تحيا العلاقات الأمريكية الأوروبية منذ وصول الرئيس دونالد ترامب للسلطة يناير/كانون الثاني الماضي واحدة من أكثر محطاتها التاريخية توترًا، حيث السير عكس عقارب الساعة، وبخطوات متسارعة، نحو تعميق الهوة بين الطرفين، وسط مخاوف من تداعيات هذا التوجه على مستقبل العلاقات بينهما بعدما وصلت إلى طريق شبه مسدود يضع استمراريتها على المحك.
فبينما يحيا المشهد الأوروبي حالة غليان وإرباك لكافة الحسابات إثر مساعي ترامب حلحلة الأزمة الأوكرانية، بشكل منفرد مع موسكو، بمعزل عن أوروبا وبما يضر بأمنها القومي، إذ به يُزيد الأوجاع مجددًا بإعلانه فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات السيارات وأشباه الموصلات والأدوية القادمة من مختلف البلدان ومنها دول الاتحاد الأوروبي، على أن تدخل هذه الخطوة التصعيدية، التي قد تهز أسواق التجارة العالمية، حيز التنفيذ في الثاني من نيسان/إبريل المقبل.
ويعتري الأوروبيون الكثير من المخاوف من تداعيات هذا العزف الأحادي من قبل الرئيس الأمريكي الذي لا يراعي أي مقاربات أو حسابات للحليف الأوروبي ومصالحه التي تواجه تهديدات لم تعرفها منذ عقود طويلة، الأمر الذي دفع الكثير من النخبة في القارة العجوز للتأكيد على ضرورة إعادة النظر في العلاقات الأوروبية الأمريكية ووضعها على طاولة النقاش لتقييمها في ضوء المستجدات الأخيرة.. فأي مصير محتمل تواجهه تلك العلاقات؟
وعود انتخابية كارثية.. إرهاصات توتر محتمل
خلال حملته الانتخابية رفع المرشح الجمهوري، الذي كان مستبعدًا بنسبة كبيرة خوض هذا الماراثون، شعارات شعبوية خالصة، أحدثت حالة من الترقب لدى الكثير من حلفاء الولايات المتحدة في العالم، وعلى رأسهم الحليف الأوروبي، أبرزها:
– إعادة النظر في الدعم المقدم لأوكرانيا، فلطالما انتقد ترامب سياسة سلفه جو بايدن الداعمة لكييف في حربها مع موسكو، حيث كان لا يرى في تلك المعركة أي مصلحة لبلاده، هادفًا إلى خفض المساعدات الاقتصادية والعسكرية الموجهة لها منذ بداية الغزو الروسي في فبراير/شباط 2022، والتي بلغت حتى نهاية 2024 قرابة 175 مليار دولار بما يعادل 7% من إجمالي ميزانية الدفاع الأمريكية خلال تلك الفترة.
– تعزيز الحمائية التجارية الأمريكية من خلال إعادة النظر في العلاقات الاقتصادية مع أوروبا، ومعالجة العجز التجاري لبلاده، عبر رفع الرسوم الجمركية على الواردات الأوروبية بنسبة تتراوح بين 10 و20%، والصينية بـ60%، فبحسب بيانات وزارة التجارة الأمريكية فقد بلغت العجز التجاري الأمريكي مع الاتحاد الأوروبي خلال عام 2023 نحو 124 مليار دولار (إجمالي تجارة السلع والخدمات مع الاتحاد الأوروبي بلغت 1.36 تريليون دولار في 2023، من بينها صادرات أميركية بقيمة 620 مليار دولار، وواردات بقيمة 743.3 مليار دولار).
– إعادة تقييم منظومة الدفاع المشترك والإنفاق العسكري مع الناتو ودول أوروبا، ففي الولاية الأولى وجه ترامب انتقادات حادة لحلف شمال الأطلسي، مطالبًا قادة الدول الأوروبية بزيادة إنفاقها الدفاعي على الحلف (تنفق أوروبا حوالي 380 مليار دولار سنويًا على الدفاع، في مقابل 968 مليار دولار تنفقها أمريكا) حيث وجه حينها رسالة إلى ألمانيا بقيادة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل- طالبها فيها بزيادة إنفاقها الدفاعي إلى 2% وإلا سيواجه التحالف أزمات عاصفة مستقبلًا.
صدام مبكر مع الحليف التاريخي
تعامل الأوروبيون مع تهديدات ترامب أثناء حملته الرئاسية على أنها وعود انتخابية، تتناغم شكلًا مع شعاره الشعبوي “أمريكا أولًا”، مستبعدين بشكل أو بأخر تنفيذها بالطريقة والكيفية التي تحدث بها، خاصة وأنها كانت في إطارها الشعاراتي البحت دون أي خطط أو منهجيات قابلة للتنفيذ.
وما إن فاز ترامب باكتساح في الماراثون الانتخابي حتى انهالت عليه التهاني والتبريكات من قادة أوروبا وزعمائها، آملين في فتح صفحة جديدة من العلاقات البناءة، المتسقة مع التاريخ والقواسم المشتركة بين الطرفين، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، وتحول الحلم إلى كابوس يؤرق أوروبا بأكملها.
وفي غضون أقل من شهر على تسلمه السلطة نجح ترامب في توسيع الهوة مع أوروبا من خلال حزمة من القرارات والإجراءات والتصريحات الصادمة والتي أثبت من خلالها رغبته وإصراره على تحويل وعوده الانتخابية إلى واقع على الأرض:
أولًا: تصعيد التوترات الاقتصادية مع أوروبا
دومًا ما شكى الرئيس الأميركي منذ عهدته الرئاسية الأولى من “عدم تكافؤ الرسوم المفروضة على السيارات القادمة من الأسواق الخارجية من جهة، والمعاملة التي يصفها ترامب بغير العادلة، لصادرات السيارات الأميركية في الأسواق الأجنبية من جهة ثانية”، حسبما نقلت وكالة “رويترز”، مستشهدًا بمنظومة التجارة مع الاتحاد الأوروبي كمثال على تلك المعاملة غير العادلة حسب وصفه، فبينما يفرض الاتحاد الأوروبي رسومًا جمركية بنسبة 10% على واردات المركبات، فإن الولايات المتحدة تكتفي بفرض رسوم جمركية بنسبة 2.5 %.
وفي هذا السياق، ورغم التحذيرات الأوروبية المتتالية من تداعيات هذا التوجه على حركة التجارة العالمية، هدد ترمب بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع واردات الصلب والألومنيوم من أوروبا، اعتبارًا من 12 مارس/ آذار المُقبل، استتبعها برسوم إضافية وبنفس النسبة على واردات السيارات وأشباه الموصلات والأدوية بداية من أبريل/نيسان القادم.
ترامب: سأعلن فرض رسوم جمركية على السيارات وأشباه الموصلات والرقائق والأدوية وربما الأخشاب خلال الشهر المقبل أو في وقت أقرب
— سكاي نيوز عربية-عاجل (@SkyNewsArabia_B) February 19, 2025
هذه الرسوم من شأنها أن تُربك الاقتصاد الأوروبي وتكبده خسائر فادحة (تقديرات الخسائر المحتملة للقارة الأوروبية جراء هذه الرسوم تتراوح بحسب بعض التقديرات بين 200 و350 مليار دولار)، الأمر الذي دفع مفوَّض التجارة في الاتحاد الأوروبي ماروس سيفكوفيتش لعقد اجتماع، الاربعاء 20/2/2025، مع وزير التجارة الأمريكي هوارد لوتنيك، وبعض المسؤولين الأمريكيين على رأسهم، مرشح ترمب لمنصب الممثل التجاري الأميركي جيمسون غرير، ومدير المجلس الاقتصادي الوطني كيفن هاسيت، وذلك لمناقشة التعريفات الجمركية التي لوح الرئيس الأمريكي بفرضها والتحذير من تأثيرها على حركة التجارة العالمية والأوروبية تحديدًا.
ثانيًا: الحرب الأوكرانية ومستقبل أمن القارة العجوز
على الجبهة الأوكرانية، سار ترامب في الطريق الذي لوَح به خلال حملته الانتخابية، إنهاء الحرب في أقرب وقت، حيث بدأ مفاوضات مباشرة مع موسكو بشان هذا الملف، متجاهلًا أوروبا ومستبعدًا إياها من تلك المباحثات، ففي مؤتمر ميونيخ للأمن في ألمانيا الذي اختتم أعمال دورته الحالية الأحد 16 فبراير/شباط الجاري، ألقى نائب الرئيس الأميركي جاي دي فانس خطابًا أقل ما يوصف به بأنه “قاس وحاد” هاجم فيه الأوروبيين، حكومات واتحاد، مؤكدًا أن بلاده تدرس إجراء مفاوضات بشأن أوكرانيا من دون أوروبا.
وبسؤاله عن احتمالية مشاركة الأوروبيين في تلك المفاوضات، أجاب المبعوث الأميركي الخاص إلى أوكرانيا كيث كيلوغ بشكل صريح ودون أن يترك الباب لأي مقاربة “أنا جزء من المدرسة الواقعية، وأعتقد أن هذا لن يحدث”، وهو ما تم بالفعل، إذ غاب الأوروبيون عن أول جولة مفاوضات أجرتها الولايات المتحدة وروسيا في السعودية الثلاثاء 19/2/2025.
لم يكتف ترامب باستبعاد أوروبا من مسار التفاوض حول إنهاء الحرب مع روسيا وفقط، بل مارس ضغوطا قاسية على الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي لتقديم المزيد من التنازلات لإنهاء القتال، بما فيها التنازل عن بعض الأراضي الأوكرانية التي احتلتها موسكو منذ عام 2014، الأمر الذي يضع أوروبا في مرمى أطماح بوتين مباشرة، وهو ما أثار الرعب والقلق لدى الأوروبيين.
وفي أول رد فعل على هذا التغريد الترامبي الأحادي دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لعقد قمة طارئة لزعماء القارة في باريس، الاثنين 17/2/2025، لبحث هذا الملف وتداعياته على الأمن الأوروبي، وهي القمة التي انتهت على انقسام حاد في المواقف حول إنهاء الحرب وإرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا، مع التعهد بمواصلة الجهود المكثفة للتوصل إلى حلول عملية لحماية الأمن الأوروبي من طموحات بوتين حال إبرامه سلام مع نظيره الأمريكي لا يراعي المصالح الأوروبية.
ثالثًا: الدفاع الأوروبي والإنفاق العسكري
لم ينس الأوروبيون هجوم ترامب على الناتو والاتحاد الأوروبي خلال ولايته الأولى، ومطالبته لهم بتحمل الجزء الأكبر من ميزانية الدفاع داخل الحلف، أو على الأقل مشاطرة الولايات المتحدة التي تتحمل الجزء الأكبر من تلك الميزانية في مسؤولياتها والتزاماتها المادية، وإلا ستضطر واشنطن لإعادة النظر في سياستها العامة إزاء هذا الملف الذي تحول إلى كابوس يؤرق مضاجع العواصم الأوروبية بلا استثناء.
وكان ترامب قد طالب أوروبا بزيادة إنفاقها العسكري في حلف الناتو ليصل إلى 900 مليار دولارسنويًا، بدلًا من 380 مليار دولار، ليقترب نسبيًا من حصة الولايات المتحدة التي تصل إلى 968 مليار دولار، وهو ما مثل ضغطًا ماليًا وعسكريًا كبيرًا على دول القارة التي تعاني من أزمات اقتصادية قاسية خلال السنوات الأخيرة.
ويرى الرئيس الأمريكي أن دعم الحلفاء في أوروبا عبر الإنفاق العسكري هو مسؤولية تقع على عاتق الحكومات الأوروبية في المقام الأول، في المقابل يرى الأوروبيون أن السياسات التي يتبعها ترامب ستضعهم في موقف الدفاع، وتجبرهم على إعادة النظر في سياسات التصنيع العسكري وتوطين تلك الصناعات بما يقلل نسبيًا من اعتماد الناتو على الدعم الأمريكي مستقبلا، وهو المسألة التي تحتاج إلى وقت طويل وكلفة مالية مرتفعة.
وأحدثت مواقف ترامب الأخيرة حالة تفسخ واضحة في جدار الناتو والاتحاد الأوروبي، حيث بدأت الدول الشرقية المجاورة لروسيا، والتي تقع على حافة الخطر وفي دائرة الصراع مع موسكو، في تبني توجهات تدعم الاستقلال العسكري والدفاعي، في مقابل خفوت وتلكؤ لدى أوروبا الوسطى والغربية، الأقل استشعارًا للخطر، وكان المستشار الألماني أولاف شولتس قد كشف أن بلاده باتت تنفق بالفعل ما يفوق نسبة الـ 2% من ناتجها المحلي الإجمالي، كما طالب الرئيس الأمريكي، إلا أنه ليس واضحًا مدى استعداد باقي الدول الأوروبية للالتزام بهذه النسبة.
مصدر تقسيم لا توحيد
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ساعدت الولايات المتحدة في إعادة بناء أوروبا وتعزيز التعاون الاقتصادي داخل الاتحاد الأوروبي لإنهاء النزاعات القومية في القارة، وظلت لعقود طويلة ركيزة أساسية في توحيدها وتصديها لكافة مخططات التقسيم، لكن اليوم ربما يتغير الأمر، فهناك من يرى أن ترامب يحاول تمزيق أوروبا وتقوية موقف الكرملين.. هذا ما أشار إليه الكاتب المخضرم، مايكل بيرنباوم، مراسل صحيفة “واشنطن بوست” لدى البيت الأبيض.
بيرنباوم الذي عمل سابقًا مديرًا لمكتب الصحيفة في موسكو ومراسل لها في برلين، كشف في تحليل له تصاعد المخاوف الأوروبية من تداعيات سياسات ترامب على وحدة ولحمة التكتل الأوروبي، لافتًا أن ولاية الرئيس الأمريكي هذه المرة مختلفة عن ولايته السابقة، وهو ما تكشفه الأسابيع الأربعة الأولى منها والتي تثير القلق مما هو قادم.
وفي هذا السياق يقول الرئيس الفنلندي ألكسندر ستوب: “قبل أربعة أسابيع، كان هناك بعض التفاؤل مع دخول ترامب إلى البيت الأبيض، لكن التطورات الأخيرة تدفعنا لمزيد من الحذر، رغم ذلك، يجب أن نكون واقعيين ونبحث عن مسار إيجابي للمضي قدمًا”، ليتفق معه في هذا الرأي الدبلوماسي الأمريكي السابق، جيفري راثكي، رئيس المعهد الأمريكي-الألماني بجامعة جونز هوبكنز الذي قال إن العديد من الأوروبيين “يشعرون بالتوتر والإحباط وحتى القلق العميق”.
أما السيناتور الديمقراطي الأمريكي آندي كيم، والذي عمل سابقًا في وزارة الخارجية الأمريكية، فيرى تحولا كبيرًا في السياسة الأمريكية إزاء تماسك أوروبا، لافتا في تصريحات له على هامش مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن بألمانيا قبل أيام أنه “على مدار قرن من الزمن، كانت القيادة الأمريكية تُنظر إليها على أنها عامل استقرار، لكن الآن، لا يقتصر الأمر على اختفاء هذا الدور، بل إنه يتحرك في الاتجاه المعاكس، مضيفًا “لقد أصبحنا مصدرًا لعدم الاستقرار والقلق، حتى بين حلفائنا. السؤال الآن هو: ما قيمة الالتزام الأمريكي؟ هنا في ميونيخ، لا يبدو أن لهذا الالتزام قيمة، لأن الناس لم يعودوا يثقون به، حتى لو تم التوصل إلى اتفاق”
في السياق ذاته تتصاعد مخاوف الأوروبيين من مخاطر تفشي الشعبوية في القارة، فبعد النجاح الكبير لترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يٌخشى من إحياء الفكر الشعبوي المتطرف في العالم كما حدث عند ولايته الأولى 2016، وفي ظل توجهاته الصادمة في تعاطيه مع ملفات الهجرة والأمن ليس من المستبعد أن يتحول إلى أيقونة لدى المواطن الأوروبي الذي يطرق كافة الأبواب للخروج من مأزقه الاقتصادي الحالي، مما يجعله أكثر ميلا نحو التيارات اليمينية المتطرفة والشعبوية في أوروبا، الأمر الذي سينعكس بطبيعة الحال على الاستقرار الداخلي والتماسك المجتمعي خاصة إذا تفجرت حالة من الاستقطاب السياسي – وهو المرجح- بين أنصار اليمين المتطرف ومعارضيه.
أمريكا وأوروبا.. أزمة ثقة
بتلك المتوالية وبذات السرعة التي يسير بها الرئيس الأمريكي في ترجمة سياسته الحمائية إلى قرارات وإجراءات رسمية يبدو أن العلاقات بين الولايات المتحدة ودول أوروبا على موعد مع مرحلة جديدة من التوتير وعدم اليقين والدخول في نفق مظلم من الضبابية والغموض، وسط مخاوف من إعادة تشكيل الخارطة الدولية وموازين القوى بها.
ومع ذلك فليس شرطًا أن يلتزم ترامب بتنفيذ ما اتخذه من قرارات تصعيدية ضد أوروبا وغيرها، فقد يضطر نهاية الأمر إلى تعليقها أو تجميدها أو إرجائها كما حدث مع الرسوم الجمركية التي فرضها على المكسيك من قبل، فعلى الأغلب يوظف ساكن البيت الأبيض مثل تلك الإجراءات كأوراق ضغط يساوم بها للحصول على المزيد من التنازلات من الدول المستهدفة، بما يخدم مصالحه السياسية ومصالح بلاده من وجهة نظره.
في المحصلة.. وبصرف النظر عن إدخال تلك القرارات حيز التنفيذ من عدمها، فإن ما حدث يمثل شرخًا كبيرًا في جدار الثقة بين أمريكا وأوروبا، وهو الشرخ الذي سيكون له ما بعده على مستقبل العلاقات بين الطرفين، ودفع السيناتور الأمريكي مارك وارنر للتساؤل: “إذا لم يكن هناك أساس من الثقة والتحالف، وأصبحت كل علاقة مع أمريكا مجرد صفقة مؤقتة، فهل يمكن للناس أن يثقوا بنا بعد الآن؟”