا مصر العسكرية” أما ما دون ذلك فلا قلق منها على الإطلاق.
ومنذ 2015 وهناك تنسيق وتفاهم أمني بين القاهرة وتل أبيب، سمح بتعزيز مصر لقواتها العسكرية وتواجدها المسلح في سيناء، بما يتجاوز المسموح به بحسب اتفاقية السلام المبرمة بين الطرفين، في إطار تعاون الطرفين في القضاء على الجماعات المسلحة في سيناء، وهدم الأنفاق التي تربط بين غزة والجانب المصري.
قلق إسرائيلي
أحدثت تلك التحركات العسكرية المصرية على الحدود مع الأراضي الفلسطينية قلقًا كبيرًا لدى الجانب الإسرائيلي الذي أفرد لها مساحات كبيرة من التحليل والتغطية والقراءات المتباينة لرموز نخبته السياسية والعسكرية، أبرزها تلك التصريحات الصادرة عن السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، داني دانون، في الأول من فبراير/شباط الجاري، والتي عبّر فيها عن القلق من القدرات العسكرية المصرية متسائلًا عن سبب استمرار الجيش المصري بالتحديث والتطوير.
وأضاف دانون خلال مقابلة له مع إذاعة “كول بارما” الإسرائيلية: “إنهم (المصريون) ينفقون مئات الملايين من الدولارات على المعدات العسكرية الحديثة كل عام، ومع ذلك ليس لديهم أي تهديدات على حدودهم، لماذا يحتاجون إلى كل هذه الغواصات والدبابات؟ بعد 7 أكتوبر، يجب دق أجراس الإنذار، لقد تعلمنا الدرس، يجب أن نراقب مصر عن كثب ونستعد لكل سيناريو”.
التساؤل ذاته طرحه المحلل الإسرائيلي، ياكوف بيلان، وهو باحث مشارك في مركز بيجين السادات للدراسات الاستراتيجية في جامعة بار إيلان الإسرائيلية، خلال تحليل نشره على موقع “جويش نيوز سنديكيت”، منوها أن “إسرائيل وافقت على أن تقوم مصر بإدخال قوات إلى سيناء لمكافحة الإرهاب، لكن اليوم نواجه تشكيلات لقوات عسكرية ضخمة مستعدة للمعركة”.
وأضاف المحلل الإسرائيلي أن مصر “أنشأت ثلاثة مطارات؛ واحد منها على الأقل مخصص للطائرات المقاتلة، بالإضافة إلى تخزين احتياطيات ضخمة من الوقود”، كاشفًا في الوقت ذاته عن تشييد “أنفاق تخزين كبيرة في سيناء، للتخزين الاستراتيجي للمعدات العسكرية، ومعابر وأنفاق تمكن التشكيلات العسكرية الكبيرة من الوصول إلى سيناء خلال ساعات قليلة” على حد قوله.
ودفع هذا القلق المتصاعد من تعزيز مصر لقواتها في سيناء بعض المسؤولين الإسرائيليين لنقل تلك التخوفات إلى المنظمات اليهودية في مختلف دول العالم، حيث أطلع سفير “إسرائيل” لدى الولايات المتحدة، يحيئيل لايتر، رؤساء المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة على هذا التحرك، ووصف الوضع بأنه “لا يطاق” بحسب صحيفة “إسرائيل هيوم”.
‼️🚨اعلام عبري:
تحركات الجيش المصري في سيناء مثير للقلق … الجيش المصري أنشأ فرقاً بآلاف الدبابات المنتشرة في سيناء تدريبات دون توقف منذ أيام . pic.twitter.com/lqvJb6bLeE
— موسكو | 🇷🇺 MOSCOW NEWS (@M0SC0W0) February 2, 2025
وفي كلمته التي ألقاها أمام مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية في أمريكا قال لايتر: “هذا أمر سوف يثار، إن مصر تنتهك اتفاق السلام في سيناء بشكل خطير للغاية، وهذه قضية سوف تثار، لأن هذا وضع لا يمكن تحمله”، مضيفًا: “لدينا قواعد قيد الإنشاء (من قبل المصريين – AKB)، ولا يمكن استخدامها إلا للعمليات الهجومية والأسلحة الهجومية، هذا انتهاك واضح، ستكون هذه قضية سنضعها على الطاولة – قريبًا جدًا وبكل حزم”.
وفي ذات السياق كان الخبير في الشؤون العسكرية، ياغيل هنكين، قد سبق وأن حذر في عام 2018 من الاتجاهات المقلقة من الجنوب: “لقد حدث هذا من خلال أسلوب الضم الزاحف، في البداية كانوا – في إشارة إلى المصريين- يحضرون القوات، ثم يطلبون الموافقة الإسرائيلية بعد ذلك، وهو ما كان يتم إعطاؤه دائما، حتى بعد انتهاء الحاجة العملياتية، لم يتم سحب القوات”.
وأضاف هنكين: “إن سيناء لديها أسلحة وذخائر أكثر بكثير مما سمح به اتفاق السلام، فقد بدأت بكتيبتين، والآن لديها عشرات الآلاف من الجنود وعشرات الدبابات، وبعضهم متمركز بالقرب من رفح المصرية، وبعضهم بالقرب من ما كان تمركز داعش في سيناء، لقد انتهت الحاجة العملياتية للتعامل مع داعش، ومع ذلك لم يتم سحب القوات، كما طوروا البنية الأساسية مثل الجسور والطرق والأنفاق الكبيرة، والتي تسمح لهم بنقل فرق كاملة إلى سيناء من الجانب الغربي لقناة السويس في غضون ساعات”.
وأكدت الصحيفة العبرية أن الكونجرس الأمريكي على علم بما أسمته “الانتهاكات المصرية” ويعتزم وضع هذا الملف على جدول الأعمال، مضيفة أن المذكرة المزمع عرضها على أعضاء الكونجرس الجمهوريين تنص على أن “مصر تنتهك اتفاقيات كامب ديفيد بشكل أساسي، من خلال نقل القوات والدبابات إلى سيناء، وهذا يشكل تهديدًا استراتيجيًا للحدود الجنوبية لإسرائيل”، مطالبة بإعادة النظر في المساعدات الاقتصادية التي تقدمها الولايات المتحدة للجانب المصري.
سجال متبادل.. حرب تصريحات
ظل القلق الإسرائيلي في سياق التعبير عن المخاوف من تعزيز مصر لقدراتها العسكرية بالقرب من رفح، حتى نشر موقع عبري يدعى “Nziv.net”، تقريرًا منتصف الشهر الجاري، قال إنه سيناريو لهجوم إسرائيلي على السد العالي في أسوان (جنوب مصر)، وهو ما قد يتسبب في فيضانات تقتل ما لا يقل عن 10 مليون مصري وتغرق جنوب البلاد، حتى اتخذ التصعيد سياقًا آخر، سجال وحرب تصريحات بين الطرفين، المصري والإسرائيلي.
ورغم أن التقرير الذي جاء بعنوان “هكذا يرى الذكاء الاصطناعي سيناريو مهاجمة سد أسوان من قبل إسرائيل”، هو سيناريو تخيلي، جرى كتابته بواسطة نموذج الذكاء الاصطناعي “chatGPT4” كما يقول الموقع، إلا أن ردود الفعل عليه من الجانب المصري كانت قوية من حيث مستوى التصعيد واللغة المستخدمة.
عضو مجلس النواب والإعلامي المقرب من دوائر السلطة في مصر، مصطفى بكري، وجه تحذيرًا للجانب الإسرائيلي عبر برنامجه “حقائق وأسرار” المذاع على قناة “صدى البلد” المملوكة لرجل الأعمال ووكيل البرلمان محمد أبو العينين، ملوحا بأنه إذا ما فكرت “إسرائيل” في ضرب السد العالي سيكون المصريون في اليوم التالي في قلب تل أبيب.
أما الكاتب المتخصص في الشأن الإسرائيلي، محمد نور، فهدد بضرب مفاعل ديمونة الإسرائيلي، الذي يبعد 65 كيلو متر فقط عن صحراء سيناء، موجها رسالة للكيان الإسرائيلي عبر حسابه على منصة “إكس” قائلًا : حتى لو ضربتم السد العالي فإن حجم الخسائر المصرية ستكون 10 مليون قتيل وغرق الدلتا، لكن قواعد الصواريخ المصرية في سيناء وفي صحراء مصر الشرقية ومقر القيادة العسكرية في العاصمة الإدارية ستكون في أمان تام وهي قادرة على الوصول لمفاعل ديمونة في دقائق معدودة لكي تمحي إسرائيل من الوجود تمامًا ويتم إبادة الشعب الإسرائيلي بالكامل، القنابل المصرية المدمرة قادرة على الوصول لمدنكم ومسحها بالكامل من الأرض.. فأنصحكم ألا تهددوا بشيء أنتم لا تستطيعون فعله”.
You fool, Trump,
Israel is under our control, and Tel Aviv is within our line of fire. If even a single inch of Sinai is violated, you will see and experience what the Egyptian hell looks like-the Egyptian Thunderbolt Forces will strike mercilessly upon the heads of the… pic.twitter.com/awn0CA3pUY
— Mohamed Nour (@Elwa3y_nour) February 11, 2025
رسائل التهديد التي وجهها نور لم تقتصر على حكومة نتنياهو وفقط، بل استهدفت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي وصفه الكاتب المصري بـ “المعتوه” مخاطبًا إياه بالقول: “إسرائيل تحت سيطرتنا، وتل أبيب في مرمى نيراننا، إذا تم المساس بشبر واحد من أرض سيناء، سترى وتدرك كيف يكون الجحيم المصري والصاعقة المصرية التي ستنهال على رؤوس الإسرائيليين”، وتابع: “نحذرك من محاولة فرض ضغوط على مصر أو محاولة فرض الأمر الواقع من خلال التهجير، لأن البديل سيكون نيرانًا تلتهم كل شيء في إسرائيل. مصر ليست سهلة، ولن يتم إخضاعها أو تركيعها”.
وفي سياق سيل التهديدات الذي لا يتوقف وجه الكاتب والخبير السياسي عبدالمنعم سعيد، رسالة إلى الحكومة العبرية قال فيها: “إذا كانت إسرائيل تتصور أن وجود السد العالي يشكل انكشافًا مصريًا للقدرات الإسرائيلية؛ فإن التركيز السكاني الإسرائيلي في المنطقة الوسطى يجعلها لا تقل انكشافًا عبر عنه نزوح 80 ألف إسرائيلي من مساكنهم في شمال إسرائيل”.
بطبيعة الحال لا يمكن لبكري ولا نور ولا السعيد ولا لغيرهم من الإعلاميين ونشطاء منصات التواصل الاجتماعي أن تتحدث بتلك اللغة التصعيدية عن الكيان الإسرائيلي دون الحصول على الضوء الأخضر من صناع القرار في مصر، بل وصل الأمر إلى استضافة أصحاب تلك التهديدات والتحذيرات الموجهة لأمريكا و”إسرائيل” من قبل الإعلامي المقرب من السيسي، أحمد موسى، والذي سمح أن يُقال في برنامجه إن الحرب مع مصر تعني نهاية “إسرائيل” ومحوها من الوجود، وهو الخطاب الذي لم تعتد عليه مصر نهائيًا في عهد النظام الحالي.
تهويل مبالغ فيه
بحسب تحقيق لمشروع “المراسل المزيف”، وهو فريق بحثي إسرائيلي متخصص في الكشف عن المحتوى المضلل المنشور على الإنترنت، فإن معظم المناقشات التي تطرقت للتحركات المصرية على الحدود والمخاوف من نشوب مواجهة عسكرية بين مصر وإسرائيل، مناقشات مضللة ومبالغ فيها وتهدف لتحقيق مآرب أخرى لا علاقة لها بالواقع.
ويشير التحقيق الذي نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية إلى أن هذا الخطاب التصعيدي المضلل بدأ بداية هذا العام مع التصعيد الإسرائيلي على الحدود، ثم زادت وتيرته مع تصريحات ترامب خلال الأسبوعين الماضيين، منوها أن هذا الخطاب قد عزف على بعض النقاط الرئيسية أبرزها : “التعزيز والبناء العسكري المصري”، “اتفاقية كامب ديفيد وهم خطير”، “السياسة المصرية ضد إسرائيل”، و”السيطرة المصرية على الحدود وآثارها”، مؤكدًا أن من يقف وراء تلك المنشورات ليست مصر.
بالفعل سُمعت أصوات انفجارات وهدير المعدات العسكرية التي يستخدمها المصريون في سيناء مؤخرًا، بصورة أعلى بكثير مما كانت عليه أثناء قتال الجيش المصري لتنظيم داعش، كما أجرت المؤسسة العسكرية المصرية مناورة قتالية بالفعل في شبه جزيرة سيناء، لكن الجيش الإسرائيلي -وبحسب التحقيق- كان على علم بهذه التدريبات، موضحًا أن هذا لم يكن انحرافًا عن الملحق العسكري لاتفاقية السلام.
في ذات السياق أوضحت مصادر أمنية إسرائيلية أن “مصر تسلح نفسها بقوة أكبر في السنوات الأخيرة، وهذا ليس سرًا، ربما أكثر من أي جيش عربي في الشرق الأوسط، ولكن هناك مسافة بين هذا والاستعداد للحرب ضد إسرائيل”، وتابعت:” إن تعاون إسرائيل وتنسيقها مع المصريين في ذروته، وخاصة فيما يتعلق بالدخل والنفقات من قطاع غزة في هذا الوقت”.
ويشير الفريق البحثي الإسرائيلي إلى أنه وعلى النقيض من سلبية هيئة مثل اليونيفيل في لبنان، فإن القوة المتعددة الجنسيات في سيناء تقوم بدوريات منتظمة من الجو للتأكد من أن الجيش المصري لا يتجاوز حدوده أو يقوم بأي عمل دون تنسيق مع “إسرائيل”، كما تعاونت القاهرة مع إسرائيل ضد عمليات التهريب التي تقوم بها حماس في السنوات الأخيرة.
وردًا على مخاوف بعض التقديرات من حدوث انقلاب عسكري في مصر، يطيح بنظام السيسي الحليف، ويعرض الأمن الإسرائيلي للخطر، يرى التحقيق أن هذا احتمال مستبعد إلى حد ما، مستندًا إلى العلاقة العائلية والأسرية التي تربط كبار القادة العسكريين المصريين بالحكومة الحالية، وإن كان هذا لا يعني اتخاذ الحيطة وإعداد العدة لأي سيناريو قادم، على حد تعبير الفريق البحثي.
وخلص التحقيق إلى حالة الاندهاش التي تخيم على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من الأيادي الخفية التي تروح لمثل تلك الشائعات حول حول النوايا المصرية والاستعدادات لمهاجمة إسرائيل، لافتًا إلى أن مثل هذا الأمر ربما يرجع لزيادة الخوف والذعر في الجمهور الإسرائيلي، الذي أصيب بصدمة بالفعل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ويميل المحلل العسكري الإسرائيلي، آفي أشكينازي، في تحليله المنشورة في صحيفة “معاريف” في 18/2/2025 إلى هذا التصور، التهويل المبالغ فيه من التحركات المصرية في سيناء، لافتا أن مصادر عدة داخل الجيش الإسرائيلي قد رصدت مؤخرًا انسحابًا للقوات المصرية من الحدود، وأنه على ما يبدو تقليص للتشكيلات المتمركزة بالقرب من رفح.
وأستند أشكينازي في رؤيته تلك إلى التصريحات الواردة عن الجيش الإسرائيلي والتي تشير إلى أن الحدود المصرية تتمتع بعمق استراتيجي كبير مقارنة بالحدود الأخرى. وبعبارة أخرى، فإن نقل جيش إلى سيناء عملية تستغرق عدة أيام، منوها أن فرقة “أدوم 80” وهي الفرقة المسؤولة عن نشاط جيش الاحتلال على الحدود المصرية، قد أشارت إلى استمرار التنسيق الأمني الجيد بين البحرية الإسرائيلية والبحرية المصرية، اللتين تشتركان في حدود بحرية قبالة رفح، لافتة أنها وخلال الحرب على غزة، عملت سفن البحرية بالتنسيق مع المصريين لإحباط عبور السباحين والبحارة من غزة إلى مصر، كما تم القضاء على العشرات منهم وإغراقهم بواسطة السفن البحرية لكلا البلدين.
بدوره كشف الدبلوماسي الإسرائيلي، حاييم كورين، الذي شغل منصب سفير إسرائيل في مصر بين عامي 2014 و2016، خلال تصريحات لصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، أنه رغم تعزيز مصر لقواتها العسكرية في سيناء خلال الفترة الأخيرة إلا أن ذلك لا يعني الصدام مع إسرائيل، مضيفًا “في الأيام الأخيرة، صدرت بعض التصريحات المطمئنة للغاية من المؤسسة العسكرية بأن مصر ليس لديها نوايا للحرب، كما تحدثوا عن حقيقة أن حماس تمثل مشكلة وأن هذا الوضع برمته حدث بسببها، وأننا – أي المصريين- بحاجة إلى تحييدها وعدم السماح لها بحكم غزة، بعبارة أخرى، لم نسمع طبول حرب هنا”.
إذا ما الهدف؟
تهدف إسرائيل من خلال تلك الحملة التي تهول وتضخم من التحركات المصرية في سيناء وتوهم الرأي العام الإسرائيلي والعالمي بنوايا تصعيدية مصرية تجاه الكيان المحتل إلى تحقيق عدة أهداف:
استمرار الحرب.. بحسب تحقيق “المراسل المزيف” الإسرائيلي، فإن تلك المنشورات المضللة ليست مصرية، ما يعني بطبيعة الحال أنها إسرائيلية، تروج لها بعض الفئات والتيارات ذات الأهداف البعيدة، إذ أن إشعال الشارع بورقة الخوف والرعب من احتمالية نشوب مواجهة مع مصر، من شأنها أن تُبقي على ارتفاع درجة الحرارة في المشهد الإسرائيلي، واستمرار حالة الترقب وصيرورة المعركة والحرب في غزة وعبر منافذ أخرى، وهو ما يصب في صالح نتنياهو وحكومته واليمين المتطرف الذي يحارب لأجل استمرار الحرب ومناهضة أي جهود للتهدئة.
استمرار دعم الحلفاء.. تصدير صورة وهمية للعالم باستهداف إسرائيل وتربص جيرانها بها من شأنه أن يعزز من دعم الحلفاء لها، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، واستمرار هذا الدعم عبر حشد دولي مُعتبر، وغض الطرف عن أي انتهاكات أو تحفظات بشأن ممارساتها الميدانية خلال حرب غزة، وهو ما تحتاجه تل أبيب بعد الخسائر التي تكبدتها على أيدي المقاومة طيلة أشهر الحرب الـ 15.
لحمة الجبهة الداخلية.. عانت الجبهة الداخلية الإسرائيلية من تفسخ كبير منذ بداية الحرب بسبب تباين وجهات النظر بشأن إدارة الحكومة لتلك المعركة، حيث تصاعدت الانتقادات سواء من الشارع الإسرائيلي أو عائلات الأسرى أو حتى المعارضة، فيما زادت وتيرة الانسحابات من الحكومة، الأمر الذي يضع مستقبل الكيان برمته على المحك، إذ أن تماسك الجبهة الداخلية يعد أحد الركائز الأساسية لاستمرار إسرائيل، وعليه فلا يمكن لتلك الجبهة أن تلتحم إلا بخلق عدو جديد وتعظيم قدراته وتهويل المخاطر الناجمة بشأنه، وهو ما تحققه تلك الحملة المضللة بشأن ما يحدث في سيناء.
الضغط على مصر.. لاشك وأن تصعيد المخاوف بشأن التحركات العسكرية المصرية في سيناء، سيمثل ضغطا على القاهرة التي ستكون مطالبة بتفنيد تلك المخاوف، ومحاولة إرسال رسائل طمأنة لإسرائيل والمجتمع الدولي، وهو ما قد يكون له تأثيره في دور الوساطة التي تقوم به القاهرة، وموقفها المتشدد الرافض لمقترح التهجير، وهو ما حدث سابقا مع التصريحات التي تصدر بين الفينة والأخرى من مسؤولين إسرائيليين بشان مساعدة الجانب المصري في تسليح المقاومة الفلسطينية عبر التهريب الحدودي ومن خلال الأنفاق، وهي الاستراتيجية التي كانت تتعامل معها مصر بتكثيف عمليات إغراق الأنفاق الحدودية وارتفاع السور الحاجز بين رفح المصرية والفلسطينية.
أما على الجانب المصري فقد استغل هذا التضخيم لصالحه، حيث اعتبره بمثابة هدية على طبق من ذهب، لتوجيه رسالة الامتعاض إزاء مقترح التهجير والضغوط التي تُمارس عليها من قبل واشنطن وتل أبيب، ملوحًا بورقة معاهدة السلام والعلاقات مع الكيان المحتل، في محاولة للدفع نحو إعادة النظر في مخطط ترحيل الغزيين وتهديد الأمن القومي المصري.
على كل حال وبعيدًا عن خطاب التهويل والتضخيم، والعنتريات الإعلامية المتبادلة بين الطرفين، سيظل الأمر في سياق السجال المنضبط بلجام التفاهمات والتنسيق المشترك ودون تجاوز للخطوط الحمراء، لكن في ظل وجود شخصية متعجرفة مثل ترامب على رأس الإدارة الأمريكية، ومأزق نتنياهو الساعي إلى تخليص رقبته من حبل الملاحقات القضائية الذي يلتف حولها، قد يمرق السهم من الرمية في أي وقت وبدون سابق إنذار.