يشكل تصاعد نشاط الجماعات المسلحة في ليبيا ومنطقة الساحل تهديدًا مباشرًا لأمن “إسرائيل” وحلفائها، مع تفاقم مخاطر تهريب الأسلحة وتسلل المقاتلين عبر الحدود، في الوقت ذاته، يزيد التوتر بين المغرب والجزائر حالة عدم اليقين، مما يمنح خصوم تل أبيب فرصة لاستغلال الوضع، وبينما تعيد القوى الإقليمية والدولية حساباتها في المنطقة، تجد “إسرائيل” نفسها أمام واقع جديد يستدعي إعادة تقييم استراتيجياتها الأمنية والدبلوماسية.
بالنسبة لـ “إسرائيل”، فإن تأمين مصالحها في منطقة شمال إفريقيا يشمل تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية، نظرًا للأهمية الاستراتيجية التي تكتسبها المنطقة؛ فهي جسر رابط بين أوروبا وإفريقيا، مما يُمكنها من الإشراف على طرق التجارة الحيوية عبر البحر الأبيض المتوسط، حيث تعد ممرات مضيق جبل طارق وقناة السويس أقصر طريق يربط الشرق بالغرب.
بالتأكيد، لا تقتصر أهمية المنطقة على كونها معبرًا حيويًا للتجارة فحسب، بل تتجلى أيضا في قدرتها على تنظيم تدفقات الهجرة وجهود مكافحة الإرهاب، حيث يعمل أي اضطراب في استقرار شمال إفريقيا كشرارة لتداعيات أمنية تمتد مباشرة لتطال إسرائيل والمنطقة الأوسع، إذ تُستغل الفوضى السياسية والفراغ الأمني في مناطق النزاع لتصعيد موجات الهجرة غير الشرعية وتوفير مناخ خصب لتجنيد عناصر متطرفة.
كسر المحرمات القديمة
استجابة لهذه التحولات، شرعت إسرائيل وحلفاؤها الإقليميون في تعزيز آليات التعاون، الذي نتجت عنه شبكة متكاملة من التعاون بين الأجهزة الأمنية والجهات الدبلوماسية.
في هذا السياق، اختار المغرب مؤخرًا التعاقد مع المجموعة الإسرائيلية “بت سيستمز” لتزويد قواته بـ 36 قطعة مدفعية ذاتية الدفع من طراز “أتموس 2000” بدلاً من الاعتماد على مدافع “سيزار” الفرنسية التي واجهت مشكلات تشغيلية وتسليم متأخر، حسب ما كشفت عنه صحيفة “لاتريبون”.
وحسب الصحيفة الفرنسية فإن المغرب قرر في صيف 2023 الاعتماد على التكنولوجيا الإسرائيلية لتصنيع قمره الصناعي الجديد، الذي يحل محل “محمد السادس أ” المُصنّع بالتعاون مع شركتي “تاليس ألينيا سبيس” و”إيرباص”، اللتين تتمتعان بحضور قوي في فرنسا، في حين تتولى شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية “آي إيه آي” تصنيع القمر الصناعي المنتمي إلى عائلة “أوفيك-13″، وهو أحدث أقمار التجسس والاستطلاع الإسرائيلية، الذي أُطلق في مارس 2023 من قاعدة بالماحيم الجوية.
يُواجه هذا التقارب برفض داخلي، إذ لا تزال المشاعر المؤيدة للفلسطينيين راسخة في المجتمع المغربي، ويرى معارضو التطبيع أنه يتناقض مع الدعم التقليدي للقضية الفلسطينية، ومع ذلك، فإن التعاون الأمني المفتوح بين الرباط وتل أبيب قد كسر المحرمات القديمة، منذ توقيع اتفاقية التطبيع بين المغرب وإسرائيل في كانون الأول/ ديسمبر 2020، بالإضافة إلى ذلك، حافظ البلدان على علاقاتهما الدبلوماسية بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، مع خطط مستقبلية لرفع مستوى التمثيل إلى سفارات كاملة.
سلام قائم على الضرورة
في مصر، رغم مرور أكثر من أربعة عقود على توقيع معاهدة السلام عام 1979، لا يزال هذا السلام يفتقر إلى القبول الشعبي، ومع ذلك فقد أثبتت هذه العلاقة فعاليتها من الناحية العملية، إذ نجحت الدولتان، رغم خلافاتهما الأيديولوجية والتوترات التاريخية بينهما، في إيجاد أسلوب للتعاون قائم على المصالح المشتركة، حيث أصبحت الضرورات الأمنية، لا سيما في سيناء، حافزا رئيسيا لهذا التعاون.
في هذا السياق، أدى التحدي الذي فرضه المسلحون المرتبطون بتنظيم “داعش” في سيناء إلى تعزيز مستوى التنسيق الأمني بين الجانبين، فبعد سنوات من المواجهات التي خاضتها القاهرة ضد هذا التمرد، وجدت مصر وإسرائيل أرضية مشتركة في مواجهة تهديد مشترك يتجاوز حدودهما السياسية، وقد عزز هذا التعاون البراغماتي، لا سيما في مجال مكافحة الإرهاب، استقرار معادلة السلام بينهما، لكنه ظل قائما على الضرورة أكثر منه على التقارب الفعلي.
على النقيض، تتبنى الجزائر سياسة صارمة في رفض أي تقارب مع إسرائيل، إذ تنظر إلى وجودها في المنطقة باعتباره امتدادًا لأجندات مدعومة من القوى الغربية، ويتجذر موقفها هذا في سردية مناهضة للاستعمار تدافع عنها بقوة، كما يضيف التوتر مع المغرب مزيدًا من التعقيد إلى المشهد الأمني، فمع تصاعد الخلافات بين البلدين، تتهم الجزائر الرباط باستغلال علاقتها المتنامية مع إسرائيل لتعزيز نفوذها الإقليمي.
“إسرائيل” بين الانقسام وصراع النفوذ
يبدو المشهد في شمال إفريقيا منقسما، حيث تتباين المواقف بين مصر والمغرب اللذين تبنيا نهجًا براغماتيا في التعامل مع التغيرات الإقليمية، وبين الجزائر وليبيا اللتين تواصلان رفض أي شكل من أشكال التقارب، في حين تواجه تونس منذ اندلاع احتجاجات الربيع العربي عام 2011 تحديات تحولها الديمقراطي.
مع استمرار هذه التحولات، يتعزز دور “إسرائيل” في المنطقة من خلال تكثيف جهود مكافحة الإرهاب، وتوسيع الشراكات الدفاعية، مع التركيز على تعزيز الاعتبارات الأمنية الشاملة، آخذة في الاعتبار أن استقرار شمال إفريقيا هو بمثابة عنصر حيوي للأمن الإقليمي والدولي، لذلك تلعب “إسرائيل” دورا نشطا في تحقيق هذا الهدف.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى إسرائيل جاهدة لتعزيز وجودها الدبلوماسي في القارة الأفريقية، ومع ذلك فهي تصطدم بتحديات في الحصول على صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي، بسبب معارضة بعض الدول الأعضاء، مثل الجزائر وجنوب إفريقيا، لذلك تركز تل أبيب، في مواجهة هذه العقبات، على إبرام اتفاقيات ثنائية مع الدول الأفريقية، تشمل التعاون في مجالات مثل الأمن السيبراني والتكنولوجيا الزراعية.
على سبيل المثال، نظمت ثلاث منظمات إسرائيلية صغيرة قمة في أديس أبابا خلال أكتوبر/ تشرين الأول 2024، حيث وقع برلمانيون وزعماء دينيون أفارقة مقربون من الأوساط الإنجيلية بيانا يدعم “إسرائيل”، التي لا تزال تعاني من نقص في الحضور السياسي والاقتصادي على مستوى القارة، وتعتمد بشكل أساسي على دعم الكنائس الخمسينية والإنجيلية الأفريقية، مما يعزز العلاقات الفردية أكثر من المؤسسية.
بالتالي، تجد إسرائيل نفسها مضطرة لتبني سياسات مرنة تتكيف مع خصوصيات كل دولة في المنطقة، كما تقف في مواجه قوى عظمى، أبرزها روسيا التي تسعى إلى تعزيز نفوذها في المنطقة عبر بناء شراكات استراتيجية مع دول مصر والجزائر والمغرب، مستغلة التراجع النسبي للدور الغربي في بعض المجالات.