إصدار الكتاب الأول لأي كاتب قد يكون محفوفًا بالمخاطر، وأكثر الأسئلة التي تدور بذهن الكاتب هي: ماذا لو كرهوه؟ كم شخصًا سيقرأه؟ هل سيستغرق الكثير من الوقت حتى يعرفه الناس؟ لكن هذا لم يحدث مع “إليانور أولفنت بخير كُليًّا” للكاتبة “غيل هانيمان”.
كل ما كنت أفكر فيه عندما أنهيت هذه الرواية هو: كيف يمكن للرواية الأولى لأحد الكتاب أن تصل إلى هذه الدرجة من الإبداع.
لكن قبل الدخول في تفاصيل الرواية، دعونا أولًا نتعرف على الكاتبة.
من تكون “غيل هانيمان”؟
“غيل هانيمان” Gail Honeyman كاتبة إسكتلندية من مواليد 1972، في طفولتها كانت قارئة شرهة، درست اللغة الفرنسية وآدابها في جامعة “غلاسكو” قبل مواصلتها للتعليم في جامعة “أوكسفورد” للدراسات العليا عن طريق الالتحاق بدورة في الشعر الفرنسي، لكنها قررت أن الحياة الأكاديمية ليست لها، وبدأت في التسلسل في عدد من الوظائف المكتبية.
خلال عملها في وظيفة إدارية بجامعة “غلاسكو” التحقت هانيمان بدورة في الكتابة تابعة لأكاديمية “فابر” Faber، مُقدمة الفصول الثلاثة الأولى من أول أعمالها “إليانور أولفنت بخير كُليًّا”Eleanor Oliphant is completely fine ، في مجال الروايات الخيالية غير المنشورة للنساء، التي تديرها كلية “لوسي كافنديش” Lucy Cavendish التأسيسية بجامعة كامبردج، وقد وصلت للقائمة القصيرة الخاصة بالجائزة، وجائزة “بريدبورت” Bridport، كذلك أُدرجت في القائمة الطويلة لـ”راديو بي بي سي4″.
حازت الرواية جائزة “كوستا للكتاب” Costa Book Awards عن فرع “الرواية الأولى” لعام 2017، ومنذ حصولها على الجائزة لمع نجمها، وبدأت العديد من الصحف والمجلات في إجراء حوارات معها مشيدين بعبقرية عملها الأول، كما أن الرواية أصبحت في وقت قصير من الكتب الأكثر مبيعًا، وقد نشرتها Penguin Random House.
لم تكن هذه النهاية بالنسبة إلى إليانور أوليفنت Eleanor Oliphant فقد صرحت عدد من الجرائد العالمية بتعاون الممثلة العالمية المبدعة ريز ويذرسبون Reese Witherspoon مع “إم جي إم” MGM لإنتاج نسخة فيلم مقتبسة عن رواية هانيمان، وبدأت كاتبة السيناريو الشهيرة “ليز هانا”Liz Hannah في العمل على الفيلم.
تقول ويذرسبون عن الرواية: “لقد ابتكرت غيل شخصية ذكية بشكل لا يصدق، مضحكة وغريبة الأطوار بشكل يثري الإنسانية، فرحلة البطلة إليانور عادية تمامًا، وأنا في غاية الحماس لإحياء تلك الشخصية على الشاشة”.
عن أي شيء تحكي تلك الرواية المُبهرة؟
تتحدث الرواية عن إليانور أولفنت امرأة في نهاية عقدها الثاني، تعيش وحدها، لديها بعض الحروق فوق وجهها لا ندري سببها، لها روتينها الخاص الذي تسير به في العالم، وحيدة لكنها لا تدرك ذلك، مرضها النفسي يشكل عائقًا بينها وبين تكوين الصداقات، فهي لا تتحدث إلى أحد، وإن تحدثت فهي تبدو وقحة، لكن يبدأ التغير عندما تقع في حُب أحد المطربين المغمورين وتبدأ في تتبعه.
عدم تعامل إليانور مع الأشخاص المحيطين بها يجعلها لا تفهمهم، فنجدها تتعجب في أحد المواقف عندما يُخبرها زميلها أنه ليس عليها الحضور لحفل ما في الموعد المحدد لأن الناس دائمًا تصل إلى الحفلات بعد مرور نصف ساعة أو أكثر، وليس جيدًا أن تكون أول الحاضرين.
تتعجب إليانور من الطريقة التي يتعامل بها البشر وافتقارهم للصراحة، لماذا لا يقولون ما يرغبون به؟ لماذا لم يخبروها أن تصل في الموعد المحدد بالضبط؟
في الرواية تتعلم إليانور شق طريقها في الحياة، لا فقط “العيش”، وتلك الحياة الوحيدة تبدأ في التفتح مع مواقف غريبة، فهي امرأة ترتدي الملابس ذاتها، لا تضع المكياج، تتناول الوجبة ذاتها كل يوم.. إنها نحن.. العابرون في الحياة دون وجه.
استخدمت هانيمان شخصية إليانور الغريبة في السخرية من العادات الاجتماعية الغريبة التي يظنها الجميع طبيعية ومعروفة لكنها ليست كذلك
إليانور أولفنت تصبح وجهنا، نستطيع الربط بينها وبين صفاتنا الخاصة ولو في موقف وحيد على الأقل، نضع أنفسنا مكانها ونتخيل أن تصرفاتها منطقية جدًا لأننا نشعر بالوحدة بالتأكيد.
طفولة إليانور لم تكن سهلة، خصوصًا في وجود أمها التي تهتم بالمظهر لدرجة كبيرة، بما يُقال وما لا يُقال، بما يُظهره الناس وما يحتفظون به لأنفسهم، لهذا تقع في غرام ذلك المطرب المغمور، لأنها تراه “رجلاً نبيلاً” كونه لا يغلق الزر الثاني في معطفه! كما أخبرتها أمها يومًا أن تلك الصفة هي للرجال النبلاء، لهذا توقعت أنه ما عليه إلا أن يراها حتى يُدرك أنها توأم روحه! من هُنا تبدأ إليانور Eleanor في تغيير حياتها الروتينية وكسرها في محاولة منها للحصول على ذلك الرجل الغريب.
لقد استخدمت هانيمان شخصية إليانور الغريبة في السخرية من العادات الاجتماعية الغريبة التي يظنها الجميع طبيعية ومعروفة لكنها ليست كذلك، أيضًا ركزت على تحول المرأة وطريقة نظر الرجال لها في المواقف المتنوعة.
إن الكوميديا الممزوجة بالمواقف السوداوية في الرواية تؤرجحنا بين الضحك والبكاء، خصوصًا كون الكاتبة شرحت حالة الإنكار التي أصابت البطلة بشكل جيد، فهي لا تحتاج لأحد، كما أنها لا تستطيع رؤية كم حياتها فارغة وبلا معنى ومحزنة، وأيضًا محادثتها الأسبوعية مع أمها التي تزود القصة بشخصية مروعة دُمجت بذكاء في الأحداث مزيدة من التشويق.
إن إليانور أولفنت مشابهة لنا، إنها امرأة ليست بخير تمامًا، لكنها واحدة من أكثر البطلات إثارة للغرابة والتفكير في الرواية الإسكتلندية المعاصرة.