“نجح الفولاذ الأمريكي والأيدي الأمريكية في توجيه رسالة للعالم تزن مائة ألف طن: إن قوة أمريكا لا مثيل لها، أينما شقت هذه السفينة طريقها عبر الأفق، فسوف يطمئن حلفاؤنا ويرتعد أعداؤنا خوفًا لأن الجميع سيعلمون أن أمريكا قادمة بقوة”.
بهذه الكلمات، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال ولايته الأولى، في يوليو/ تموز 2017، عن ضم واحدة من أكثر حاملات الطائرات تقدمًا إلى الأسطول البحري للولايات المتحدة، وهي حاملة الطائرات “يو إس إس جيرالد فورد” التي سميت على اسم الرئيس الثامن والثلاثين للولايات المتحدة التي تحمل اسم الرئيس الأمريكي السابق جيرالد فورد، الذي توفي عام 2006، وحصل خلال الحرب العالمية الثانية على رتبة ملازم أول في البحرية الأمريكية.
لم تُخفِ كلمات ترامب سعادته الغامرة بهذه الحاملة باعتبارها فخر البحرية والقوة الأمريكية، لكنها عكست وصف حاملات الطائرات الأمريكية بـ “100 ألف طن من الدبلوماسية” التي قالها هنري كيسنجر قبل نحو نصف قرن أثناء توليه منصب وزير الخارجية الأمريكي، مسلطًا الضوء على الدور الذي تلعبه السفن البحرية في دعم الدبلوماسية، فما أهمية البحرية في الجيش الأمريكي؟ ولماذا يحرص الأمريكيون على أن تبقى الأقوى في العالم؟
“100 ألف طن من الدبلوماسية”
هذه العبارة الشهيرة التي ارتبطت بالدور الخفي لحاملات الطائرات الأمريكية حول العالم بوصفها أداة قوية لتعزيز الدبلوماسية وممارسة الضغط وتعزيز الردع، تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر، عندما استخدمت القوى الاستعمارية الغربية أسلوبًا خاصًا لتأمين مصالحها الاستعمارية.
“An aircraft carrier is 100,000 tons of diplomacy.”
Henry Kissinger https://t.co/lYZf8I4GdS
— 𝚅𝚎𝚌𝚒𝚑𝚒 (@captzulu737) December 21, 2021
كان الممثلون السياسيون والتجاريون لهذه الدول القوية يذهبون إلى دول أخرى ويتفاوضون مع قادتها، بل يملون على الطرف الآخر ما يريدون بدعم من بحريتهم دون الحاجة إلى الاستخدام العملياتي للسفن.
وفي الوقت نفسه، كانت السفن الحربية تتمركز بالقرب من سواحل الدولة المستهدفة، وكانت الدولة المضيفة تُبلَّغ بوجود السفن الحربية على شواطئها.
أصبحت هذه الطريقة المهددة والشائعة تُعرف فيما بعد باسم “دبلوماسية الزوارق البحرية” التي تنطوي على القوة، ودخلت أدبيات العلاقات الدولية، وعلى الرغم من مرور ما يقرب من قرنين من الزمان منذ تلك الأيام، إلا أن هذه الدبلوماسية لا تزال قيد الاستخدام.
وأمضى الضابط البحري والدبلوماسي البريطاني جيمس كابل أكثر من عقدين من الزمان في توثيق الاستخدام المحدود للقوة البحرية لأغراض سياسية، ويقسم استخداماتها إلى 4 فئات: القوة الحاسمة لفرض أمر واقع أو إزالته، والقوة الهادفة لتغيير سياسة أو شخصية أو مجموعة مستهدفة، والقوة التحفيزية المصممة لتقديم مجموعة متزايدة من الخيارات لصناع القرار، والقوة التعبيرية لإرسال رسالة سياسية.
السيادة الأمريكية على المياه
تتربع الولايات المتحدة على عرش ملكية حاملات الطائرات، وتمتلك اليوم حاملات أكثر نشاطًا من كل دول العالم مجتمعة، وهي أقوى السفن الحربية في الأساطيل البحرية، وكأنها مطار في البحر وأكثر، مهمتها إطلاق الطائرات واستقبالها، وتسمح للقوات البحرية بتوجيه القوة الجوية لمسافات بعيدة.
البحرية الأمريكية لديها حاليًا 10 حاملات طائرات من فئة “نيميتز”، القادرة على حمل مزيج من طائرات “سوبر هورنت” وطائرات المراقبة ومجموعة متنوعة من طائرات الدعم والمروحيات الأخرى، بالإضافة إلى امتلاكها حاملة طائرات واحدة من فئة “فورد” و9 سفن هجومية برمائية أصغر حجمًا.
لمعرفة حجم الإنفاق الأمريكي المهول على البحرية، نستطلع سويًا مواصفات أحدث وأكبر حاملة طائرات طورتها أمريكا “جيرالد فورد”، التي كان آخر ظهور لها بعد هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عندما وجَّه الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بتحريكها لدعم الوجود البحري الأمريكي بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وبالتحديد “دعم وحماية إسرائيل وردع إيران وحلفائها”.
-
أرسلت واشنطن أكبر حاملة طائرات في العالم إلى الشرق المتوسط لإظهار دعم الحكومة الأمريكية لـ”إسرائيل”.
مددت واشنطن انتشار هذه الحاملة 3 مرات للحفاظ على الردع ومنع تحول الحرب إلى صراع إقليمي، قبل أن يأمر البنتاغون فجأة بمغادرتها الشرق الأوسط في مطلع عام 2024، تاركة الحاملة “أيزنهاور” وحيدة في مياه شرق المتوسط لتكون بمثابة رادع للجهات الفاعلة الأخرى التي قد تتورط في الحرب، ما أثار غضب حكومة الاحتلال التي طلبت حينها الحصول على توضيحات عاجلة من واشنطن، خصوصًا في ظل التصعيد مع لبنان.
تعد هذه السفينة الحربية الأحدث طرازًا والأكثر تطورًا من حاملات الطائرات الأمريكية منذ 40 عامًا، وهي اليوم أضخم حاملة طائرات في العالم والأولى من نوعها في الجيل الجديد من الحاملات، إذ تحمل أكثر من 4500 فرد، و90 طائرة مقاتلة، ويصل طولها إلى 335 مترًا، وارتفاعها 76 مترًا، في حين يبلغ وزنها 100 ألف طن، وبإمكانها إزاحة 100 ألف أخرى من المياه، ما يجعلها “مدينة عائمة” بحق وليس مجرد سفينة كبيرة، وقطعة هائلة تجعل الحاملات الأخرى بالنسبة إليها أشبه بقزم ضئيل يمكن أن يُسحق بسهولة.
استغرق بناء الحاملة 12 عامًا من التخطيط والبناء، وبلغت كلفة إنتاجها نحو 13 مليار دولار، أي ما يزيد على ميزانيات دول مثل لبنان أو جورجيا أو أرمينيا، وهذا قبل تكلفة إصلاح التكنولوجيا الجديدة، والطائرات التي تحلق من على سطح السفينة وتكلفة تشغيل حاملة الطائرات في أعالي البحار لعدة أشهر في كل مرة.
-
استغرق بناء الحاملة فورد 12 عامًا من التخطيط والبناء، وبلغت كلفة إنتاجها نحو 13 مليار دولار.
وتحتوي الحاملة فورد على محطة نووية مصممة للسماح بسرعات إبحار تزيد عن 30 عقدة أو 55 كيلومترًا في الساعة، وتُشغل بمفاعلين نوويين جديدين يوفران 3 أضعاف كمية الطاقة الكهربائية للحاملة، ويسمحان لها بالإبحار عبر المحيط لمدة 20 عامًا دون الحاجة إلى إعادة التزود بالوقود، كما تحتوي على جزيرة أصغر تقع في الجزء الخلفي من السفينة لتسهيل وتسريع إعادة التزود بالوقود وإعادة تسليح وإطلاق الطائرات.
تمتلك جيرالد فورد مميزات الشبح والتخفي عن الرادار، وهي واحدة من 11 حاملة – أي أكثر من مجموع عددها بباقي دول العالم – تديرها البحرية الأمريكية، وتحكم بها قبضتها على بحار العالم، وتتوزع هذه الحاملات على عدة أساطيل، وتتركز في 3 مناطق عمليات رئيسية، أولها منطقة المحيط الهادئ، حيث تعمل حاملات الطائرات ضمن الأسطول السابع الذي يركز على منطقة غرب المحيط الهادئ وشرق آسيا.
المنطقة الثانية تشمل المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، وتعمل حاملات الطائرات فيها ضمن الأسطول السادس الذي يغطي أوروبا وأفريقيا والبحر المتوسط، وتشمل المنطقة الثالثة الشرق الاوسط والخليج العربي حيث تعمل حاملات الطائرات ضمن الأسطول الخامس الذي يركز على منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.
وفي حين تتمتع الولايات المتحدة بتفوق عسكري كاسح في جميع المجالات، لكنها تتقدم في مجال البحرية بمعدل كبير على منافسيها، إذ تمتلك البحرية الأمريكية جيشًا نظاميًا خاصًا بها يشمل أسطولاً من الطائرات وجيشًا للمشاة وفرقة عمليات خاصة وجهاز استخبارات، وتفوق ميزانية جيش البحرية الأمريكي كامل الإنفاق العسكري للصين.
أمَّا القوة الجوية لسلاح البحرية الأمريكي فتعد ثاني أكبر قوة جوية في العالم بعد سلاح الجو الأمريكي نفسه، حتى إن القانون الأمريكي ينص على وجوب أن تمتلك البلاد 11 حاملة طائرات عاملة على الأقل، فهل يبالغ الأمريكيين في اهتمامهم بعسكرة المياه؟
السرّ في الجغرافيا
في عالم تشغل المياه ثلثي مساحته، تجد أمريكا نفسها مضطرة إلى أن تكون قوة بحرية بالدرجة الأولى، وأن تعمل على فرض سيطرتها على المياه الدولية في قلب المحيطات لضمان استمرار نفوذها العالمي.
وعرّف المؤرخ البريطاني الشهير جوليان كوربيت السيطرة على البحر على أنها ببساطة السيطرة على الاتصالات البحرية، سواء كانت لأغراض تجارية أو عسكرية، والهدف من الحرب البحرية هو التحكم في الاتصالات التي تشمل في الواقع خطوط إمداد الأسطول، وليس الاستيلاء على الأراضي كما هو الحال في الحرب البرية.
ويذكر الاستراتيجي المخضرم والضابط في القوات البحرية ألفريد ثاير ماهان في كتابه “تأثير القوة البحرية عبر التاريخ”، أن القوة الساحقة هي التي تدفع عَلَم العدو بعيدًا عن البحار إلا إذا كان هاربًا، ويرى أن السبيل الوحيد للحفاظ على حضور أمريكا العالمي هو ضمان سيطرتها على البحر، وهي الاستراتيجية البحرية التي كانت قائمة منذ أواخر الأربعينيات.
ويتمثل الهدف الثاني لهذا الاهتمام في حماية التجارة، حيث تحكم واشنطن سيطرتها على الطرق التجارية الأكثر استخدامًا في العالم، وتحقق أرباحًا طائلة من الطرق التجارية التي تربط أمريكا الشمالية بشرق آسيا وغرب أوروبا، ومن خلال حماية القوافل البحرية التجارية، وبعبارة بسيطة، تحيط أمريكا قارة أوراسيا بالقوة البحرية لحماية نظام التجارة الحرة الذي بناه الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية.
وكان ماهان يولي اهتمامًا خاصًا لضمان قدرة حكومة الولايات المتحدة على ضمان الوصول إلى أسواق جديدة في الخارج، ويتطلب تأمين مثل هذا الوصول 3 أمور: أسطول تجاري قادر على نقل المنتجات الأمريكية إلى أسواق جديدة عبر “الطريق السريع العظيم” في أعالي البحار، وبحرية حربية أمريكية لردع أو تدمير الأساطيل المنافسة، وشبكة من القواعد البحرية القادرة على توفير الوقود والإمدادات للبحرية الموسعة، والحفاظ على خطوط مفتوحة للاتصالات بين الولايات المتحدة وأسواقها الجديدة.
ما مدى فعالية هذه الاستراتيجية؟
لا يمكن المبالغة في أهمية حاملات الطائرات في التاريخ العسكري، فإذا عدنا للتاريخ، سنرى أن حاملات الطائرات لعبت دورًا مهمًا في قوة البحرية الأمريكية أيام الحرب العالمية الثانية، ومكنتها من الفوز بمعارك بحرية رئيسية، خاصة في منطقة المحيط الهادئ.
وفي العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، منحت حاملات الطائرات الولايات المتحدة القدرة على نشر قوتها العسكرية في جميع أنحاء العالم، وباعتبارها باهظة الثمن وضخمة وفتاكة، كانت هذه الحاملات حجر الزاوية في توفير الأمن الأمريكي لمدة تقرب من قرن من الزمان، ولكن التقدم في تصميم الصواريخ والحرب البحرية قد يطيح بدور حاملة الطائرات، فهل ستظل في الصدارة؟
إن أحد أكبر الحجج ضد أسطول حاملات الطائرات الأكبر حجمًا هو أن صاروخًا موجهًا متقدمًا بعيد المدى وأقل تكلفة بكثير قد يغرق هذه “المطارات العائمة” التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات.
وتعد الدول المناوئة للولايات المتحدة في المياه الدولية، وهي الصين وإيران وروسيا، من أكبر الدول المنتجة للصواريخ الموجهة المصممة لمهاجمة حاملات الطائرات، على رأسها صاروخ “كاليبر” المرعب القادر على حمل رأس بوزن 500 كيلوجرام، والذي يصل مداه إلى 4500 كيلومتر في نسخته الأكثر تطورًا، ما يجعله كابوسًا حقيقيًا لجميع الأهداف في البر والبحر.
ويقول خبراء التسلح إن حاملات الطائرات وسيلة عفا عليها الزمن، ويتساءلون عما إذا كانت أهميتها الآن، ومع تطور الأسلحة، تستحق إنفاق المليارات، ففقدان واحدة من هذه السفن باهطة الثمن بسبب صاروخ مضاد للسفن أرخص بكثير سيكون كارثة.
وعلى الرغم من القدرات الهائلة لحاملات الطائرات الأمريكية، فإن أحد نقاط ضعف البحرية الأمريكية هو أنها تمتلك عددًا محدودًا من أرصفة بناء السفن والصيانة، كما أن بناء وصيانة حاملات الطائرات أمر مكلف بشكل لا يصدق، كما أثبتت الصواريخ الموجودة على متن السفينة أنها باهظة الثمن.
ويقول الصحفي ديفيد لارتر، مراسل الحرب البحرية في “ديفينس نيوز”: “إذا كنت تريد تشغيل حاملة طائرات، فأنت أيضًا بحاجة لتقنية متطورة لحمايتها، ويضيف أن “تطور المضادات التي يمكن إطلاقها من الأرض وصواريخ كروز التي تطلق من القاذفات تعد خطرًا كبيرًا على حاملات الطائرات”.
يعني هذا أن أحدث وأغلى سفن البحرية الأمريكية، حسب تقرير لـ”بلومبيرغ“، يمكن أن تعجز عن التصدي لهجوم عليها، بل ويمكن تدميرها بصاروخ رخيص، ووفقًا لتقييم أجراه مكتب الاختبارات في البنتاغون، فإن نظام حاملة الطائرات الأمريكية الجديدة “لم يثبت بعد أنه قادر بشكل فعال” على الدفاع عن حاملة الطائرات من الصواريخ المضادة للسفن وغيرها من التهديدات.
وفي مقال رأي في صحيفة “ذا فيرجينيان بايلوت” (The Virginian Pilot)، أشار الأميرال البحري جون ماير والأميرال البحري كريج كلابرتون إلى أنه “ليس من غير المعتاد أن تواجه أول سفينة من فئة فورد الجديدة تحديات وتأخيرات غير متوقعة، خاصة أنها ستعمل كقطعة مركزية لعمليات مجموعة الضربات خلال القرن الحادي والعشرين، وتدعم الأهداف الاستراتيجية الوطنية”.
على سبيل المثال، في حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، تعرضت حاملات الطائرات والمدمرات التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات لخسائر ومضايقات من طائرات بدون طيار تكلف الحوثيين بضع مئات من الدولارات، كما استخدم الحوثيون في اليمن باستمرار غواصات بدون طيار وقوارب انتحارية وصواريخ مضادة للسفن تكلف جزءًا ضئيلًا مقارنة بالصواريخ المضادة للطائرات بدون طيار التي تستخدمها حاملات الطائرات الأمريكية.
ويبدو من ذلك أن أهداف الردع الأمريكية قد فشلت، فقد أُجبرت حاملة الطائرات الأمريكية “دوايت أيزنهاور” على الانسحاب من مياه البحر الأحمر إلى شرق المتوسط، بعد أن عملت من منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حتى يونيو/ حزيران 2024، كجزء من عملية تقودها الولايات المتحدة لحماية السفن المارة عبر البحر والحد من القدرات العسكرية للحوثيين الذين بدأوا شن هجمات على سفن مرتبطة بـ”إسرائيل” أو متجهة إلى موانئها منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ردًا على الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة.
ورغم هذه الحجج، تتسابق الدول لبناء حاملات الطائرات لسببين: الأول هو الفائدة أو المنفعة، فرغم التكلفة الباهظة وإمكانية تدميرها لعدم صعوبة رصد حركتها بالرادارات، إلا أن مجرد وجودها في البحر وتنقلها من مكان لآخر يجعلها أكثر أمانًا من القواعد العسكرية الأرضية، ويجعلها أيضًا جاهزة لخدمة طائرة “إف 35 بي” الجيل الخامس من نوع المقاتلات الحربية الطائرة التي تعتمد عليها القوات الجوية في كل من بريطانيا وإيطاليا واليابان وإسبانيا وتركيا وأستراليا.
أما السبب الثاني فهو الوجاهة، حسب وصف موقع “بزنس إنسايدر“، فيكفي وضع العالم الأمريكي على هذه الناقلات العملاقة، كما تجوب موانئ العالم، وهي أيضًا استعراض لقوة الأصول البحرية للجيش الشعبي الصيني، وإن لم تستخدمها، حال قررت مثلاً مهاجمة تايوان، حتى أن روسيا أرسلت حاملة طائراتها الوحيدة لسواحل سوريا لتظهر فقط أنها تستطيع القيام ذلك.
حدود المنافسة في قلب المحيط
تاريخيًا، استثمرت دول مثل بريطانيا وروسيا واليابان والهند وفرنسا بشكل كبير في توسيع قدراتها البحرية من خلال حاملات الطائرات، وهو تقليد يعود تاريخه إلى أوائل القرن العشرين.
وعلى الرغم من جهودها، لا تزال هذه الدول تحاول الظهور كمنافس حقيقي للولايات المتحدة، التي تفتخر بأسطول هائل، وخاصة بحاملتي الطائرات من فئة نيميتز وفورد.
ورغم أسطولها الجوي المكون من حاملات الطائرات والغواصات النووية والسفن الحربية المتقدمة، تواجه واشنطن منافسة متزايدة من بعض القوى الكبرى التي تسعى لتقليص هذا التفوق، وفرض نفوذها في البحار والمحيطات.
على سبيل المثال، تصنع القوى البحرية المزيد من حاملات الطائرات، فالهند تنتج حاملة طائرات جديدة خاصة بها، ولدى المملكة المتحدة حاملتان جديدتان تقتربان من وضع التشغيل، كما أنتجت إسبانيا وفرنسا وإيطاليا أو هي في طور تصميم أو بناء أو نشر حاملات طائرات أو سفن هجومية برمائية جديدة مع التركيز على القدرة المحمولة جوًا.
حتى اليابان انضمت لنادي الكبار، إذ أعلنت أنها تتطلع إلى تحويل حاملة المروحيات من فئة “إيزومو” الحالية التابعة لقوات الدفاع البحري لتكون قادرة على العمل مع طائرة الشبح “إف-35″، وتهدف كوريا الجنوبية إلى بناء حاملة طائرات خفيفة لتكون قادرة على حمل المقاتلة الشبحية الجديدة “إف 35 بي” التي حصلت عليها أيضًا من الولايات المتحدة.
بخلاف هؤلاء، تتصدر الصين قائمة المنافسين، إذ تمتلك ثاني أكبر قوة بحرية في العالم من حيث عدد السفن، وتخطط لامتلاك 6 حاملات طائرات بحلول العام 2035، وتستثمر بشكل مكثف في تحديث أسطولها البحري، وتبني حاملات الأسطول وسفن الهجوم البرمائية، بما في ذلك حاملات الطائرات “شاندونغ” و”فوجيان” والغواصات النووية، مما يشير إلى ظهور لاعب موثوق به في هذه الساحة التنافسية.
وفي محاولة لتعزيز القدرة التنافسية العالمية، تعمل صناعة بناء السفن في الصين بشكل أوثق مع الدولة مقارنة بصناع السفن في الدول الديمقراطية، فقد أعادت شركة بناء السفن الحكومية الصينية الاندماج مع شركة صناعة بناء السفن العملاقة في عام نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، مما أدى إلى إنشاء أكبر شركة لبناء السفن في العالم بحصة سوقية عالمية تبلغ 20%، وأصول بقيمة 110 مليار دولار.
قامت الصين بالفعل ببناء حاملة الطائرات “تايب 003″، وهي ليست منافسًا كبيرًا لأسطول حاملات الطائرات العملاقة الأمريكية، إذ تعاني من عيوب كبيرة مقارنة بأسطول حاملات الطائرات الأمريكية، ومع ذلك، من المتوقع أن تكون خليفتها، حاملة الطائرات “تايب 004” التي تعمل بالطاقة النووية، قوية بما يكفي لتحدي حاملات الطائرات العملاقة الأمريكية التي هيمنت على محيطات وبحار العالم على مدى عقود.
من المقرر أن تدخل حاملة الطائرات الصينية من طراز 003 “فوجيان” الخدمة غدا. pic.twitter.com/mwFVo8BPnp
— Arab-Military (@ashrafnsier) February 16, 2025
وتعتمد الصين على خطة استراتيجية لتعزيز نفوذها في المحيط الهادئ والهندي تشمل مشروع الحزام والطريق البحري وإنشاء قواعد عسكرية مثل قاعدة جيبوتي، ويبرز خطرها على نفوذ واشنطن في بحر الصين الجنوبي، إذ تنشر بكين أسلحة مضادة للسفن مثل “دي إف 21 دي” التي تهدد حاملات الطائرات الأمريكية، ويتعزز هذا التهديد مع التعاون البحري الواسع بين الصين وروسيا.
موسكو أيضًا تحتفظ بقدرات بحرية قوية تتمثل في امتلاكها للسفن الصغيرة والمتوسطة الفتاكة بأعداد كبيرة، ولا سيما الغواصات النووية القادرة على توجيه ضربات استراتيجية، وتركز على السيطرة الإقليمية في البحر الأسود وبحر البلطيق مع وجود نشاط ملحوظ في القطب الشمالي.
كما سعت موسكو لإزعاج النفوذ الغربي من خلال قاعدة طرطوس البحرية التي تضم قطعًا من أسطول البحر الأسود في سواحل سوريا، وهي أيضًا المركز الوحيد للإصلاح والتجديد لروسيا في البحر الأبيض المتوسط، ويمثل هذا وجودها الوحيد في المياه الدافئة، لأنها لا تمتلك حق الوصول إلى البحار والمحيطات المفتوحة، ويتركز نفوذها حول عدد من البحار الهامشية، رغم كونها أكبر دولة في العالم بمساحة تزيد عن 17 مليون كيلو متر مربع.
دفع ذلك الوضع روسيا إلى إصدار عقيدة بحرية جديدة لتحل محل عقيدتها القديمة القائمة منذ عقدين، حددت هذه العقيدة بوضوح المناطق المهمة لروسيا اقتصاديًا وعسكريًا، ودعت إلى تعزيز أنشطتها الاقتصادية، وتكثيف حضورها العسكري في هذه المناطق، ولفعل ذلك كان على روسيا أن توسع أسطولها البحري، وأن تبني المزيد والمزيد من السفن التجارية والعسكرية.
واحدة من هذه السفن أعلنت عنها موسكو عام 2015 اسمها “شتورم” (العاصفة)، وهي مشروع روسي ضخم لبناء حاملات الطائرات الأكبر في العالم، طولها 330 مترًا، وتزيح 100 ألف طن من المياه، وتحمل ما يصل إلى 5000 فرد بمؤن تكفيهم للإبحار لأربعة أشهر دون انقطاع، وهي قادرة على حمل 90 طائرة كاملة العتاد، بما يشمل طائرة الجيل الخامس وفخر الصناعة الجوية الروسية “سوخوي 57″، وجُهزت بأجهزة حرب إلكترونية متقدمة ونظم رادارات متطورة، إلى جانب 4 بطاريات لنظام الدفاع الصاروخي “إس 500” الذي يمكنه ضرب الأقمار الصناعية في الفضاء.
هذه المواصفات الجبارة تضع “شتورم” على قدم المساواة مع أحدث حاملات الطائرات الأمريكية بل لعلها تتفوق عليها في بعض الأمور، ولكن هناك مشكلة واحدة؛ وهي أن هذه الحاملة لا تزال حتى اليوم حبرًا على ورق، مجرد تصميم لم تضع فيه موسكو بعد مسمارًا واحدًا، والسبب الرئيسي في ذلك هو التكلفة الضخمة المقدرة مبدئيا بـ 9 مليارات دولار، وهو رقم قابل للزيادة.
السبب الثاني لتأخر المشروع هو أن خبرات الروس في صناعة حاملات الطائرات وتشغيلها ليست على ما يرام، وحاملة الطائرات الوحيدة التي تمتلكها موسكو “الأدميرال كوزنيتسوف” خير دليل على ذلك، فعلى مدى تاريخها، نُشرت هذه الحاملة المتداعية في 6 مهمات قصيرة فقط في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، أبحرت خلالها لمدة 450 يومًا خلال 30 عامًا كاملة، واستخدمت في عملية قتالية واحدة فقط في سوريا عام 2016، وفقدت خلالها طائرتين بسبب مشكلات في الهبوط، ومنذ ذلك الحين تقبع السفينة خارج الخدمة لأغراض الإصلاح.
صحيح أن روسيا متأخرة أمام منافسيها في حاملات الطائرات والسفن الكبيرة إلا أنها تمتلك وفرة من السفن الصغيرة القوية والفتاكة، حيث تشغَّل البحرية الروسية أكثر من 150 زورقًا وقارب دورية حربية، كما تمتلك أسطولاً ضخمًا ومتطورًا من الغواصات مكونًا من 60 غواصة، منها 11 تعمل بالطاقة النووية وقادرة على حمل صواريخ باليستية مقابل أقل من 30 فرقاطة ومدمرة وطرادًا كبيرًا، على عكس الولايات المتحدة التي تمتلك أكثر من 100 سفينة كبيرة مع عدد أقل من السفن الصغيرة.
أمَّا إيران فقد تغيَّر نهجها في التعامل مع البحر منذ حوالي 15 عامًا، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2009، استخدم المرشد الأعلى الإيراني آية الله خامنئي مصطلح “القوة البحرية الاستراتيجية” لأول مرة، وبعد سنوات، يمكن رؤية نتيجة هذا التغيير في المنظور والاستراتيجية في مهمة الأسطول البحري الإيراني رقم 86، الذي حطم الرقم القياسي للمسافة التي أبحرت بها سفينة إيرانية في المياه الدولية، حاملاً كثيرًا من رسائل القوة كما يقول قادة الجيش الإيراني.
في مايو/ أيار 2023، أنهى الأسطول الإيراني الذي يتألف من المدمرة “دنا” المصنعة محليًا وحاملة المروحيات “مكران” اللتان يبلغ وزنهما معًا أكثر من 122 ألف طن، رحلة بحرية حول العالم استغرقت 8 أشهر، سلكت خلالها طريقًا لم يسبق لإيران أن سلكته من قبل، فقد أبحرت لأول مرة عبر أكبر مساحة محيطية في العالم، ألا وهي المحيط الهادئ، مرورًا بموانئ وبحار ومحيطات مهمة رغم العقوبات الشديدة المفروضة على إيران.
وجود هؤلاء المنافسين لسلاح البحرية الأمريكي ليس سببًا يدفع الأمريكيين لزيادة إنفاقهم وحسب، بل هو تهديد حقيقي لتفوقهم البحري، ولا سيما في المياه البعيدة، مثل سواحل اليمن التي ظهرت فيها جماعة الحوثي خصمًا غير تقليدي أعاق الحركة البحرية الغربية، فهل ستبقى السيادة الأمريكية على المياه قائمة طويلاً أم سيزيحها المنافسون؟