في السنوات الأخيرة، بلغ القلق بشأن استثمارات المساعدات الصينية في منطقة جزر المحيط الهادئ درجة مثيرة للقلق، حيث استيقظ عامة الناس على حقيقة أن المحيط الهادئ أصبح مجالاً جغرافيًا سياسيًا متنازع عليه بين الصين وتايوان، حيث ضاعفت الدولتان من الضغط على دول هذه المنطقة لتغيير الولاء، وانخرطا في التجاذب الدبلوماسي في البلدان النامية.
قدمت تايبيه وبكين لسنوات مبالغ كبيرة من المساعدات، ومنحتا الأموال لحلفائهما في المنطقة، وهو حافز قوي للبلدان المنخفضة الدخل المعتمدة على المساعدات للتخلي عن العلاقات الدبلوماسية، لكن أموال الصين كانت أكثر إغراءً، وهو ما دفع مؤخرًا جزر سليمان، الدولة الواقعة جنوب المحيط الهادي، إلى قطع العلاقات الدبلوماسية التي استمرت 36 عامًا مع تايبيه لصالح بكين، تاركة الجزيرة وسط جهود الصين لعزلها.
تحول الولاء من تايوان إلى الصين
جاءت هذه الخطوة بعد مراجعة استمرت عدة أشهر في جزر سليمان، في محاولة للبحث في مزايا وعيوب تحول علاقاتها الدبلوماسية إلى بكين التي كانت تقدم ملايين الدولارات في صناديق التنمية لتحل محل الدعم الذي تقدمه لها تايوان.
في يونيو/حزيران الماضي، أعلن رئيس وزراء جزر سليمان المنتخب حديثًا مانسي سوجافاري أن الدولة الواقعة في المحيط الهادئ، أحد الحلفاء الدبلوماسيين القلائل لتايوان، ستقرر خلال 100 يوم إذا كانت ستنقل ولاءها واعترافها الدبلوماسي من تايوان إلى الصين.
تم تحديد الإطار الزمني للقرار من وزير خارجية جزر سليمان جيريمايا مانيلي خلال اجتماع ثنائي مع رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون، لكن النقاش الحساس لم يكن من المفترض أن يتم إعلانه.
تساي إنغ ون: “على مدى السنوات القليلة الماضية، استخدمت الصين باستمرار الضغوط المالية والسياسية لعزل تايوان عن العالم الخارجي”
قبل زيارة موريسون إلى الدولة المطلة على المحيط الهادئ في وقت سابق من يونيو/حزيران، كانت هناك تكهنات عما إذا كان سيدفع قادة جزر سليمان إلى الحفاظ على علاقتهم مع تايوان، بسبب معركة النفوذ في منطقة المحيط الهادئ بين أستراليا والصين.
مع اقتراب مهلة الـ100 يوم، بدت حكومة جزر سليمان ممزقة أكثر من أي وقت مضى بسبب القرار الوشيك، بل ذهب مشرعون إلى أن الدعوة النهائية يمكن تأجيلها لعدة أشهر، لكن قبل أسبوعين من كشف النقاب عن التغيير الذي حدث في العلاقات، شكَّلت جزر سليمان – التي كانت أحد الحلفاء الدبلوماسيين القلائل لتايوان – فريقًا من الوزراء للتحدث إلى بكين بشأن تحويل الولاء الدبلوماسي من تايوان إلى الصين.
تحالفت جزر سليمان مع تايوان منذ عام 1983، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 600 ألف نسمة، وهي أكبر دول المحيط الهادئ التي كانت تعترف بالجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، وتُمنع من إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين التي تتبنى مبدأ “صين واحدة”، ويتطلب أن تتجنب الدول الأخرى الاعتراف الدبلوماسي الرسمي بتايوان، إذا أرادت إقامة علاقات كاملة مع الصين.
وبعد إعلان قطع العلاقات الدبلوماسية التي استمرت 36 عامًا، اتهمت تايوان (المعروفة رسميًا بجمهورية الصين الوطنية) الصين بـ”دبلوماسية الدولار” ومحاولة التأثير على الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة في الجزيرة الواقعة في بحر الصين بشرق آسيا، وحث المسؤولون الحلفاء في المنطقة على الدفاع عما سموه “الحرية والديمقراطية التايوانية القيمة”.
The end of our relations with Solomon Islands reflects China’s unceasing efforts to lure away our allies, damage the morale of the Taiwanese people, & force us to accept “one country, two systems.” To this, the people of #Taiwan say: not a chance. https://t.co/76IzMSAOyx
— 蔡英文 Tsai Ing-wen (@iingwen) September 16, 2019
وفي حديثها للصحفيين في تايبيه، قالت رئيسة تايوان تساي إنغ ون إن بلادها “لن تنحني أمام الضغط الصيني، وهذه ليست الطريقة التي تتعامل بها تايوان مع دبلوماسيتها، ناهيك عن حقيقة أن وعود الصين بالمساعدة المالية غالبًا ما تكون فارغة”، وأضافت “على مدى السنوات القليلة الماضية، استخدمت الصين باستمرار الضغوط المالية والسياسية لعزل تايوان عن العالم الخارجي”، وتابعت: “أريد أن أؤكد أن تايوان لن تشارك في دبلوماسية الدولار مع الصين من أجل تلبية مطالب غير معقولة”.
وزير خارجية جزر سليمان، جيريمايا مانيلي، مع نظيره التايواني جوزيف وو، في 9 من سبتمبر
من جهته، أدان وزير خارجية تايوان جوزيف وو هذا القرار بشدة، وتوعَّد بإنهاء كل مشاريع التعاون الثنائية القائمة بين البلدين على الفور، وأضاف – في مؤتمر صحفي – أن قرار حكومة جزر سليمان جاء مخالفًا لإرادة شعبها، مثلما ظهر في استطلاعات الرأي الأخيرة التي أجريت هناك، وأوضح أن تايوان سوف تبدأ في استدعاء كل أفراد الطاقم الدبلوماسي والفرق الفنية.
في المقابل، أشادت وزارة الخارجية الصينية على لسان المتحدثة باسمها هوا تشون يينغ في بيان بقرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع تايوان والاعتراف بمبدأ “صين واحدة”، وأضافت “نؤيد هذا القرار المهم الذي اتخذته جزر سليمان بنفسها بصفتها دولة مستقلة ذات سيادة، ونحن على استعداد للعمل مع جزر سليمان لفتح آفاق واسعة جديدة لعلاقاتنا الثنائية”.
كان لهذه الخطوة أيضًا تداعيات في واشنطن، حيث عبَّر مساعد وزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ ديفيد ستيلويل عن خيبة أمله إزاء التقارير التي تتحدث عن هذه الخطوة، في حين غرَّد السيناتور الجمهوري ماركو روبيو بقوله: “الآن سأبدأ في استكشاف طرق لقطع العلاقات مع جزر سليمان، بما في ذلك احتمال إنهاء المساعدة المالية وتقييد الوصول إلى الدولار الأمريكي والخدمات المصرفية”.
And now I will begin exploring ways to cut off ties with #SolomonIslands including potentially ending financial assistance & restricting access to U.S. dollars & banking. https://t.co/1l7YdmhWNK
— Marco Rubio (@marcorubio) September 16, 2019
شراء العلاقات الدبلوماسية
من الناحية السياسية، تزعم الصين أن تايوان، التي تعمل تحت حكومتها وعملتها وجيشها الخاص، “لا يجب أن تتمتع بأي نوع من الاستقلال، ولا يحق لها إقامة علاقات رسمية مع أي دولة”، وتقول إنها لن تحتفظ بعلاقات مع أي دولة لها علاقات دبلوماسية رسمية مع تايبيه.
ومنذ تولي تساي إنغ ون – التي تنتمي إلى الحزب الديمقراطي التقدمي، الذي يدعو إلى استقلال تايوان – رئاسة حكومة مناهضة لبكين الحكم في تايوان في يناير/كانون الثاني 2016، كأول امرأة تُنتخب لهذا المنصب في البلاد، وصلت العلاقات بين الصين وتايوان إلى مستوى أدنى لها.
في حين أن الصين جذبت فقط ثلث الحلفاء الـ22 التايوانيين في بداية ولاية تساي، إلا أنها اختارت أكثرهم قيمة
منذ ذلك الحين، كثفت بكين جهودها لجذب حلفاء تايوان، حتى تمكنت من اجتذاب 6 دول، منهم جامبيا وساو تومي وساو تومي وبرينسيب وبوركينا فاسو والسلفادور، لتصبح جزر سليمان الدولة السابعة – والأولى في المحيط الهادئ – التي تقيم علاقات مع بكين.
وتشتبه الصين في أن تساي تضغط من أجل الاستقلال الرسمي لتايوان، التي أسسها القوميون المهزومون في أعقاب الحرب الأهلية قبل 70 عامًا، وتعتبر الحكومة في بكين الجزيرة “إقليمًا متمردًا على سلطة جمهورية الصين الشعبية الكبرى”، وقالت إنها مستعدة لاستخدام القوة لاستعادة الجزيرة ، إذا لزم الأمر.
رغم ذلك ترتبط تايوان – التي تتمتع بحكم ذاتي منذ عام 1983 – بعلاقات رسمية مع 16 دولة فقط في جميع أنحاء العالم، تشمل 5 دول “جزر” بالمحيط الهادي، وكثير منها دول صغيرة وأقل نموًا في أمريكا الوسطى، بما في ذلك بليز وناورو.
We have ended diplomatic ties with the #SolomonIslands. But our resolve to strengthen #Taiwan‘s democracy and defensive capabilities is stronger than ever before. The 23 million people of Taiwan refuse to bow to #China’s bullying, and will never accept “one country, two systems.”
— Taiwan Presidential Office Spokesperson (@TaiwanPresSPOX) September 16, 2019
وقالت تساي إن الخطوة الصينية قد تكون “محاولة لتحويل الانتباه” عن أشهر من الاحتجاجات في هونغ كونغ التي تحكمها الصين، وأن الصين تجبر تايوان على قبول صيغة مماثلة لترتيب “دولة واحدة ونظامان” في هونغ كونغ، حيث تشكل الاحتجاجات هناك التحدي الأكبر لحكام الحزب الشيوعي في بكين منذ تولي الرئيس شي جين بينغ السلطة في عام 2012.
وفي حين أن الصين جذبت فقط ثلث الحلفاء الـ22 التايوانيين في بداية ولاية تساي، إلا أنها اختارت أكثرهم قيمة، ومع تحول جزر سليمان، خفضت الصين من الوجود الدبلوماسي الرسمي لتايوان بنسبة 46% من حيث عدد السكان و52% من حيث الناتج الاقتصادي منذ تولي تساي السلطة، بحسب تقرير لوكالة “بلومبرج” الأمريكية.
توجد معظم السفارات الأجنبية في مبنى واحد في العاصمة التايوانية
اقتصاديًا، تعد الصين أكبر شريك تجاري لجزر سليمان، حيث بلغت قيمة الصادرات 326 مليون دولار في عام 2017 – أي ما يقرب من 65% من إجمالي الصادرات، وفقًا لبيانات حلول التجارة العالمية المتكاملة.
وتأتي هذه الخطوة المتبادلة بعد شهر تقريبًا من الكشف عن عرض الصين تمويل صندوق تنمية لصالح جزر سليمان إذا غيرت العلاقات الدبلوماسية إلى بكين، كما اعترف السفير التايواني المعين لدى جزر سليمان أوليفر لياو بأن سفارته لاحظت أن تأثير الصين في جزر سليمان ينمو “بشكل كبير” وأن التغيير الدبلوماسي إلى بكين “قد يكون أسوأ السيناريوهات”.
وفي حين عملت تايوان جاهدة للحفاظ على روابط قوية بين تايبيه وهونيارا من خلال المشاريع الزراعية وبرامج المنح الدراسية للجامعات، فإنها لا تستطيع التنافس ماليًا مع الصين، وهو ما دعا مراقبون إلى التحذير من أن التحول الدبلوماسي من هونيارا قد يؤدي إلى “تأثير الدومينو” بين بقية دول المحيط الهادئ المتحالفة مع تايوان.
وباعتبارها أكثر جزر المحيط الهادئ اكتظاظًا بالسكان، بالإضافة إلى موقعها الإستراتيجي بين بابوا غينيا الجديدة المتحالفة مع بكين وفيجي، ستكون جزر سليمان – إحدى الدول القليلة المتبقية التي تربطها علاقات دبلوماسية مع تايوان – جائزة مميزة بالنسبة للصين في محاولتها إبعاد حلفاء تايوان.
معركة النفوذ في المحيط الهادئ
تسعى أستراليا إلى مواجهة نفوذ الصين المتنامي في منطقة المحيط الهادئ، التي تعد جزءًا من الدافع ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺗﻨﻔﻴﺬ إﺳﺘﺮﺍﺗﻴﺠﻴﺔ ﻣﻮﺭﻳﺸﻴﻮﺱ في المحيط الهادئ، التي جعلت أستراليا تضع المنطقة في قلب برنامجها للشؤون الخارجية، وشهدت الحصول على 35% من ميزانية المساعدات في أستراليا.
غالبًا ما يُستخدم الدعم الاقتصادي وغيره من المساعدات كورقة مساومة للاعتراف الدبلوماسي. على سبيل المثال، تعد بالاو (أرخبيل يضم أكثر من 500 جزيرة) التي كانت خاضعة للإدارة الأمريكية حتى استقلالها عام 1994، واحدة من الدول القلائل التي أقامت العلاقات مع تايوان عام 1999 بعد بضع سنوات من التجاذبات عليها بين كل من بكين وتايبيه، ورفضت التخلي عن العلاقات الدبلوماسية مع تايوان وتحول ولائها للصين.
أثارت جزر سليمان نقطة التحول الدبلوماسي، لتترك تايوان أكثر عزلة على الساحة الدولية، في وقت تحاول فيه حكومة “تساي” تعزيز مكانة تايوان الدولية
كانت الصداقة التي استمرت قرابة 20 عامًا قوية بين تايوان وبالاو، لكن حلفاء تايوان في المحيط الهادئ – حيث تسعى الصين لزيادة نفوذها – يتراجعون ببطء، نتيجة لممارسة الصين الضغوط، وسعيها لمعاقبة منَْ يعترفون بتايوان ذات الحكم الذاتي، التي تعتبرها بكين أرضًا صينية.
بالنسبة إلى “بالاو” الصغيرة، حيث تمثل السياحة 42.3% من الناتج المحلي الإجمالي، فقد جاء هذا الضغط في شكل ما يسميه السكان المحليون “الحظر الصيني”، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أمرت الحكومة الصينية منظمي الرحلات السياحية بوقف بيع رحلات سياحية إلى بالاو، مع تقارير تفيد بأن القيام بذلك قد يؤدي إلى غرامات.
مع تزايد الضغوط والإغراءات الصينية المالية في الفترة الأخيرة، غيَّرت السلفادور ولاءها الدبلوماسي لصالح بكين في سبتمبر/أيلول الماضي، بعد إعلان هذه الدولة الواقعة في أمريكا الوسطى هذه الخطوة، ما دفع رئيسة تايوان تساي إنغ ون إلى التعهد بمحاربة الضغط الصيني في منطقة المحيط الهادئ.
وفقًا لوزير خارجية تايوان جوزيف وو، طلبت السلفادور من تايوان تقديم “مبلغ ضخم” ضمن المساعدات المالية لمشروع ميناء يعتقد المسؤولون أنه سيترك كلا البلدين مديونين، وفي الوقت نفسه، تلقت تايوان تقارير تفيد بأن السلفادور تدرس إقامة علاقات مع بكين في مقابل الاستثمار والمساعدة.
رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون يلتقي الأطفال في هونيارا
قبل أشهر قليلة من تحول موقف السلفادور، خسرت تايوان حليفين في شهر واحد، ففي 24 من مايو/أيار 2018، قطعت بوركينا فاسو العلاقات مع تايوان، وعلى الرغم من أنه لم يتضح على الفور ما إذا كانت هذه الدولة ستقيم علاقات دبلوماسية مع الصين، فإن المسؤولين في تايبيه قالوا إن هذه مسألة وقت فقط، وألقوا باللائمة على بكين في هذا الانتكاسة.
ووفقًا لبعض التقارير، عرضت بكين تقديم 50 مليار دولار إلى بوركينا فاسو لإقامة علاقات دبلوماسية معها على حساب تايوان، لكن الدولة الواقعة غرب إفريقيا غير الساحلية رفضت ذلك.
في 1 من مايو/أيار أيضًا، أعلنت جمهورية الدومينيكان إنهاء علاقتها الدبلوماسية التي استمرت 77 عامًا مع تايوان للاعتراف بالصين. قبل ذلك، تحولت الدولة الصغيرة الإفريقية ساو تومي إلى بكين في أواخر عام 2016، ليصبح لتايوان حليف واحد فقط في إفريقيا، وهي إسواتيني (سوازيلند سابقًا)، الدولة الواقعة في إفريقيا الجنوبية، تلتها بنما في يونيو/حزيران 2017.
وأخيرًا، أثارت جزر سليمان نقطة التحول الدبلوماسي، لتترك تايوان أكثر عزلة على الساحة الدولية، في وقت تحاول فيه حكومة “تساي” تعزيز مكانة تايوان الدولية، لكنها تواجه محاولة متضافرة من بكين لتقليص مساحتها على المنصات العالمية، فقد صعَّدت بكين من الضغوط على حكومتها بمنع تايوان من حضور قائمة متنامية من الأحداث الدولية وشن سلسلة من التدريبات العسكرية في جميع أنحاء الجزيرة.