صعود قيس سعيد المرشح المستقل وتصدره نتائج استطلاع الرأي للدور الأول من الانتخابات الرئاسية بتونس، بعد أن أطاح بأبرز مرشحي الأحزاب الكبرى ومنهم رئيس البرلمان بالنيابة ومرشح حركة النهضة (إسلامية) عبد الفتاح مورو، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، مثل زلزالًا سياسيًا وضربة في مقتل المنظومة الحزبية الحاكمة، أو “السيستام”، وكشف أيضًا “وهم” حياد اتحاد العام التونسي للشغل (منظمة شغيلة)، ووقوفه على نفس المسافة من جميع الأحزاب السياسية في الاستحقاق الرئاسي.
أكّد الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي بالاتحاد العام التونسي للشغل، لسعد أن المنظمة الشغيلة ساندت وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي في الانتخابات الرئاسية، وقال في تدوينة على موقع فيسبوك: “أنا ابن الاتحاد ودفعت من أجل منظمتي ما استطعت ولكني سأقولها منظمتي انخرطت وراء الزبيدي وللأسف خسرت رهان لم يكن رهان العمال ورهان التونسيات والتونسيين كالعادة أضعنا البوصلة”.
وأضاف اليعقوبي في تدوينة أخرى:” الدور الأول انتهى.. اقلبوا الصفحة.. أستاذ القانون (قيس سعيد) رئيس”.
الاتحاد ونداء تونس
وكانت أروقة الاتحاد العام التونسي للشغل قد عرفت خلال الفترة الممتدة من 27 أغسطس/آب حتى الثالث من سبتمبر/أيلول حراكًا استثنائيًا باستقبال أمينه العام نور الدين الطبوبي تقريبًا كل المرشحين للرئاسة في فترة زمنية وجيزة باستثناء قيس سعيد (والقروي بطبيعة الحال وهو في محبسه)، مما أثار ردود فعل متباينة حول الأهداف والنقاشات التي رافقت هذه الزيارات أيامًا قبل الاستحقاق الانتخابي.
ورفض الاتحاد في وقت سابق تأويلات السياسيين المشككين في الأهداف المعلنة للزيارات المتعاقبة وفي حياد المنظمة أمام التجاذبات السياسية بين الأحزاب والمرشحين في البلاد، إذ أعلن في بيان له أن استقبال الأمين العام للمرشحين جاء بناء على طلب منهم للتشاور حول الوضع العام للبلاد.
وأكد الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، بوعلي المباركي أن الاتحاد لن يدعم أي مرشح للانتخابات التشريعية او الرئاسية، وأن الاتحاد يقف على نفس المسافة من جميع الأحزاب السياسية وأنه يتمنى الفوز للحزب الذي له برنامج واضح لإنقاذ تونس، قائلًا نحن لسنا حزبًا سياسيًا وليس لدينا أي مرشح، وهمنا الوحيد هو إنجاح هذا الاستحقاق الانتخابي”.
يتجدَّد الجدل حول دور الاتحاد العام التونسي للشغل في الشأن السياسي الوطني عادة عندما يحصل التوتُّر بين المنظمة النقابية المركزية والسلطة السياسية الحاكمة
وعلى عكس المباركي، أوضح الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، محمد علي البوغديري في تصريح، أن “رغبة الاتحاد في المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة لن تكون عبر ترشيح قائمات انتخابية باسمه، بل بتوجيه النقابيين للتصويت لطرف سياسي على حساب آخر”.
تصريح المسؤول النقابي، أكّده موقع الغد الإماراتي في خبر عاجل جاء فيه أنّ القيادي من الاتحاد رفض نشر اسمه، كشف أن الاتفاق على ترشيح الزبيدي جاء خلال اجتماع ضم كلًا من حافظ السبسي نجل الرئيس الراحل الباجي القائد، الممثل القانوني لحركة نداء تونس، والأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، وتبادل فيه الطرفان موقفهما من الانتخابات الرئاسية.
أي دور للمنظمة؟
يتجدَّد الجدل حول دور الاتحاد العام التونسي للشغل في الشأن السياسي الوطني عادة عندما يحصل التوتُّر بين المنظمة النقابية المركزية والسلطة السياسية الحاكمة، التي تتهم المنظمة النقابية بتجاوز وظيفتها الطبيعية: من المطلبية الاجتماعية إلى الشأن السياسي، إلّا أنّ دفعها بمرشح المنظومة القديمة والمدعوم من الإمارات أثار ردود أفعال التونسيين على شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك وتساءلوا عم الدور الحقيقي للمنظمة الشغيلة.
برز اتحاد الشغل بعد الثورة كقوة سياسية واجتماعية وازنة، باعتباره أكبر قوة منظمة في تونس بعدد منتسبيها الضخم ولعب دور الحكم بين كافة الفاعلين في البلاد من أجل إرساء اتفاق سياسي يُحقّق الاستقرار والتنمية ومصلحة الدولة
وكتب الناشط نور الدين الغيلوفي على صفحته: “اتّحاد الشغل عصابة إجراميّة تنتحل اسم الوطنيّة يأكل من زاد الكادحين ويمسكهم، يصرخ بأسمائهم في النهار ويعتنق جلّاديهم في الليل، كان ولا يزال حجر عثرة في طريق كلّ تغيير مفيد للناس، لا تناسبه غير المناخات الملوَّثة يتناسل في رحمها، لن يصلح أمره ما دام القائمون عليه برسومهم وأسمائهم”.
وأضاف الناشط في تغريدة أخرى: ” الشعب الذي انتخب قيس سعيد عاقب اتّحاد الشغل الذي لم يُخْف دعمه للزبيدي المبشّر بالدبّابة، فكان معه في ذيل الترتيب بعد أن صرخ كبير الكهنة “لن نترك البلاد لكلّ من هبّ ودبّ” وقد نسي أنّه هو نفسه صاحب الدبيب وعلامة الهبوب”.
من جانبه علّق الكاتب التونسي عادل بن عبد الله عن تدخل الاتحاد ووقوفها إلى جانب وزير الدفاع، قائلًا: “المركزية النقابية كانت ومازالت جزءًا من منظومة الحكم الفاسد، وثقوا انها ستدعم نبيل القروي في صورة تأكد مروره إلى الدور الثاني، وثقوا أيضا أنها ستكون أكبر عائق أمام الإرادة الشعبية إذا كان الفائز من خارج المافيا الحاكمة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا”.
ودون شوقي بن سالم على صفحته بموقع فيسبوك: “أنا منخرط في اتحاد الشغل ولست مسؤولًا نقابيًا ولكن انخراطي يمنحني مشروعية أن أقول إن اصطفاف المكتب التنفيذي خلف عبد الكريم الزبيدي جريمة في حق الشعب وإننا كنقابيين نعتز بانتمائنا لاتحاد الشغل من حق تونس علينا أن نكنس الطبوبي وزمرته”.
من جهة أخرى، فإن دعم الاتحاد للزبيدي أو انخراطه في ترجيح كفة فصيل سياسي على حساب آخر ليس أمرًا مستجدًا، حيث أنّ المنظمة النقابية دعمت الأحزاب المعارضة لحكم الترويكا (تحالف النهضة وحزب المؤتمر والتكتل).
وبالعودة إلى التاريخ نجد أن الاتحاد شارك في فترة ما بعد الاستقلال في الانتخابات ضمن جبهة وطنية، كما كان له ممثلون في البرلمان لفترة طويلة، إضافة إلى أنّه رجح كفة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة على منافسه صالح بن يوسف على قيادة “الدستوري الحر” في مؤتمر صفاقس نوفمبر/ تشرين الثاني 1955.
من التدجين إلى الاستقلال
رغم أنّ اتحاد الشغل عاش في ظل حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي أسوأ فتراته حيث رضي قادته، بزعامة إسماعيل السحباني ومن بعده عبد السلام جراد، بالامتيازات التي قدمها لهما النظام مقابل المهادنة ودعم بن علي (أعلن الاتحاد عام 2004 مساندته ترشح بن علي لولاية رئاسية جديدة بعد تعديله الدستور)، ونأت قيادته أيضًا بنفسها عن المظاهرات المطالبة برحيل زين العابدين بن علي من ديسمبر كانون الأول 2010 إلى يناير كانون الثاني 2011، إلاّ أنّ المنظمة (القواعد والمكاتب الجهوية) ساندت وقادت الحراك، وسعت منذ انخراطها في الثورة إلى محو تلك الحقبة السوداء في تاريخها.
وبرز اتحاد الشغل بعد الثورة كقوة سياسية واجتماعية وازنة، باعتباره أكبر قوة منظمة في تونس بعدد منتسبيها الضخم ولعب دور الحكم بين كافة الفاعلين في البلاد من أجل إرساء اتفاق سياسي يُحقّق الاستقرار والتنمية ومصلحة الدولة، تمخض عنه الحوار الوطني عام 2013 بعد اتفاق الاتحاد إلى جانب تسعة أحزاب ومنظمتين للتوقيع على وثيقة قرطاج، وحصوله على جائزة نوبل للسلام عام 2015 بالتشارك مع منظمات نقابية أخرى.
يرى مراقبون أن المنظمة الشغيلة في حال دخولها غمار السياسة ستخسر موقعها المريح كوسيط وحكم بين فرقاء السياسة وستتحول إلى خصم مباشر لأغلب الأطراف
ومع تعليق الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي، العمل بوثيقة قرطاج، في مايو/أيار الماضي برز خلاف بين الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، ليؤكد الأول أن منظمته لم تعد ملزمة بأي قرار تتخذه الحكومة.
وتحول بذلك الاتحاد إلى أبرز قوة معارضة للحكومة، إلى جانب شق داخل حركة نداء تونس، يقوده نجل الرئيس، حافظ قايد السبسي، خاصة بعد إعلان نورالدين الطبوبي إمكانية مشاركة الاتحاد في الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة.
وكان رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي كشف في تصريح تلفزيوني عن تدخل المنظمة الشغيلة في الحياة السياسية ومحاولة قيادتها تعيين وزراء ومسؤولين، مضيفًا: “وصل بها الأمر إلى سعيها لفرض رئيس جمهورية ورئيس حكومة”.
مشروع سياسي
يرى مراقبون أن منظمة الشغيلة في حال دخولها غمار السياسة ستخسر موقعها المريح كوسيط وحكم بين فرقاء السياسة وستتحول إلى خصم مباشر لأغلب الأطراف، زد على ذلك الصراعات الدائمة بين مكوناته السياسية (يسار وعاشوريين نسبة إلى الحبيب عاشور وإسلاميين بدرجة أقل) والاجتماعية والجهوية سيهدد التوازن القائم داخل الاتحاد وسيحول دون تكونه كحزب مستقل بذاته.
وأكّد الخبير الاقتصادي ووزير المالية السابق حسين الديماسي، أنّ دخول المنظمة النقابية الانتخابات والفوز بها سيؤثر بصفة مباشرة على السياسة الاقتصادية للبلاد، مشيرًا إلى أن اتحاد الشغل الذي يتهم كل الحكومات المتعاقبة بالرضوخ لإملاءات صندوق النقد الدولي هو أكثر طرف يتحمل مسؤولية الفشل والوضع الاقتصادي الصعب.
وتابع الديماسي: “اتحاد الشغل هو من كان يُملي القرارات على كل الحكومات، إذا فاز الاتحاد العام التونسي للشغل بالانتخابات فيا خيبة المسعى، لأنه سيعيد إنتاج سياسات الفشل التي انتهجها منذ ثورة يناير 2011.”
كثيرًا ما برر اتحاد الشغل تدخله في الشأن السياسي، بفشل الأحزاب الحاكمة في إدارة شأن البلاد لثماني سنوات متتالية منذ ثورة يناير/كانون الثاني 2011
في ذات الإطار، فإنّ تحوّل الاتحاد التونسي للشغل إلى حزب سياسي (فكرة طرحت في عهد الحبيب عاشور في أواخر الحقبة البورقيبية) على شاكلة حزب العمّال في بريطانيا، ستصطدم بجدار آخر غير الحاجز الهيكلي للمنظمة، فالنتائج الأخيرة للانتخابات ستؤثر في صورته ورمزيته التاريخية، حيث أظهرت فشل استراتيجية الاتحاد في تحديد ورسم الخارطة السياسية في تونس والمتمثل في:
– خسارة رهانها في ترشيح وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي رغم فقدانه للحاضنة الشعبية (مدعوم من بعض النخب والإمارات).
– تمسكها بترشيح أحد وجوه المنظومة القديمة.
– تخليها عن الأحزاب التقليدية التي تنتمي إلى نفس العائلة السياسية (اليسار) رغم تعدد المرشحين وهم حمة الهمامي حزب العمال ومنجي الرحوي الجبهة الشعبية إضافة إلى عبيد البريكي المسؤول السابق في الاتحاد.
إلى ذلك، كثيرًا ما برر اتحاد الشغل تدخله في الشأن السياسي، بفشل الأحزاب الحاكمة في إدارة شأن البلاد لثماني سنوات متتالية منذ ثورة يناير/كانون الثاني 2011، مستندًا في ذلك إلى تراجع الاقتصاد والتنمية، وارتفاع نسب البطالة، إلاّ أنّ ترشيحه للزبيدي كشف وهم دعواه، فالأخير يُعد امتدادًا لذات السياسة المتمثلة حسب قوله في الارتهان للبنك الدولي والإمبريالية المقيتة.