هل تعيد تكنولوجيا العصر تشكيل معالم الإنسانية، دافعةً بنا نحو عوالم من السكون العاطفي والعيش الغرائبي، حيث نصادق الآلة بدلًا من البشر؟ احتمالٌ واردٌ يعيشه بعضنا، مع تزايد الحديث اليومي مع “تشات جي بي تي”، سواءً لاستفسار عن بعض المعلومات أو لمجرد الفضفضة، حتى أصبح حديثًا لا ينقطع.
في السنوات الأخيرة، ظهرت أعمال مقروءة ومرئية في الأدب والسينما تقدّم رؤى جريئة لعالم المستقبل القريب، وتستشرف العلاقة المعقدة بين الإنسان والآلة، وتأثير التكنولوجيا على حياة البشر، في عالم يعجّ بالتحولات الرقمية والذكاء الاصطناعي.
تستعرض هذه الأعمال عوالم متخيّلة مليئة بالإثارة والتشويق، وأحيانًا بالغموض، تنبض بحياة بديلة تتقاطع فيها التكنولوجيا مع البعد الإنساني العاطفي والوجودي، ضمن أطر مدهشة تجمع بين الواقعية والغرائبية، أو بين الخيال والفانتازيا، التي تكتسب في كثير من الأحيان نكهة ديستوبية، تجعل القارئ يفكر في حدود الممكن والمستحيل.
رواية “أحلام سعيدة”: علاقات بديلة في عالم مقيد
رُشِّحت رواية “أحلام سعيدة” للكاتب أحمد الملواني ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية هذا العام، لكنها لم تصعد إلى القائمة القصيرة. تنقسم الرواية إلى أربعة فصول: نوم ثقيل، وكابوس، والصحو، وحلم جديد، حيث تتبدد روابط الصداقة والرفقة بعد فرض الحكومة بروتوكول تنظيم الوقت، الذي يُجبر الأفراد على إعادة تشكيل علاقاتهم الاجتماعية عبر إحلال وتبديل مستمر، بحثًا عن أشخاص مستيقظين في الوقت ذاته ليملأوا فجوات حياتهم.
يحدد البروتوكول مواعيد نوم كل شخص، ويضمن إذعانه اللاإرادي عبر تكنولوجيا التحكم العصبي، حيث تُزرع شريحة في الرأس تتحكم بالعقول، فيسقط الشخص نائمًا في أي مكان كان، وفي ظل هذا النظام، الذي يُعفى منه أصحاب السلطة، تلاشى وجود الصديق والزوجة، وفي بعض الحالات، فُقد الأب أو الأم أو حتى الأبناء.
ولم يعد التواصل إلا عبر لوح رسائل أو تسجيلات مصورة، فيما صار طلب تعديل مواعيد النوم رسميًا بما يتوافق مع شخص عزيز يتطلب ثروة طائلة، أما محاولة إزالة الشريحة فمصيرها السجن.
بمجرد أن يغفو زارع الشريحة، يتمكن مخترعها من التحكم في أحلام الناس، حيث تستخدم السلطة هذه التكنولوجيا لزرع الأحلام التي ترغب بها في عقول الشعب، وأحيانًا الكوابيس. في البداية، ينخدع الناس بوهم تحقيق أحلامهم وتحويل رغباتهم إلى واقع محسوس، متأملين في معايشة ما حُرموا منه في الحقيقة، لكن سرعان ما يتكشف الوجه القمعي لهذه السيطرة، ما يدفع البعض إلى التمرد، فيشكلون جماعة معارضة تُعرف بـ “المستيقظين”، الذين يرفضون البروتوكول ويؤمنون بولاء فكري للبلد ولجماعتهم، بعيدًا عن الولاءات الشخصية.
رواية “نيورا”: عالم آخر أكثر تطرفًا
في رواية “نيورا” للكاتب أحمد عبد العزيز، تتجلى صورة عالم بديل، حيث تعيش نخبة المجتمع الأكثر رقيًا في مستعمرة متحضرة، ينعم سكانها بالسعادة والعدالة والرخاء، بعيدًا عن ما يُصنفونه بالهمجية.
في هذا النظام، يعتمد المجتمع بالكامل على المساعد الرقمي “نيورا”، لكن تحت هذه القشرة المتحضرة، يُحظر الفن، والأدب، والفلسفة، والمنطق، بل حتى المشاعر والأحاسيس تُعتبر ممنوعة، ووفق دستور الكيان أيضًا، لا مكان للسياسة، والدين، أو التفكير المستقل، حيث تُفرض القوانين بصرامة، وأي مخالفة تُواجه بعقاب وحيد لا بديل له: غسيل الدماغ أو محو الذاكرة.
رواية “يونيفرس”: عندما تصبح التكنولوجيا سجنًا وهميًا للعلاقات الإنسانية
تطرح رواية “يونيفيرس” للكاتبة رضوى الأسود تصورًا آخر لتدمير العلاقات الإنسانية بفعل التكنولوجيا، حيث يتمحور السرد حول تطبيق يعلق في شباكه البشر حتى الموت.
تقوم هذه التقنية بتحويل كل شيء افتراضي إلى واقع محسوس، يعيش فيه الناس منتمين فقط للذة ولما يفتقدونه في حياتهم الحقيقية، حتى لو كان ذلك يعني التواصل مع الأموات عبر نظارات البعد الثالث، التي تتيح لهم الدخول في عالم موازٍ متحرر من كل القيود، ففي هذا الفضاء الافتراضي، يتمكن الأفراد من التخلي عن أجسادهم والعيش بوعيٍ رقمي من خلال “أفاتار” يصممونه بأنفسهم، ما يمنحهم إحساسًا زائفًا بالتحرر المطلق.
اللافت أن كثيرًا من ملامح هذا التطبيق “يونيفيرس” تتقاطع مع فكرة برنامج “Second Life”، الذي ظهر مطلع الألفية عام 2003، حيث مكّن المستخدمين من خلق هوية افتراضية والانغماس في عالم رقمي بديل، بعيدًا عن الواقع الحقيقي بكل تعقيداته.
السيناريو المحتمل لحياة بديلة كان أيضًا فكرة المسلسل الكوميدي المليء أيضا بالإثارة والغموض “جائزة الباب الكبير” The Big Door Prize المعروض منه موسمين مكتملين حتى الآن منذ عام 2024 ولم ينته بعد. آلة “مورفو” السحرية تظهر فجأة في محل بقالة بحي أمريكي صغير فتقلب حياة سكانه بشعارها “اكتشف كل إمكانيات حياتك”.
فيلم “جائزة الباب الكبير”: هل نعيش الحياة التي نستحقها؟
تطرح فكرة الحياة البديلة سيناريو آخر في المسلسل الكوميدي المليء بالإثارة والغموض “جائزة الباب الكبير” (The Big Door Prize)، وهو مستوحى من كتاب يحمل الاسم ذاته صدرت عام 2020، وقد بدأ عرضه عام 2024 ويضم حتى الآن موسمين مكتملين، دون أن تصل أحداثه إلى نهايتها بعد.
تدور القصة حول آلة “مورفو” السحرية التي تظهر فجأة داخل محل بقالة في حي أمريكي صغير، حاملةً شعارها المغري: “اكتشف كل إمكانيات حياتك”، ومقابل دولارين فقط، يضع الشخص بصمة إصبعه ورقم الضمان الاجتماعي، لتكشف له الآلة قدراته الكامنة وإمكاناته المستقبلية، ومع تصديق الناس لما تقوله، يقرر بعضهم اتخاذ قرارات مصيرية مثل الطلاق، والاستقالة، وتغيير المهنة.
واستنادًا إلى رمزية الفراشة، تروج الآلة لمفهوم التغيير بعد الشرنقة، موحيةً بأن الحياة ليست مسارًا واحدًا حتميًا، بل مليئة بالاحتمالات والاختيارات، لكن من يجرؤ على محاولة التخلص منها، تظهر على جسده حبوب زرقاء بلونها، وكأنها تترك بصمتها أينما حلت. لكن السؤال المحوري يبقى: هل تكشف الآلة حقيقة مخبأة داخل الإنسان، أم تزرع في داخله أفكارًا لم تخطر بباله أصلًا؟
رواية “مقابر الأحياء”: حين يصبح النوم إجباريًا
قبل ثلاثة أعوام من صدور رواية “أحلام سعيدة” التي تدور حول النوم الجماعي والأحلام المصطنعة، ظهرت رواية “مقابر الأحياء” للكاتب الراحل ضياء الدين خليفة، لتقدم تصورًا آخر عن نظام عالمي جديد يتحكم في البشر عبر كبسولات سُبات، زُعم أنها تهدف إلى توفير الموارد، وتقليل النمو السكاني، وجلب الرخاء.
يشي عنوان الرواية بمصير أشبه بالدفن المؤقت، حيث يقسم النظام الجديد الشعوب إلى ثلاث مجموعات، تنام إحداها داخل أجهزة السُبات لمدة شهر كامل، بينما تتعايش المجموعتان الأخريان، ليتم التبديل وفق دورة محكمة، وفي ظل هذا النظام، يتم استحداث “وزارة للسُبات” في كل دولة لمراقبة الأفراد عبر شرائح هوية تُزرع داخل أجسادهم، وأي محاولة لنزعها تُعرّض صاحبها لعقوبة قاسية.
لكن خلف هذا “الرخاء” الظاهري، يقود طبيبٌ حركة مقاومة ضد النظام، ليكتشف أن أجهزة السُبات تزيد الناس بؤسًا، وتسرّع الشيخوخة، وتُضعف معدلات الخصوبة، رافعًا الستار عن هدف خفيّ: التحكم في السكان وتقليل نموهم تدريجيًا.
فيلم “سيناريو الأحلام”: الإنسان كهدف مستباح للإعلانات التجارية
في نفس العام الذي صدرت فيه رواية “أحلام سعيدة”، ظهر فيلم “سيناريو الأحلام” (Dream Scenario)، الذي يستند إلى فكرة السفر عبر الأحلام، مستغلًا التكنولوجيا للتحكم في وعي البشر أثناء نومهم.
تدور القصة حول أستاذ جامعي مغمور، يؤدي دوره نيكولاس كيدج، يجد نفسه فجأة يظهر في أحلام سكان الحي، بل في كوابيسهم تحديدًا، فتمنحه هذه الظاهرة شهرة غير متوقعة، لكنها في الوقت نفسه توقعه في مواقف محرجة وصادمة، حيث يعتمد رد فعل الآخرين عليه على طبيعة ظهوره في أحلامهم وما فعله فيها، فبعضهم لا يدرك حتى أنه رآه في الحلم، لكنه يهاجمه ظنًا بأن ما حدث في الحلم وقع في الواقع.
سرعان ما يتبين أن شركة إعلانات تقف وراء جهاز “نوريو”، وهو جهاز يُرتدى على المعصم مثل ساعة ذكية، ويمنح مستخدميه امتيازات معينة مقابل ارتدائه، لكن الجهاز في الحقيقة يستغل الوعي الجمعي، حيث يتم التلاعب بالأحلام وتوجيهها نحو مواضيع أو شخصيات مختارة مسبقًا، وفقًا لما ترغب به الشركة، ليصبح الحلم ذاته أداة تسويق وتوجيه غير مباشر.
مسلسل “الفصل”: الذاكرة كأداة للسيطرة
يستكشف المسلسل الأمريكي “الفصل” (Severance)، الذي بدأ عرضه عام 2022 ودخل موسمه الثاني، مفهوم فصل الذاكرة بين الحياة المهنية والشخصية، حيث تعمل شركة الأدوية العملاقة “لُومِن” على إجراء عملية جراحية لموظفيها تفصل بين ذكرياتهم في العمل وذكرياتهم الشخصية، فبمجرد دخولهم مبنى الشركة، لا يتذكرون شيئًا عن حياتهم الخاصة، وبمجرد خروجهم، لا يتذكرون شيئًا عن عملهم، ليعيشوا حياتين منفصلتين تمامًا، يتحكم في حدودهما الموقع الجغرافي الذي يتواجدون فيه.
يعني هذا عمليًا أن الموظف خارج العمل لا يعرف زملاءه، ولا يدرك حتى تفاصيل وظيفته، لكنه يذهب إليها يوميًا وفقًا لما هو مقرر له، بما يمنح الإدارة قدرة على مراقبتهم حتى في حياتهم الشخصية، والتقرب منهم ومن عائلاتهم دون وعيهم بهويتهم الحقيقية.
يخضع الموظفون لهذه العملية الجراحية (الفصل) بمحض إرادتهم كشرط للعمل، في تجسيد لفكرة أن “أضمن طريقة لترويض سجين هي إقناعه بأنه حر”، لكن المواجهة تنشأ بين “المفصولين” أي الموظفين الذين يعيشون في هذا النظام، وبين “جماعة العقل المكتمل”، التي تنشط ضد الشركة، إضافة إلى مجموعة أخرى تعرف بـ “المعاد دمجهم”، وهم من خضعوا للتجربة ثم رفضوها.
في هذا النظام، الاستقالة لا تعني استعادة الذاكرة المفقودة، بل تتطلب إجراء عملية إعادة دمج، وهي تجربة معقدة ومربكة عصبيًا، تجعل الخروج من قبضة الشركة أكثر صعوبة مما يبدو.
يحمل المسلسل بعدًا فلسفيًا عميقًا، حيث يبدو أن مبنى الشركة محصن ضد الفناء، فلا وجود للموت داخله، والخطأ في العمل لا يعاقب بإنهاء الخدمة، بل بفرض جلسة اعتذار إجبارية داخل غرفة خاصة، يُذكر فيها اسم مؤسس الشركة، وكأنه رمز ديني مقدس.
كما أن مؤسس الشركة، “إيجان”، حاضر في كل تفاصيل الحياة، حيث نُحت وجهه على جدارية ضخمة داخل الشركة، مع بعض كلماته التي تحولت إلى تعاليم يلتزم بها الجميع.
فيلم “كاتب السيناريو الأخير”: التفوق الاصطناعي والمبالغة البشرية
لا يمكن إغفال تأثير الذكاء الاصطناعي في الكتابة، خصوصًا عند الحديث عن الأعمال الأدبية والسينمائية التي تستند إلى التقنية، ففي العالم العربي، ظهرت بعض الروايات المتواضعة التي قيل إنها كُتبت بالكامل باستخدام الذكاء الاصطناعي، بينما على الساحة العالمية، شهد العام الماضي ظهور أول فيلم روائي مكتوب بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي، وهو “كاتب السيناريو الأخير” (The Last Screenwriter).
يحكي المخرج والمنتجان على موقع الفيلم أنهم قدموا للذكاء الاصطناعي الفكرة الأساسية قائلين: “اكتب حبكة لفيلم روائي طويل يدرك فيه كاتب سيناريو أن الذكاء الاصطناعي يتفوق عليه في الكتابة”. والنتيجة أن خرجت حبكة كاملة دون أي تدخل بشري، فلم يتم تعديل الأسماء أو القصة، باستثناء اختصارات طفيفة في بعض الأجزاء.
تدور القصة حول كاتب سيناريو ناجح يمر بأزمة وجودية عندما يدرك أن الذكاء الاصطناعي أصبح قادرًا على التفوق عليه في الكتابة، إذ تتأثر علاقاته بأقرب الناس إليه، ويضيق عالمه ليقتصر على جهازه ومساعده الذكي، لدرجة أنه يصبح عاجزًا عن كتابة أي شيء دون الاعتماد على الآلة، وفي لحظة يأس، يقرر التخلص من التكنولوجيا نهائيًا، والعودة إلى الآلة الكاتبة كرمز لاستعادة استقلاله الإبداعي.
الفيلم، المتاح للمشاهدة مجانًا عبر موقعه، لا يقدم طرحًا جديدًا بقدر ما يذهب إلى أقصى ردود الفعل الإنسانية تجاه التكنولوجيا، فالعودة إلى الآلة الكاتبة كبديل للحاسوب ليست حلاً واقعيًا.
رواية “ديستوبيا”: ماذا لو احتكرت الحكومات الخيال؟
بنفس العنوان، صدرت رواية “ديستوبيا“ عام 2023 لكاتب أمريكي، تتناول احتكار حكومات العالم للإبداع عبر الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في إنتاج مختلف أنواع المحتوى، لكن في مواجهة هذا الواقع، ينهض كاتب شغوف ويضع سيناريو يمزج فيه عوالم الألعاب الشهيرة، ليكون ذلك بمثابة الشرارة التي تشعل ثورات على الشاشات وفي الشوارع.
ما سبق هو مجرد أمثلة حديثة من السنوات الخمس الأخيرة، وليس حصرًا للأعمال التي تناولت هذا الموضوع، ومن المرجح أن تزداد هذه الأعمال مع التطور المتسارع للتكنولوجيا يومًا بعد يوم، لكنها، في النهاية، لا تقف عند حدود الكوميديا أو التشويق، بل تطرح أسئلة وجودية حول الهوية، والذاكرة، والأحلام، كما تقدم تصورات جديدة للمدن الفاسدة ولأنظمة النوم والتحكم في الوعي، بما يخدم الحكومات الشمولية الظالمة.