في لحظة تاريخية طال انتظارها، يخرج الأسير نائل البرغوثي من خلف القضبان، ضمن الدفعة الأخيرة من المرحلة الأولى لصفقة تبادل الأسرى، ليطوي صفحة طويلة من الاعتقال الممتد لأكثر من 45 عامًا.
لم يكن نائل مجرد أسير، بل ذاكرة حيّة للنضال الفلسطيني، وتجسيدًا عمليًا لمقولة “إرادة لا تُكسر”، فأمام باب حديدي أُغلق خلفه لعقود، قال مرةً: “شهدتُ تغيير هذا الباب مرتين خلال رحلة اعتقالي، بسبب تلف الحديد، لكن معنوياتي لم تتلف، وثقتي بالحرية كبيرة”.. هكذا يختصر نائل حكايته، حكاية صمود استثنائي أمام القهر الإسرائيلي.
اليوم، لا تمثّل حرية نائل مجرّدَ حدثٍ شخصيّ، بل شهادة جديدة على أن الاحتلال، رغم جبروته، لا يستطيع كسر إرادة الأسرى الفلسطينيين، إنها حريةٌ انتصرت على الزمن، وصبرٌ هزَم السجن، وإرادة كتبت فصلًا جديدًا من نضال الأسرى في مواجهة المحتل.
سيرة أقدم أسير سياسي في العالم
نائل البرغوثي، “أبو النور”، عميد الأسرى الفلسطينيين، وصاحب أطول فترة اعتقال في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، قضى 45 عامًا في السجون من أصل 67 عامًا هي سنوات عمره، ليصبح أقدم أسير سياسي في العالم، وشاهدًا حيًّا على تحولات القضية الفلسطينية، من داخل الزنزانة التي أصبحت عالمه لأكثر من أربعة عقود.
وُلِد نائل البرغوثي عام 1957 في بلدة كوبر شمال غرب رام الله، وترعرع في ظل تصاعد الاحتلال وتوسع قمعه الممنهج ضد الفلسطينيين، وخلال فترة شبابه، لم يكن مجرد شاهدٍ على جرائم الاحتلال وانتهاكاته المتواصلة، بل كان مقاومًا في الصفوف الأمامية.
مع نكسة حزيران عام 1967، كان نائل في العاشرة من عمره، بينما كان شقيقه الأكبر عمر وابن عمه فخري البرغوثي في الرابعة عشرة، ورغم صغر سنهم، لم يمر عليهم مشهد الاحتلال كحدث عابر، بل قرروا تسجيل أول موقف نضالي لهم في المواجهة، فعندما اقترب جيش الاحتلال من بوابة قريتهم، وأطلق تحذيرات للسكان برفع الرايات البيضاء كإعلانٍ للخضوع، صعد نائل وعمر وفخري إلى سطح المنزل، ووضعوا كومة من الحجارة، وبدأوا بالتكبير والهتاف ضد الاحتلال، رغم علمهم أن الجيش لم يدخل البلدة بعد.
مع مرور الوقت، بدأ نائل وإخوته في تشكيل أول خلية سرية عام 1968، حيث اقتصرت أنشطتهم في البداية على الكتابة على الجدران ضد الاحتلال، وإغلاق القرى في المناسبات الوطنية، وقطع الطرق أمام الحافلات التي تنقل العمال الفلسطينيين إلى أراضي 1948.

لكن، مع تصعيد الاحتلال لجرائمه ضد الفلسطينيين، قررت المجموعة أن العمل المقاوم يجب أن يتطور إلى مرحلة أكثر تأثيرًا، ففي عام 1972، بدأ نائل وإخوته في محاولات تصنيع المتفجرات البدائية، وعند بلوغهم منتصف السبعينيات، سافر شقيقه عمر وابن عمه فخري البرغوثي إلى بيروت، حيث تلقيا تدريبات عسكرية مكثفة لمدة 6 أشهر على استخدام الأسلحة والمتفجرات ضمن صفوف فصائل المقاومة الفلسطينية هناك.
عند عودتهما، أدرك نائل أن الخلية بدأت تتجه نحو العمل العسكري الحقيقي، فأصرَّ على الانضمام إليها، رغم اعتراض شقيقه عمر، لكن موقفه كان واضحًا: “إذا لم تشركوني في العمل المسلح، فسأنضم إلى تنظيم آخر!”، وهو ما دفع شقيقه إلى قبوله كأحد أعضاء المجموعة الفدائية.
عند تأخر وصول السلاح، بدأ نائل ورفاقه في تنفيذ عمليات نوعية بوسائل بدائية، إذ نفَّذوا عدة عمليات تخريب ضد منشآت الاحتلال داخل الأراضي المحتلة عام 1948، ومنها: حرق مصنع زيوت في منطقة حيفا، وتخطيط لتفجير مطعم في القدس المحتلة (تم إلغاء العملية لأن عمالًا فلسطينيين كانوا يعملون في المكان)، وعملية قتل جندي إسرائيلي في شمال رام الله.
لكن أبرز العمليات التي شارك فيها كانت كمين الباص عام 1978، إذ رصدت مجموعته حافلة إسرائيلية تنقل عمال المستوطنات إلى تل أبيب، وبعد دراسة المسار، قرروا تنفيذ العملية في المنطقة الواقعة بين قريتي كفر عين والنبي صالح، لكن سوء الأحوال الجوية أجَّل العملية لعدة أيام.
في 29 يناير/كانون الثاني 1978، عادوا ونفذوا العملية، لكن ظهور مركبة إسرائيلية على الطريق أربك حساباتهم، فاضطروا إلى تنفيذ الهجوم بشكل سريع، دون الحصول على أسلحة الجنود الإسرائيليين كما كان مخططًا.
قبل تنفيذ العملية، كان نائل قد تعرض للاعتقال عام 1977، لكن لم تستطع سلطات الاحتلال إثبات التهمة عليه، فأمضى 18 يومًا فقط داخل السجن، خرج بعدها أكثر إصرارًا على استكمال طريقه.
لم يكن اعتقاله سوى مسألة وقت، فبعد تنفيذ كمين الباص، بدأت الاستخبارات الإسرائيلية حملة بحث وتحقيق واسعة، وتمكنت من الوصول إلى إحدى الرسائل السرية التي وصلت إلى المجموعة من بيروت، ما كشف جزءًا من أعضائها.
في 4 أبريل/نيسان 1978، كان نائل البرغوثي أول من اعتُقل، ثم لحقه شقيقه عمر بعد أسبوع، وابن عمه فخري لاحقًا، وتعرضت المجموعة لتحقيق استمر شهرين كاملين، في ظروف قاسية أشبه بـ”المسلخ البشري”، كما وصفها فخري لاحقًا.
لم يكتفِ الاحتلال باعتقالهم فحسب، بل اعتقل والدتهم، وزوجة شقيقه عمر، ووالدهم الذي حُكم عليه بالسجن لمدة سنة ونصف، كإجراء انتقامي لعائلة كانت تُشكِّل مثالًا للصمود والتحدي.
عندما مثل نائل ورفاقه أمام المحكمة العسكرية الإسرائيلية كان الجميع يعلم أن الحكم سيكون المؤبد، وفي لحظة النطق بالحكم، وبينما كان المعتقلون يشعرون بالترقب، بقي نائل هادئًا، أعصابه باردة كأن الأمر لا يعنيه، حتى جاء الحكم.
لكن، بدلًا من أن يكون الحكم لحظة انكسار، تحوَّل إلى لحظة تحدٍّ جديدة، إذ اتفق أفراد المجموعة على الصراخ بصوت واحد داخل القاعة: “ما بنتحول ما بنتحول يا وطني المحتل، هذا طريقنا واخترناها وعرة وبنتحمل!”. وفيما كانت قوات الاحتلال تسحبهم نحو السجن، كانت والدتهم تهتف من بعيد: “ع السبع يا سبع”!
لم يستسلم نائل لواقع الاعتقال، بل كان جزءًا أساسيًّا من النضال المستمر للحركة الأسيرة الفلسطينية، فقد شارك في جميع الإضرابات الجماعية التي خاضها الأسرى منذ عام 1977، وكان من أبرز الوجوه التي قادت التحركات داخل المعتقلات لتحسين ظروف الأسرى، ومواجهة سياسات العزل والتنكيل والحرمان.
كما كان صاحب دور ريادي في العمل التنظيمي داخل الأَسر، إذ بدأ رحلته داخل “فتح”، لكنه عارض مسار التسوية الذي سلكته قيادة الحركة، وخصوصًا بعد خروج المقاومة من بيروت في العام 1982، ودخول المفاوضات مع الاحتلال.
نتيجة لموقفه السياسي، انتقل إلى حركة “فتح الانتفاضة”، التي أسسها المنشق الفتحاوي أبو موسى، لكنها لم تكن محطته الأخيرة، إذ تحول لاحقًا إلى حركة “حماس”، واندمج في صفوفها، حتى أصبح من كوادرها البارزة في سجون الاحتلال، وانتُخب في أكثر من دورة عضوًا في مجلس الشورى العام للحركة داخل المعتقلات.
عائلة البرغوثي: إرث نضالي يمتد عبر الأجيال
تكاد لا تجد عائلةً فلسطينيةً تجسد روح الصمود والتحدي كما هي حال عائلة البرغوثي، التي حملت على عاتقها راية المقاومة عبر العقود، وقدَّمت مناضلين وأسرى وقادة سياسيين، في مسيرة ما تزال مستمرة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
هذه العائلة، التي ينتمي إليها الأسير نائل البرغوثي، إحدى القلاع النضالية في الضفة الغربية، ولم يسلم أفرادها من الاعتقال، والسجن، والنفي، أو حتى الشهادة، فخلال سنوات اعتقاله، فقد نائل غالبية أفراد عائلته، كان آخرهم شقيقه الأكبر عمر، الذي شكَّل مع نائل ثنائية نضالية استثنائية داخل المعتقلات وخارجها.
لم يكن عمر البرغوثي (أبو عاصف) مجرد شقيق لنائل، بل كان أحد أبرز المناضلين الفلسطينيين في العقود الأربعة الأخيرة، حيث أمضى في سجون الاحتلال 30 عامًا من حياته، وكان قياديًّا بارزًا في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وكان من أهم رموز المقاومة في الضفة الغربية.
في مارس/آذار 2021، توفي أبو عاصف متأثرًا بإصابته بفيروس كورونا، بعد شهرين فقط من الإفراج عنه، إذ كان قد قضى 9 أشهر في الاعتقال الإداري قبل إطلاق سراحه، كما لم تتوقف ملاحقته حتى في أيامه الأخيرة، إذ أعاد الاحتلال اعتقاله لساعات قبل وفاته بشهرين، وحذّرَه من ترشيح نفسه للانتخابات التشريعية، خوفًا من حضوره الشعبي الكبير في الضفة الغربية.
لم تكن هذه الملاحقة تقتصر عليه فحسب، بل امتدت لعائلته، إذ استُشهد نجله صالح عام 2018، فيما اعتُقل نجله الآخر عاصم مطلع عام 2019، ليُحكم عليه بالسجن المؤبد أربع مرات بتهمة تنفيذ عملية فدائية أدت إلى مقتل جنود من جيش الاحتلال.
المعتقلة المحررة حنان البرغوثي، والمعروفة أيضًا باسم “أم عناد”، شقيقة نائل وعمر البرغوثي، وواحدة من النساء الفلسطينيات اللواتي جسَّدن نضال عائلات الأسرى، أمضت حياتها متنقلة بين السجون لزيارة أشقائها وأبنائها، إذ اعتُقل جميع أبنائها الأربعة: عناد، وعبد الله، وعمر، وإسلام، وهم يقبعون في سجون الاحتلال تحت الاعتقال الإداري، دون تهم أو محاكمات.
لم يقتصر نضالها على الصبر على الاعتقالات المتكررة، بل تحولت إلى صوت مدافع عن الأسرى وحقوقهم، ما جعل الاحتلال يستهدفها بالاعتقال عدة مرات، فكانت عرضة للتنكيل والإبعاد والتضييق المستمر، وفي إحدى المرات، قال لها أحد ضباط الاحتلال في أثناء اقتحام منزلها: “سنُبقيكِ وحيدة” لكن حتى هذا التهديد لم يكسرها، ولم يكسر إرادة العائلة التي اعتادت على مواجهة الاحتلال بثبات لا يُهزم.
إلى جانبهم، شكَّل فخري البرغوثي، ابن عم نائل، نموذجًا آخر للصمود، حيث قضى 33 عامًا في سجون الاحتلال قبل أن يتحرر، لكنه لم يكن الأخير من العائلة الذي يواجه الأسر، فابنه شادي يقبع اليوم في السجن محكومًا 27 عامًا، قضى منها 19 عامًا حتى الآن.
وإذا كان نائل البرغوثي أقدم أسير سياسي في العالم، فإن عبد الله البرغوثي صاحب أعلى حكم بالسجن في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، إذ حُكم عليه بالسجن 67 مؤبدًا، إضافة إلى 5200 عام، لمسؤوليته عن سلسلة عمليات استشهادية في خلال انتفاضة الأقصى (2000-2003).
ورغم عزله لسنوات طويلة، لم يتوقف عن إنتاج الأدب داخل السجون، إذ ألَّف عددًا من الكتب والروايات، التي خرجت إلى الفضاء الفلسطيني والعربي، لتكون شهادة حية على نضال الأسرى الفلسطينيين وإرادتهم الصلبة.
لا تكتمل قائمة الرموز النضالية من عائلة البرغوثي دون ذكر مروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، الذي يقبع في سجون الاحتلال منذ 21 عامًا، محكومًا بالسجن المؤبد، بسبب دوره القيادي في انتفاضة الأقصى.
يحظى مروان بشعبية كبيرة في الشارع الفلسطيني، ويُنظر إليه كأحد أبرز المرشحين لخلافة محمود عباس، رغم أنه خلف القضبان، إذ يخشى الاحتلال أن يكتسح أية انتخابات رئاسية فلسطينية، ولهذا يرفض إطلاق سراحه، لأنه يُدرك أن مروان قد يكون القائد الذي يُعيد ترتيب البيت الفلسطيني من جديد.
أسرٌ بلا نهاية.. وحرية لم تكتمل
عام 2011، تنفس نائل الحرية أخيرًا، بعد أن أطلِق سراحه ضمن صفقة “وفاء الأحرار” بين “حماس” والاحتلال، وكانت لحظة خروجه من السجن أشبه بولادة جديدة، فقد عاد إلى عالم تغيَّر كثيرًا، بعد أن غاب لأكثر من 33 عامًا.
خرج نائل من خلف القضبان إلى حياة طالما انتظرها، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، احتفل بزواجه من الأسيرة المحررة إيمان نافع، التي كانت تشغل منصب مديرة العلاقات العامة في نادي الأسير الفلسطيني.
لم يكن هذا الزواج مجرد ارتباط عادي، بل قصة حب ولدت داخل الزنزانة، وتحدَّت السجن والقضبان والأسلاك الشائكة، حيث تعرَّف نائل على إيمان في أثناء وجوده في الأسر، حين كان يشاهدها في مقابلاتها التلفزيونية، ويستمع إلى كلماتها التي حملت روح المقاومة والثبات، ليكون التواصل بينهما عبر الهاتف، في لقاءات مقتضبة لكن كافية لزرع أمل جديد في حياته.
ثلاث سنوات فقط قضاها نائل في الحرية، لكنها لم تكن حرية مكتملة، فقد فرض عليه الاحتلال الإقامة الجبرية، ومنعه من مغادرة رام الله وقراها، وعلى الرغم من ذلك، تروي زوجته لـ”نون بوست” كيف حاول نائل أن يعيش كل لحظة وكأنها عمر بأكمله، فقد كان مرتبطًا بالأرض التي لم يفقد إحساسه بها رغم عقود الأسر الطويلة.
وكان يستيقظ مع الفجر، ينظر إلى السماء التي حُرِم من رؤيتها دون قضبان، ويقضي يومه في العمل في الأرض التي ورثها عن أجداده، والتي كانت تمثل هويته وامتداده في هذا الوطن.
لكن الاحتلال لم يسمح له بالاستمرار في هذا الحلم طويلًا، ففي عام 2014، عاد إلى الأسر بحجة “مخالفته لشروط الإفراج”، دون أي دليل على ذلك، إذ كان هذا الاعتقال ليس سوى خطوة انتقامية مدروسة، فأصدر الاحتلال حكمًا عليه بالسجن 30 شهرًا، وسرعان ما أعاد تفعيل حكمه السابق، ضاربًا بعرض الحائط كل الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي نصَّت على حريته.
حياة داخل الجدران
لم يكن اعتقال نائل البرغوثي مجرد احتجاز سياسي اعتيادي، بل كان حكمًا طويلًا بالمعاناة، وتجربةً فريدة في القهر والصمود، فمنذ لحظة أسره عام 1978، كان الاحتلال عازمًا على كسر روحه، عبر سياسات ممنهجة من العزل، والتنكيل، والتضييق اليومي. لكنه لم يُهزَم يومًا، ولم يسمح للسجن بأن يسلبه هويته أو معنوياته.
80 زنزانةً كانت شاهدة على صموده، حملت كل واحدة منها جزءًا من حكايته، لكنها لم تغيِّر شيئًا من قناعاته، حيث عاش في العزل الانفرادي ست سنوات متواصلة، لم يرَ فيها أحدًا سوى الجدران التي كانت تحفظ صمته وقوته، ولم يكن يسمح للجنود برؤية ضعفه، بل كان دائمًا يواجههم بابتسامة ساخرة وقلب لا ينكسر.
في عقود السجن، لم تكن الممتلكات مهمة، بل الذكريات، فالاحتلال الذي حاول أن يعزل نائل عن العالم لم يكن يستطيع أن يمحو ماضيَه من ذاكرته، فتحولت بعض مقتنياته البسيطة إلى جزء من تاريخه الشخصي داخل الأسر، فقد احتفظ ببطانية واحدة لـ15 عامًا، وصاحبه ألبوم صور عائلته لربع قرن، وأما “بكرج” القهوة الذي كان يحتسي منه كل صباح فقد ظل رفيقه الدائم لـ17 عامًا، كما لو كان صديقه الصامت في الغرفة المعتمة، يتبادل معه الأمل والتفكير بمستقبل الحرية.
لم يكن السجن عند نائل البرغوثي مجرد عقوبة أو عزلة إجبارية، بل عدَّه محطة لصقل الذات، وتعميق الفكر، وبناء الشخصية النضالية، فمنذ لحظة اعتقاله، قرر أن يجعل من جدران السجن مكتبة، ومن الزنازين قاعات للدراسة، ومن السجانين وقودًا لعزيمته المتقدة.
آمن نائل بأن المعرفة أقوى سلاح يمكن أن يمتلكه الأسير، ولذلك كرَّس كل وقته في السجن للقراءة والتعلم، فأتقن خلال سنوات اعتقاله الإنجليزية والعبرية، وحاول تعلم الإسبانية، وقرأ في مختلف المجالات، لكنه كان مهووسًا بالتاريخ.
يقول أحد رفاقه في الأسر: “لم يدخل كتاب تاريخ إلى السجن إلا وقرأه نائل”، مضيفًا أن فترات سجنه كانت “كلها قراءة، ونقاش سياسي، وجلسات ثقافية”، ما جعله مرجعًا فكريًّا داخل السجون، فلم يكتفِ بالتعلم، بل كان يُقدِّم محاضرات سياسية وتاريخية للأسرى الجدد، لرفع وعيهم وتعزيز صمودهم.
في أواخر التسعينيات، نقل الاحتلال نائل البرغوثي إلى سجن “هداريم”، وهو السجن الذي افتُتح خصيصًا لعزل الأسرى القدامى وذوي الأحكام العالية، لكن بدل أن يكون العزل أداة لكسرهم، حوَّل نائل ورفاقه السجن إلى مساحة نقاش سياسي وثقافي، وأسَّسوا “المنتدى السياسي”، وهو إطار يجمع الأسرى لمناقشة القضايا السياسية الراهنة، وتحليل المستجدات، وصياغة رؤى نضالية موحدة.
كانت أحد أبرز أنشطة المنتدى كتابة مقال جماعي يُوزَّع على الأسرى داخل السجون، وينشَر خارجه، ليكون صوت الأسرى السياسي الموجه للعالم الخارجي، ومساهمة في النضال الفلسطيني من داخل الزنازين.
داخل السجن، كان يوم نائل منضبطًا كساعة لا تتوقف، فهو يبدأ بقراءة جزء من القرآن، ثم متابعة الأخبار السياسية بكل تفاصيلها، ليقضي بعدها ساعات طويلة في القراءة. لم يكن هذا الروتين مجرد محاولة لتمضية الوقت، بل نهجًا واعيًا للحفاظ على توازنه النفسي والفكري داخل السجن.
الإبعاد: عقوبة جديدة لتنغيص الحرية
لم تكتمل فرحة العائلة ولا فرحة الفلسطينيين بحرِّية نائل البرغوثي، إذ قررت سلطات الاحتلال إبعاده قسرًا عن منزله وبلدته كوبر، لتنغيص لحظة الحرية وتحويلها إلى محطة أخرى من المعاناة، مع ذلك لم يكن قرار الإبعاد مفاجئًا في سياق العقلية الانتقامية للاحتلال، لكنه كان صدمة قاسية لعائلته التي كانت تستعد لاستقباله بعد عمر من الاعتقال.
“كنا ننتظر أن يعود نائل إلى بيته، إلى رام الله، حيث مكانه الطبيعي، لكن الاحتلال اختار أن يُكمل عقابه حتى بعد الحرية.” هكذا عبَّرت زوجته إيمان نافع “أم النور” عن مشاعر العائلة في حديثها لـ”نون بوست”، فالاحتلال، الذي أعاد اعتقال نائل بعد “وفاء الأحرار” عام 2011، تعامل مع قضية إعادة اعتقال محرَّري الصفقة بوصفها ورقة مساومة على “رهائن”، يحتجزهم للضغط على المقاومة وإجبارها على تقديم تنازلات في المفاوضات حول الأسرى الإسرائيليين.
ورغم قسوة القرار، فليس نائل غريبًا عن مواجهة محاولات الإبعاد، فقد كان قد رفضه قاطعًا خلال صفقة “وفاء الأحرار” حين حاول الاحتلال فرض الإبعاد شرطًا للإفراج عنه، فصمَّم على موقفه، ما اضطر الاحتلال في النهاية إلى إطلاق سراحه في الضفة الغربية.
هذه المرة أيضًا، كان نائل واضحًا في موقفه: لا للإبعاد، نعم للحرية في أرضه وبين أهله، لكنه، كما فعل دائمًا، وضع المصلحة الوطنية فوق أي اعتبار شخصي، فبعد أن بدأ بعض الأسرى بتبنِّي الموقف ذاته، أدرك أن تمسُّكه بالرفض قد يعقِّد الصفقة في لحظة حساسة للشعب الفلسطيني وللأسرى المنظورة حريتهم، فاختار أن يُضحِّي مجددًا، وأن يقبَل الإبعاد بوصفه “محطة مؤقتة”، يناضل في خلالها للعودة إلى قريته التي لم تفارقه يومًا.
بالنسبة لعائلته، ظلَّ الفرح بحرِّية نائل منقوصًا بسبب الإبعاد، لكنهم يعرفون جيدًا أن نائل أقوى من أن يُكسَر، وأنه حتى في منفاه المؤقت، سيبقى يحمل إرادة العودة حتميةً لا يمكن التراجع عنها.
“نائل وعائلته الأقدر على انتزاع الحياة من بين براثن الاحتلال، وسيعود إلى أرضه يومًا، كما عاد إلى الحرية رغم كل القيود”، بهذه الكلمات اختتمت “أم النور” حديثها لـ”نون بوست”، مؤكدة أن الاحتلال قد يتحكم بالجغرافيا، لكنه عاجز عن كسر الإرادة الفلسطينية التي ستنتصر مهما طال الزمن.
رجل هزَم الزمن
مع دخول اسمه ضمن صفقة تبادل الأسرى، يصبح نائل البرغوثي عنوانًا بارزًا للحرية والانتصار على الاحتلال، فخروجه لن يكون مجرد تحرير لأسير فلسطيني آخر، بل استعادة لذاكرة نضالية امتدت لعقود، وترسيخًا لرمز خالد في وجدان جيلين من الفلسطينيين، جيل وُلد وهو في الأسر، وجيل كبر على سماع اسمه كأحد أعمدة النضال الفلسطيني.
إن قصة نائل البرغوثي رواية وطنٍ بأكمله، نضال شعب، وقضية لم ولن تسقط بالتقادم، وإذا كان الاحتلال قد ظن يومًا أن الزمن كفيل بإضعاف عزيمة الفلسطينيين، فقد خرج نائل ليؤكِّد أن الزمن ليس في صالح الظالم، بل في صالح من يُؤمِن بعدالة قضيته.