مع كل عرس ديمقراطي انبثق من تجربة مخاض عسير بالمنطقة العربية، تتجدد بذور الأمل في إحياء الديمقراطيات التي تاهت في الطريق، فتونس قد أكملت مسارها، وبدأت في إجراءات اختيار رئيسها الثالث بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 التي فجرت ثورات الربيع العربي، لكنها بقيت وحدها على العرش، ولم يفلت معها، من معادلة الانتقام الدائرة بين الفرقاء السياسيين في المنطقة وعرقلة الحلم الديمقراطي، إلا السودان الذي اجتاز منتصف الطريق ويتمسك بالأمل في إكمال خطواته نحو التعددية والحكم الرشيد، بعدما تغلب على أخطر عقبات الديمقراطيات الناشئة التي عرقلت إصلاح المنطقة ولا تزال، ما يطرح العديد من الأسئلة، ربما يساعد فهمها في وقف حمى العنف والاستقطاب الدائرة الآن!
الطريق الصعب للديمقراطية
من المدهش معرفة تاريخ شيوع الديمقراطية في عالم أدرك أنه لا بديل عن الفرار إليها قبل نحو 100 من الآن، حيث بدأت بشكلها الواضح تستقر في الأنظمة الحاكمة منذ عام 1900، وفي هذا التوقيت، لم تكن تقتنع بها إلا 11 دولة فقط، وتزايد العدد إلى 10 دول أخرى بحلول عام 1920، ولم يضاف إلى هذا الرقم إلا 29 دولة أخرى حتى عام 1974، ومع بداية الربع الأخير من القرن الماضي، كانت الديمقراطية الشكل السائد في العالم للحكم، ووصل عدد المؤمنين بها 77 دولة عام 1993، واستمر هذا العدد في الارتفاع إلى 86 دولة بحلول عام 2006، وتصبح معها نظام الأغلبية في العالم، وما دونها دليل على تخلف الدول وقبضتها الفاشية على أبنائها.
خلال هذه الزيادة المضطردة في عدد الدول التي آمنت بحكم الشعب، الذي هو عنوان الديمقراطية، تعرضت القضية للانتكاسة بالمنطقة بشكل لافت، مع بداية العقد الذي ينتهي الآن، وأصبح هذا الشكل في إدارة الدول محفوفًا بالمخاطر، بعدما زاد الصراع الصفري في مصر وليبيا وسوريا واليمن، بين الفرقاء السياسيين والأعداء الأيدلوجيين الذي تبنوا منطق إزالة الآخر من الوجود، ولا يزال منطق الإقصاء هو المسيطر على الساحة حتى الآن.
خلف الإحصاءات التي تنذر بالخطر، في تآكل الحلم الديمقراطي لدي الكثير من البلدان العربية، بجانب عدم الاهتمام ببناء النموذج من القمة للقاع والعكس، التقدم الكبير للصين وروسيا، الذي توهج خلال العقد الأخير
أزمة هشاشة الديمقراطية في المنطقة العربية وصعوبة تمكينها لها أسباب كثيرة، منها تقصير الجهات الأممية بتحريض من الدول الكبرى في الانتصار للحقوق السياسية والحريات المدنية وحقوق الإنسان، والتلاعب بهذه المبادئ في صالح القوى الدولية، ليبدأ عدد المنادين بالديمقراطية في الانخفاض من جديد، وفقًا لمؤسسة فريدوم هاوس المعنية ببحوث الديمقراطية والحرية السياسية وحقوق الإنسان، التي أجرت دراسة، أكدت فيها أن واحدة من ست ديمقراطيات جدد تفشل، ليس في المنطقة العربية والشرق الأوسط فقط، ولكن حتى على المستوى العالمي، حيث تبني هذه الدول أنظمتها على مثالية الصورة التي ترى بها البلدان المتقدمة، في الوقت الذي تجهل فيه قواعد بناء الديمقراطية مثل البلدان التي تجذر فيها النظام منذ عقود طويلة، وأصبح المواطن نفسه قبل السياسي، على علم كامل بشروح النظرية، وذاب فيها وبالمقابل عاشت فيه.
خلف الإحصاءات التي تنذر بالخطر، في تآكل الحلم الديمقراطي لدي الكثير من البلدان العربية، بجانب عدم الاهتمام ببناء النموذج من القمة للقاع والعكس، التقدم الكبير للصين وروسيا، الذي توهج خلال العقد الأخير، وبات حكم الرجل القوي ـ وليس حكومة الشعب ـ الأكثر قدرة على جذب الكثير من البلدان العربية التي ذاقت مر الربيع العربي، بسبب القبلية السياسية والأفكار الشعبوية والدينية.
وحتى لا نظلم العرب وحدهم، هذا النموذج يفتتن أيضًا الاستبداديين الشعبويين، من المجر إلى الفلبين، الذين ظهروا بقوة منذ بداية الألفية الثانية في شكل حركات مناهضة للفكر الديمقراطي، وأعلنوا العداء للمهاجرين في أوروبا والولايات المتحدة.
عزز هذه الأفكار الاستبدادية، التراجع المهين المطرد للديمقراطية الأمريكية ومساندتها للرجعية والفاشية والاستبداد، حتى لا تقدم مصالحها مع هذه الأنظمة على طبق من فضة لروسيا والصين، وهما أشرس المعادين بقوة للقيم الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، ومن هنا ظهر القادة والنواب المنتخبون على أسس ديمقراطية وهم يرفضون أسس النظام، في ظل هجومهم الدائم على الإعلام والمجتمع المدني ووسائل الاحتجاج المكفولة لاحترام الحق في التعبير عن الرأي، وغيرها واحدة تلو الأخرى.
دروس ترسيخ المسار الديمقراطي
لا يمكن إنشاء مؤسسات ديمقراطية ناشئة دون مؤسسية وتجذير عمليات الانتخابات وحماية حقوق الإنسان ووضع بذور إنشاء المجتمع المدني، حتى يُنظر إلى الديمقراطية على أنها أوفت بما وعدت به، من الحرية الشخصية والمشاركة في قرارات الحكومة والمساواة في الحقوق، فضلاً عن تأسيس لبنات النمو الاقتصادي، إذ إن الديمقراطية ليست دائمًا الدواء الشافي للتنمية الاقتصادية، وهو ما جهلته الكثير من البلدان العربية التي رسمت قواها السياسية حالة مثالية بناءً على تحقيق ديمقراطية الصندوق، وبعدما تعقدت الأمور وصار الناس يشككون في النظام الديمقراطي نفسه.
لم تنتبه البلدان العربية التي بدأت تشيطن الحراك الديمقراطي وتعيد إنتاج الرجل القوي، إلى كيفية حدوث التحولات الناجحة في الديمقراطيات الناشئة، خاصة أن البلدان العربية لم تكن في حاجة فقط للاقتصاد، ولكن لترسيخ نظام سياسي يعرف فيه الخاسرون كيف يخسرون السلطة ويفكرون بعدها في الانتقال المقبل، بدلاً من النزول إلى الشوارع أو اللجوء للدبابات، وبالتالي يبدأ المجتمع بطرق مبتكرة وراقية، في التخلص من ماضية الاستبدادي ويعيد صياغة شكل المؤسسات والعلاقات الاجتماعية والأشكال الثقافية التي تمدد حكم الشعب من الشعب ومن أجله.
هناك ما يسمى “علم اجتماع الديمقراطيات الناشئة” وهو مصطلح لم نسمع به قط طوال السنوات الماضية على الشاشات التي اهتمت في المقام الأول بتحفيز الصراع الأيدلوجي وتعزيز روح الانتقام بين الجميع، ولا نعرف ما الذي كان يفعله الساسة العرب طوال أعمارهم الطويلة في “النضال السياسي”، دون أن يعرف أي منهم معنى المقاربات الفئوية للديمقراطية وأفضل الأمثلة في كيفية نشرها بالبلدان وبأي شكل يمكن طرحها بشكل أفضل، من خلال تصور مبني على حصاد الدرجات وليس الفوز بكل مكتسبات العلامة الكاملة مرة واحدة.
لم يهتم أحد بتأسيس مجتمع تحظى فيه العلاقات السياسية بين الدولة ومواطنيها بمشاورات واسعة ومحمية وملزمة للطرفين، إذ يعتمد أي بلد لديه من يعي هذه العلوم، في تأسيس نظام ديمقراطي جديد، يقوم على تناقض صارخ وعداء أبدي مع كل أشكال الاضطهاد العلني والديكتاتوريات الفاشية والشمولية والعنصرية والدينية والعسكرية والإمبريالية، كما يعادي كل الأفكار الداعية للالتفاف على الديمقراطية مثل ما يسمى بالديمقراطية السيادية، على الطريقة الروسية التي تعيد إنتاج الفرد والحاكم الملهم، وهو النموذج المحبب الآن في الكثير من البلدان العربية، سواء في الملكيات الخليجية أم البلدان التي ارتدت عن الحصاد الديمقراطي ولجأت لأساليب أخرى تعرفها جيدًا وتحفظها عن ظهر قلب.
لم تدرس أي من القوى السياسية العربية، نموذج إسقاط سلوبودان ميلوشيفيتش في صربيا، وكيفية صياغة المؤسسات الديمقراطية وتطوير أفكار العدالة الانتقالية بعد الحرب
لم تلتفت بلدان المنطقة لكل التجارب الناشئة، ولم تهتم جماعة سياسة واحدة، بعد حصاد الربيع في 2011، بترويج النماذج التي رسخت الديمقراطية والعقبات التي واجهتها في البداية، رغم توافر العديد من التجارب الإنسانية الجديرة بالدراسة مثل التحول البولندي من الحكم الشيوعي في أوروبا وكيفية ترسيخ مقومات تنظيم المجتمع المدني، والتجربة البولندية تحديدًا كانت مصدر إلهام في الثمانينيات لتحول الكتلة السوفيتية القديمة التي تخلت عن الممارسات الاستبدادية وذابت في قيم الحداثة والديمقراطية.
لم تدرس أي من القوى السياسية العربية، نموذج إسقاط سلوبودان ميلوشيفيتش في صربيا، وكيفية صياغة المؤسسات الديمقراطية وتطوير أفكار العدالة الانتقالية بعد الحرب، كما لم تدرس ثورة جورجيا والثورة البرتقالية في أوكرانيا، حتى يفهم الجميع، متى تصبح الديمقراطية لغة وشكلاً من أشكال التعبير، خاصة أنها مرتبطة بتطور حقوق الإنسان في القرن العشرين، قبل أن تصبح مثالية وتحظى بالقبول في المجتمع العالمي، مما أضفى الطابع المؤسسي عليها في القانون الدولي.
لم تهتم الديمقراطيات العربية الناشئة، بتصدير الناشطين وصانعي السياسات الشباب الذين كانوا الطرف الأول في تفجير الثورات العربية إلى الخارج، لإقامة محادثات علمية مطولة مع أعضاء هيئة التدريس والطلاب في الجامعات المختلفة والأحزاب السياسية المعنية بالقضية، لتطوير حوار سياسي بين الفرقاء، ينزع القبلية والشمولية من أفكارهم، ويمدهم بالآليات التي تجعل مشروعهم القومي الأول، بناء الديمقراطية التي حلموا بها وجهلوا أسس بنائها، ويبدو أنهم لا يرغبون في التعلم حتى الآن.